ويعتبر الكثيرين أن التقليد الشفاهى “Oral Tradition’ لحفظ هذا الكم الكبير من الألحان القبطية يعد معجزة ساعد على وجودها إصرار الكنيسة القبطية التقليدية على عدم التفريط في كل ما تسلمته من الآباء الرسل دوني أدنى حيود عنه، بل يذهب البعض إلى أن بقاء تراث الألحان القبطية طيلة هذه القرون، ويفوق أو يضاهى معجزة وبقاء آثارنا الفرعونية.
القيمة الروحية للألحان القبطية
ولعل تمسك الكنيسة القبطية بهذه الألحان كمبدأ تسبيحي يرجع سببه إلى أن السيد المسيح نفسه سبح مع تلاميذه الأطهار، إذ أنه في العلية، وبعد أن أعطاهم جسده المقدس ودمه الذكي الكريم، يذكر القديس مرقس الإنجيلي، أنهم أيضاً “كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله” (لو24: 53). لهذا جعلت الكنيسة الألحان تشغل مساحة زمنية كبيرة جدا من الصلوات الطقسية، حتى أن الكاهن يصلي باللحن، والشماس ينادى وينذر باللحن، والشعب يستجيب ويشترك باللحن، والرسائل يقدم لها باللحن، والمزمور يقرأ باللحن وكذلك الإنجيل.
القيمة الموسيقية للألحان القبطية
وعندما قام الباحثون بدراسة الموسيقي القبطية، وجدوا أنها تخضع للقواعد الموسيقية من حيث الأوزان والضروب (الإيقاعات) والمقامات والقفلات الموسيقية والتكوين السليم المتوازن للجملة الموسيقية. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى القديس “مارمرقس” الرسول الذي يعتبر أول ب من بشر مصر حسب التقليد المقدس ، وأسس مدرسة اللاهوت بالإسكندرية التي تعلم فيها كبار الفلاسفة وتخرج منها الكثير من البطاركة، والتي كان يدرس فيها العلوم الموسيقية.
والألحان القبطية غنية بالمقامات (السلالم) الموسيقية وبها تحولات وانتقالات بين السلالم الموسيقية تشير إلى عبقرية الذين صاغوها، كما تحتوى على تغيرات في السرعات والإيقاعات تجعلها تأخذ مرتبة الريادة بين موسيقات الشعوب.
وتتميز الألحان القبطية بأنها ألحان تعبيرية، تشرح معاني الكلمات الروحية بالتصوير النغمي، الذي قد يتزايد ويعلو وينخفض، وهو الأسلوب المميز للألحان القبطية والذي يسمي “بالإطناب النغمي” أو الميليسما Millisma آي تعدد النغمات على حرف لفظي واحد، كما أنها تنفرد بأسلوب استخدام الحرف اللفظي للربط بين جملتين موسيقيتين.
أساليب التسبيح بالألحان القبطية
وتتنوع أساليب الأداء لهذه الألحان بين أسلوب التسبيح في خورسين بحري وقبلي والذي يسمى بالانتيفونا Antiphonal Signing وأسلوب التسبيح التجاوبي، أي بأن يجاوب الشعب أو الخورس على الكاهن أو المرتل، ويسمي بالتسبيح الريسبونسريالى Responsorial وهو الأسلوب الذي أدى إلى ظهور المغنى الفرتيوز Virtuose خارج الكنيسة. كما يوجد أيضا التسبيح الفردي Solo، والتسبيح الجماعي. إن هذا التنوع في أساليب الأداء يساعد على وصول المضامين الروحية المختبئة بين النغمات.
الآلة الموسيقية واللحن القبطي
لا يصاحب هذه الألحان في الليتورجيا المقدسة أية آلات موسيقية، وهو أسلوب عرف في الكنيسة القبطية وانتشر في العالم باسم “أكابيلا “Acappella” الأسلوب الذي اشتهر به الموسيقار “باليستريا” في القرن السادس عشر. وقد يصاحب الألحان الفرايحى، آلة الناقوس Cymbals والمثلث Triangle لضبط الإيقاع، ولإعلان حالة الفرح التي تعيشها الكنيسة في هذه المناسبة. إلا أنه يمكن تقديم هذه الألحان بالآلات الموسيقية خارج الليتورجيا المقدسة، إذ أوصي داود النبي بذلك في مزاميره، عندما قال: “سبحوه بصوت الصور سبحوه برباب وعود، سبحوه بدف… سبحوه بأوتار ومزمار…” (مز 150: 3).بل أن داود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو بالعيدان وبالرباب وبالدفوف وبالجنوك وبالصنوج” (2صم 6: 5).
