أولاً: الحاجة إلى هذه المدرسة
كانت الإسكندرية مدينة عالمية وملتقى الثقافات والديانات، الشرقية منها والغربية كما كانت تتمثل فيها كل المدارس والتيارات الفلسفية والمتحف “Museum” وهو كناية عن جامعة تدرّس جميع العلوم الطبيعية والفلسفية. وملحق به أكبر مكتبة معروفة في التاريخ القديم تحت إدارة أعظم الفلاسفة: أمونيوس سكاس وتلميذه أفلوطين: أصحاب مذهب الأفلاطونية الحديثة. والمدرسة اليهودية مع فيلون الذي فسّر العهد القديم بطريقة رمزية تتفق مع الحقائق الفلسفية.
انتشرت أيضاً في ذلك الزمان بدعة تُدعى بالغنوصية وعلى رأسها مارقيون وباسيليوس وفالنتينوس: وهي مزيج من الوثنية واليهودية والمسيحية وتتميز بمبدأ الثنائية بين الله والعالم، بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد، بين الخير والشر، بين المادة والروح، وأنها تعاليم كلها سرية لا يكشفون مضمونها إلا لأتباعهم المدربين وتميزهم عن سائر القوم الجاهلين. كما إنها أصرت على إحلال “الغنوص” أي المعرفة العقلية محل الإيمان كسبيل للخلاص. وكان لها رواج كبير.
وكان هناك أيضاً فلاسفة قديرون أمثال كلسوس وبورفيروس حقدوا على المسيحية انتشارها فأخذوا يدرسون الكتاب المقدس ويفندونه معتبرينه كتاباً مليئاً بالمتناقضات والخرافات وأن الجماعة المسيحية ليست إلا لمامة المجتمع الذين استغلهم البعض بسبب جهلهم ومكانتهم الوضيعة في المجتمع. فكان لابد للكنيسة أن تدافع عن نفسها وتركز على كل هذه التهم الباطلة بطريقة علمية مقنعة ترفع من شأنها وتستوجب احترام الآخرين وهذا ما قامت به مدرسة الإسكندرية التي سميت بال “ديدسقاليون”.
ثانياً: نشأة مدرسة الإسكندرية
يشهد القديس ايرونيموس أن القديس مرقس نفسه هو الذي قام بتأسيس هذه المدرسة، وإن كان هذا القول لا يستند على وثائق تاريخية. إلا أن مدرسة الإسكندرية وُجدت بكل تأكيد منذ أوائل القرن الثاني.
بدأت مدرسة متواضعة لتعليم الدين المسيحي، وأمام تحديات المدارس الفلسفية الأخرى، أخذت تتوسع في العلوم وصارت على يد أنتيموس سنة 180 مدرسة فلسفية شهيرة تقف بكل جدارة أمام المدارس الفلسفية الأخرى. أخذت تتدرج بطلابها من العلوم الأدبية والطبيعية إلى الفلسفة والأخلاقيات حتى توصل الطالب إلى اللاهوت عن طريق شرح الكتب المقدسة. وكان يؤمها طلبة متشوقون إلى الحق من جميع الديانات ومختلف الثقافات والجنسيات. فتحت المدرسة أبوابها- وهذا أمر يثير العجب في ذلك الزمان- إلى الرجال والنساء والشباب والكبار، الأغنياء والفقراء، الأحرار والعبيد.
عُرفت المدرسة باهتمامها بالبحث العلمي. فلم يكن الأساتذة مجرد حاضرين ولكنهم يرتبطون بطلابهم حتى خارج الدراسة ويقدمون لهم المشورة في البحث والتنقيب. امتازت هذه المدرسة بعدم الفصل بين الدراسة والحياة الإيمانية التقوية. إذ كان الأساتذة والطلبة يشتركون في الصوم والصلاة. كما كانت المدرسة تمثل جزءاً من المبنى الكنسي، وأثناء موجات الاضطهادات كان التلاميذ يجتمعون مع أساتذتهم في بيوتهم. فقد كان الارتباط بالأستاذ أقوى من الارتباط بالمبنى.
