جمال الطقس القبطي

ما يميز الطقس القبطي:
1- التقليد الرسولي: تفتخر الكنيسة القبطية بنشأتها الرسولية الَّتي تعود إلى القديس مرقس، تلميذ الرسول بطرس مؤسس كنيسة روما. كما يتضح من صلواتها أنها صلوات وضعها بطاركة وقديسون العصور المسيحية الأولى فمثلاً: قداس ق باسيليوس… قداس ق غريغوريوس… قداس ق كيرلس… وفي هذا تأكيد على أهمية التقليد في حياة وصلوات الكنيسة القبطية.
2- علاقته بالحياة: تنبع الطقوس من الحياة، والطقس القبطي مرتبط بطريقة شديدة بحياة الشعب وبمواسم السنة، (مثلاً: أواشي المياه… والزرع… والأنهار…).
4- الإنثقاف: فالطقس القبطي هو امتداد للطقوس الفرعونية القديمة بمعنى أن المصريين عندما اعتنقوا المسيحية، بفضل تبشير ق مرقس، تعمدوا باسم الثالوث القدوس، وفي الآن ذاته عمدوا طقوسهم وألبسوها ثوباً مسيحيا… أو بكلمة أخرى قاموا بعمل إنثقاف لطقوسهم فجعلوها طقوساً مسيحية قلبا وقالبا…
5- الصيغة الجماعية: تأتي أغلب الصلوات بصيغة الجمع (مثلا: فلنشكر الله لأنه أعاننا وحفظنا وقبلنا وأشفق علينا وعضدنا وأتي بنا إلى هذه الساعة… نؤمن… يارب اغفر لنا ذنوبنا… يارب ارحمنا…اجعلنا كلنا مستحقين…). وفي ذلك تشبهاً بصلاة “الأبانا” الَّتي علمها يسوع لتلاميذه، وتأكيداً على كون المؤمنين هم أخوة، وأن الكنيسة على جماعة واحدة، أو بحسب تعبير القديس بولس هي جسد واحد، فما يحياه الفرد تحياه الجماعة، وما يرجوه الفرد ترجوه الجماعة، وما يشكوا من الفرد تشكوا الجماعة…
6- كثرة الحركات الطقسية والرمزية: يقوم الطقس القبطي على عدد هائل من الحركات الرمزية لدرجة أنه يمكننا القول بأنه لا توجد حركة طقسية واحدة لا معنى لها (مثلا: عندما يرفع الكاهن يديه للصلاة هذا يشير إلى موسى الَّذي كان عندما يرفع يديه ينتصر الشعب وعندما يخفضهما ينهزم… وعندما يلف الكاهن القربان الحمل بلفافة يشير بذلك إلى الأقمطة الَّتي لفت بها العذراء ابنها البكر يسوع وقت ولادته لو2: 7، وكون اللفافة من كتان فذلك إشارة إلى الرب الَّذي عندما ظهر لدانيال كان لابساً كتانا دا10: 17، كما تشير الصينيّة إلى المذود الَّذي وضع فيه الطفل يسوع لو 2: 7… وعندما يضع الكاهن الحمل على يديه ويرفعه على رأسه يشير بذلك إلى سمعان الشيخ الَّذي حمل الطفل يسوع على يديه وبارك الله قائلاً “الآن تطلق عبدك بسلام لآن عيني أبصرتا خلاصك” لو2: 28… تغطية الحمل بعد صلاة الشكر إشارة إلى هروب السيد المسيح وأمه والقديس يوسف إلى مصر وتغيبه في الناصرة عن الأبصار مدة ثلاثين سنة مت2: 13ـ15…)
7- التكرار: التكرار هو وسيلة للتأكيد… والطقس القبطي غني بالتكرار والتأكيد على كون السيد المسيح آتى وولدت من العذراء وعاش وعلًّم وعمل المعجزات وتألم وصلب وقبر وقام في اليوم الثالث… لذلك يمكننا القول بأن القداس الإلهي ليس إلاَّ تذكيراً بهذه المراحل… وكلمة تذكير هنا لا تعني مجرد الذكرى بل “التأوين (الآن)”، وإعادة معايشة ما قام به السيد المسيح…