بل كان داود حريصا أن تستيقظ آلاته الموسيقية معه لتبدأ معه التسبيح، لذا يقول لها: “استيقظي أيتها الرباب والعود، أنا أستيقظ سحرا” (مز108: 2) أيضا العهد الجديد يعلن أن التسبيح في السماء سيكون بالآلات الموسيقية (نورانية)، إذ كتب القديس يوحنا اللاهوتي قائلاً “ورأيت كبحر من زجاج مختلط بنار والغالبين على الوحش وصورته وعلى سمته وعدد اسمه واقفين على البحر ومعهم قيثارات الله…” (رؤ15: 2).
ويفسر البعض منع استخدام الآلات الموسيقية في العهد الجديد بأن الرعايا لم تستطع أن تشترى آلات غالية الثمن، كالتي استخدمت في العهد القديم، لأن الكنائس في العهد الجديد، كانت دائمة الانتقال لسبب الاضطهاد، لذا لم يكن لها وقت لتطوير الموسيقي أو لتدريب الموسيقيين.
ويعلل أحد الباحثين عدم استخدام الآلات الموسيقية بالكنيسة بأن الطبيعية المعمارية لكنائس العصور الأولى والتي كانت تبني تحت الأرض هربا من الاضطهاد كانت لا تسمح للألحان أن تؤدى إلا بالأصوات البشرية فقط، ومن المستبعد أن تكون الآلات الموسيقية خاصة الإيقاعية قد استخدمها هؤلاء المضطهدون الذي يصلون ويتعبدون وهم مهددون بالموت في أية لحظة.
إنما الأب متى المسكين في كتابه “التسبحة اليومية، يؤكد أن الأقباط تسلموا من النساك اليهود المتنصرين طريقة التسبيح بالناي (المزمار) Flute في اجتماعاتهم العامة المسماة “الأغابي”، وأنهم ظلوا يستخدمون الناي حتى سنة 190م، حينما أوقف كليمندس الإسكندري الناي واستبدله بالناقوس Cymbalon.
تأثر اللحن القبطي بالفرعوني
مما لا شك فيه أن اللحن القبطي “فرعوني الأصل” إذ أنه من الطبيعي جدا أن الفراعنة المتخصصين في موسيقي الآلهة بأسرارها الفرعونية، عندما دخلوا الإيمان المسيحي، لم يستطيعوا أن يتخلصوا من الموسيقي الفرعونية التي كانت قد عاشت في وجدانهم، وامتزجت بكل مظاهر حياتهم، واختزنت في عقلهم الباطن، فصاروا يصيغوا بالروح القدس الذي ملأهم، ألحانا جديدة، ربما حوت بين طياتها بعض الخلايا الموسيقية Themes الفرعونية، أو بعض السلخات الموسيقية التي يسلخها اللاشعور من الجمل الموسيقية المختزنة في العقل الباطن –والتي يصدرها إلى الواعي عندما تتوافق المشاعر والأحاسيس المراد التعبير عنها، مع المخزون الموسيقى الغير المدرك- ثم تذوب هذه الخلايا الموسيقية Themes الفرعونية، مع الجمل الجديدة لينتج نسيجا موسيقيا جديدا مؤتلفا، يصبغه الروح القدس بصبغة قبطية مسيحية.
ولعل الرأي يتفق مع ما كتبه العلامة “الفارابي” في كتابه الشهير “الموسيقي الكبير”، عندما أكد أن الموسيقي لا تخلق من العدم.
ومن المعروف أن بعضا من هذه الألحان يحمل أسماء لمدن مصرية قديمة اندثرت منذ زمن بعيد –مثل اللحم المسمي بالـ “السنجاري” وهو اسم لمدينة مصرية بشمال الدلتا يرجع زمانها إلى زمن رمسيس الثاني، وكذلك اللحن الإدريبي “كي ايبرتو” والذي يتكرر كثيرا في أسبوع الآلام، والذي ينسب إلي بلدة “أتريب” التي تقع في شمال بنها، والتي كان يوجد بها كاتدرائية لها أثني عشر هيكلا.