8- قوة وجمال العبارات الطقسية: يمتاز الطقس القبطي بصيغه القوية والقاطعة والجذابة والكتابية… فالمصلي يجد نفسه كمنْ يتمشى في حديقة عطرة من العبارات والصلوات العميقة الغنية… (مثلاً: ما يقال في القداس الغريغوري: “لم تكن أنت المحتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك… أقمت لي السماء سقفا، وثبت لي الأرض لأمشي عليها. من أجلي ألجمت البحر، من أجلى أظهرت طبيعة الحيوان، أخضعت كلّ شيء تحت قدمي ولم تدعني معوزا شيئا من أعمال رحمتك”… وما يقال في القداس الباسيلي: “بنعمتك فرح وجه الأرض… دبر حياتنا كما يليق… بارك إكليل السنة بصلاحك من أجل فقراء شعبك من أجل الأرامل والأيتام والغرباء والضيوف ومن أجل كلّ الَّذين يرجوك ويطلبون اسمك القدوس لأن أعين الكل تترجاك أنت الَّذي تعطيهم طعامهم في أوانه الحسن…”)
9- اعتماد الصلوات الطقسية على الكتاب المقدس: إن أهم ما يميز الطقس والصلوات القبطية هو أنها تنبع من تآلف فريد مع الكتاب المقدس، بحيث يظهر من خلالها بوضوح، دقة وغزارة الاستشهادات الكتابية، مما يجعلنا نقول بلا شك، أن الصلوات القبطية هي كتابية قلب وقالباً. فالقداس الباسيلي، على سبيل المثال، هو مزيج عجيب ومدقن من آيات الكتاب المقدس، بحيث أنه تقريباً لا توجد عبارة أو كلمة ليس لها مرجع كتابي. فالقديس باسيليوس استطاع من خلال عشقه وألفته العميقة بالكتاب المقدس أن يحيك صلاةً تتناغم فيها الآيات تناغما فريداً، تناغماً يجعل منها مجموعة استشهادات تقوم على الألقاب والنعوت الإلهيّة التي نجدها في الكتاب المقدس.
10- الألحان القبطية: تتغير أنغام الألحان بحسب المناسبات الَّتي تقال فيها حتى تُشعر المصلي بأنه يعيش في جو الذكرى أو المناسبة نفسها فيتأثر بما تحمله من معان روحية سامية. فتنقسم الألحان إلى:
آدام (البدء أو آدم وسميت هكذا لأن أول تداكية في يوم الاثنين تبدأ بكلمة آدم: آدم فيما هو حزين…):وهي ألحان تقال يوم الأحد والاثنين والثلاثاء
واطس (تأتي من كلمة فاطوس ومعناها العليقة وسميت هكذا لأن أول تداكية في يوم الخميس تبدأ بكلمة: العليقة الَّتي رآها موسى…): وهي تقال يوم الأربعاء والخميس والسبت.
وخلاصة القول بأن الألحان تتفق مع المناسبات فهناك الألحان الفرايحية وهي ألحان تقال بطريقة سريعة يغلب عليها الفرح والبهجة وتستخدم في الأعياد والمناسبات. وهناك الألحان الاعتيادية وتقال طوال أيام السنة. وهناك الألحان الحزينة الَّتي تقال طيلة أيام الصوم الكبير والجمعة العظيمة والجنازات… وهي ألحان تقال ببطئ ويغلب عليها الطابع الحزين…
11- الشكر: الدعوة إلى شكر الله هو سمة أساسيّة في الطقس القبطي، لأن الإنسان أمام محبّة الله اللامتناهيّة يشعر برغبة عميقة في الشكر. وبما أن القداس هو تذكار وتأوين لحياة المسيح، أي لتجسده وصلبه وقيامته وإرساله الروح المعزي، كذلك هو فرصة لرفع الشكر لله، فتبدأ الصلوات القبطية بصلاة الأبانا ثم صلاة الشكر.
11- العقيدة: تحتل العقيدة مكانة فريدة في الفكر القبطي، فالطقس القبطي مُطعم بالعقائد الأساسية في الإيمان المسيحي. فالقداس الإلهي، وهو أكثر الصلوات الَّتي يشترك فيها الشعب على مدار السنة، يذكر ويؤكد على أكثر حقائق الإيمان وأغلب العقائد المسيحيّة من خلق وسقوط، وتجسد وفداء، وصلب وقيامة وصعود وحلول للروح القدس، من إيمان بالشفاعة، ومن إيمان بالثالوث الواحد…وكل ذلك في إطار كتابيٍ فريد.
وخلاصة القول هي أن الطقس القبطي هو طقس فريد في شكله ومضمونه، نبع من إيمان الأقباط الشديد بالسيد المسيح، ومن اليقين بأن الصلاة الحقيقية هي تلك الصلاة النابعة من الحياة والتي تؤثر في الحياة. طقس جاء نتيجة تطورات عديدة تعود لآلاف السنين فاعتمد على الكتاب المقدس والتقليد وخبرة إيمان القديسين. وهنا تجدر الإشارة بأن غنى الطقس القبطي وعظمته يدعونا إلى شيئين:
أوّلاً: التمسك بالطقس وعدم التفريط فيه باسم التمدن أو التقدم أو تحت أي مسمى لأن الكنيسة، كما يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني تحيا برئتين الأولى هي الطقوس الغربية والثانية هي الطقوس الشرقية، ومن ثمًّ فالتفريط فيه يعني التسبب في ضعف الكنيسة كلها. فالتفرنج من أخطر الأشياء الَّتي تقود إلى فقدان الهُوية. والتمسك بالطقس يعني أولاً معرفته، وثانياً شرحه، وثالثاً احترامه… فنجد أن المتفرنجين يأخذون قطعة من هنا وأخرى من هناك لدرجة تجعل الصلاة كالثوب الَّذي تم ترقيعه فأصحب لا يصلح لشيء، وهو يفعلون ذلك في أغلب الأحيان رغبة في التجديد والاختصار،
ثانياً: عدم التحجر بمعنى أن الطقس هو وليد خبرة إيمان الشعب، كما سبق وذكرنا، والإيمان هو بطبيعته حيّ ومحيي، فإيمان يحيا في حالة من الثبوت الدائم هو إيمان ماءت. وأخطر الأمراض الَّتي نحاها في واقعنا الكنسي هي التجمد، ذلك التجمد الَّذي يقتل الطقس باسم الحفاظ عليه، والذي يُضعف الإيمان بدلاً من أن يكون تعبيراً عنه، وبدلا من أن يكون تقوية له. فنجد عبدّة الطقوس يتشددون فيها، ويتحذلقون ويتشبثون بكل ما هو عتيق وإن بلا، ويغالون في محاكاتها واحتذائها ويأبون على الناس إلَّا أن يجمدوا معهم حيث جمدوا ويحاسبون كلّ من تهوّل له نفسه بتغير كلمة أو حركة طقسية، ويقيمون المناحات السوداء على كلّ اقتباس أو صلاة أخذت من طقس غير الَّذي يعرفونه، وينصبون الصلبان لأصحابها… ولا يمكن أن ننسى أن الفريسين رفضوا السيد المسيح لأنها أحترم الإنسَان ولم يحترم السبت، لأنه أحترم الإنسَان أكثر من الطقوس، ولذلك أعلن لهم المسيح “أن السبت خلق من أجل الإنسَان لا الإنسَان من أجل السبت”، وبالمعنى ذاته خلقت الطقوس من أجل الإنسَان لا العكس.
والمعادلة رغم كونها صعبة ليست مستحيلة لأن على الطرفين معرفة معنى الطقس وغناه لأن من يعرف لن يفرط، وفي ذات الوقت لن يتحجر. فالطقس هو ثمرة الإيمان وأي فصل بينه وبين الإيمان هو قتل لكلاهما، فإيمان بلا طقس هو روح بلا جسد، هو فكر مجرد لا قيمة له… وطقس بلا إيمان هو جسد بلا روح، هو جثة لا مكان لها سوى القبور. وأي كنيسة لا تحيا صلواتها وطقوسها انطلاقاً من إيمانها بالسيد المسيح هي كنيسة هزيلة تحيا سجينة لماضيه أو مقيدة بفكر لا يناسبها.