ويؤكد “ديمتريوس الفالرونى” في عام 297 ق.م. وهو أحد أمناء مكتبة الإسكندرية “أن كهنة مصر كانوا يسبحون آلهتهم، من خلال السبعة حروف المتحركة التي كانوا يأخذون في الغناء بها الواحد تلو الآخر، وكان ترديدهم بهذه الحروف، ينتج أصواتا عذبة” ويتضح مما قاله “ديمتريوس الفالرونى” أن الإطناب النغمي هو أسلوب في الغناء كان موجودا أيام الفراعنة، وقد أمتد إلى الكنيسة القبطية كأسلوب وليس كألحان بذاتها.
وهناك أسماء لبعض الآباء القديسين، ذكر التاريخ أنهم من بين الذين وضعوا وصاغوا ألحانا قبطية مثل “ديديموس الضرير” والقديس “أثناسيوس الرسولي” الذي يقال أنه الذي وضع اللحن الرائع “أومونوجينيس” “أيها الابن الوحيد الجنس” والذي يقال في صلاة الساعة السادسة من يوم “الجمعة العظيمة” الفيلسوف “فيلو” ذكر في موضع آخر، أن جماعة المسيحيين الأولين قد أخذوا ألحانا من مصر القديمة ووضعوا لها النصوص المسيحية، وأن من بين هذه الإلحان لحن “غولغوثا” الذي يرتله الفراعنة أثناء عملية التحنيط وفي مناسبة الجنازات، ولحن “بيك إثرونوس” الذي نصفه يشتمل على نغمات حزينة تردد لوفاة الفرعون، والنصف الآخر يشتمل نغمات مبهجة “فرايحي” تردد لتنصيب الفرعون الجديد.
تأثر اللحن القبطي والعبري بالآخر
وقد تأثر كل من اللحن القبطي والعبري بالآخر، ففي سفر “الخروج” مكتوب “وهذه أسماء بني إسرائيل الذين جاءوا إلى مصر. مع يعقوب جاء كل إنسان وبيته. رأبين وشمعون ولاوى ويهوذا. ويساكر وزبولون وبنامين. ودان ونفتالي وجاد واشير. وكانت جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفسا. ولكن يوسف كان في مصر… وأما بنو إسرائيل فأثمروا وتوالدوا ونموا وكثروا كثيرا جدا وامتلأت الأرض منهم”.
ومما ذكره سفر الخروج يتبين أن شعب بني إسرائيل بأسباطه الإثنى عشر، قد عاشوا بمصر وسمعوا ألحان مصر الفرعونية لمدة أربع مئة وثلاثين سنة هى مدة إقامة شعب بنى إسرائيل بمصر حسب نص سفر الخروج (خر12: 40)، ومما لاشك فيه أنهم خلال 430 سنة، استطاع نحو ست مئة ألف رجل غير الأولاد من شعب بني إسرائيل الذين رحلوا من “رعمسيس”، أن يحفظوا فيها الكثير من الألحان المصرية القديمة، وأن يتأثروا بها وأن تعيش فى وجدانهم. وأن يتعرفوا على مقاماتها وأبعادها، وضروبها وإيقاعاتها وموازينها وقالبها وصيغها المختلفة. وأن يرحلوا بها من أرض مصر، حامليها فى بوتقة مشاعرهم، وفى ذكرياتهم، وفى طقوس عبادتهم.
وفي الاتجاه الآخر، نجد أن القديس “مرقس” الرسول الذي عاش فترة بين نغمات “داود” البيت لحمي، وهي يتردد صداها في المجامع اليهودية، وفي العلية المقدسة على شفتي السيد المسيح، “يسوع بن داود” ويرددها خلفه الإثني عشر تلميذ، عندما سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون، لابد أيضا أن هذه الألحان بكل تفصيلها اللحنية، قد حملها القديس “مرقس” الرسول إلى مصر، وكان يرددها وهو يسير في الطريق إلى مصر، ليتغلب بها على مشقة هذا الطريق الطويل الصعب، الذي تهرأ فيه حذاؤه. ولابد أيضا أنه عندما أسس “مدرسة اللاهوت” بالإسكندرية –وجعل يدرس بها الموسيقى إلى جوار العلوم اللاهوتية- أنه درس بها هذه الألحان، وأنه وضع بعضا منها في القداس الإلهي الذي كتبه، والذي يعتبر أقدم قداسا غرفته الكنيسة القبطية.
ومما سبق يتضح لنا أن اللحن القبطي واللحن العبري قد امتزجا معا وتأثر كل منهما بالآخر