ثالثاً: خصائص هذه المدرسة
1. موقفها من الفلسفة اليونانية
خلافاً لكثيرين من آباء هذا العصر الذين حاربوا الفلسفة واعتبروها مضادة للدين، اتخذت مدرسة الإسكندرية موقفاً إيجابياً منها. ورأت فيها جزءاً من الحقيقة النابعة من نور الكلمة الذي يضيء كل إنسان آت إلى العالم. وهكذا استطاع أساتذتها الكبار التعمق في الفكر الفلسفي واستمالة الفلاسفة إليهم حتى يصلوا بهم إلى معرفة الحق الكامل، وهو الرب يسوع. وهكذا تمت المصالحة بين المسيحية والفلسفة وصارت الفلسفة خادمة للدين.
2. التفسير الرمزي
لكي تُدخل مدرسة الإسكندرية الفلاسفة إلى نور الإنجيل، استعملت منهج التفسير الرمزي، في شرح الكتاب المقدس، ولم تكتف بالمعنى الحرفي الذي وقفت عنده المدرسة الأنطاكية، بل أرادت أن تتعداه، فتكتشف المعنى الروحي العميق وراء سطور الكتاب، وتجد حقائق كثيراً ما كانت تتفق مع حقائق الفلسفة. وكان هذا الأسلوب متبعاً عند الفلاسفة اليونانيين في تفسير أساطيرهم الدينية. كما استعمله فيلون العلامة اليهودي في شرح التوراة… وقد تبنى المفكرون المسيحيون هذا المنهج التفسيري، حاسبين أن التفسير الحرفي في حالات كثيرة لا يليق بالله وقد يؤدي إلى المادية ولا يقبله الفلاسفة. وقد وجدوا سنداً لهم في الرسول بولس (غلا24:4، 26) “وفي ذلك رمز لأن هاتين المرأتين (سارة وهاجر) هما العهدان: أحدهما من طور سيناء يلد لليهودية وهو هاجر.. أما أورشليم العليا فحرة فهي أمنا” (راجع 1كو4:10). وفي أقوال السيد المسيح نفسه: “وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان” (يو14:3).
3. الغنوصية الحقيقية
أرادت مدرسة الإسكندرية أن تحارب الغنوصية المنحرفة بغنوصية حقيقية تجذب العقول المفكرة. لا تكتفي بالإيمان البسيط الضروري لكل مسيحي بل تعمل على تكوين المسيحي الكامل الذي يتعمق في الإيمان ويصل إلى التأمل في الروحيات. وهو علم مقدم للجميع ليس فقط لخاصة متميزة، ويستند على الإيمان وعلى نعمة الله أكثر من الاستناد على العقل وحده الذي يعجز عن أن يمنح الإنسان الخلاص.
رابعاً: أكبر أساتذتها: إكليمنضس وأوريجانوس
أ- إكليمنضس (150-214)
إن كان القديس ينتينوس أوّل من اشتهر في المدرسة الإسكندرية إلا أنه لم يترك لنا كتباً يدوّن فيها تعاليمه ولكن يكفيه فخراً أنه كان أستاذاً لإكليمنضس الذي خلفه في رئاسة المدرسة وأعطاها شهرة واسعة. وُلد إكليمنضس من أبوين وثنيين حوالي سنة 150م؛ البعض ينسبونه إلى أثينا والبعض الآخر إلى الإسكندرية ولما كبر، أخذ يتجوّل في إيطاليا ثم في سوريا وفلسطين باحثاً عن الحقيقة التي وجدها أخيراً في مصر على يدي القديس ينتينوس سنة 190. وعند سفر ينتينوس إلى الهند كلّفه أسقفه ديمتريوس بالتعليم في المدرسة الإسكندرية حيث تتلمذ على يديه أوريجانوس الشهير. كان إكليمنضس واسع الاطلاع غزير العلم ملّماً بالآداب والفلسفة اليونانية، كما كان ملّماً بالأسفار القانونية وبكتابات الآباء ويُشهد له بأنه أعظم معاصريه في الإلمام بكل معارف عصره. اضطر إلى الهروب من الإسكندرية أثناء اضطهاد سبتيم سافيروس سنة 202 ولجأ لصديقه وتلميذه القديم الكسندروس أسقف قيصرية الكبادوكية. حيث قام بخدمات جليلة وتُوفي سنة 214 تقريباً.
وقد ترك لنا إكليمنضس مؤلفات كثيرة نخص بالذكر ثلاثيته الشهيرة: “المرشد”، “والمربي” و “والمعلم” حيث يظهر دور الكلمة الذي يرشد الوثني تدريجياً من طريق الضلال ثم يربيه في الفضيلة حتى يوصله أخيراً إلى المعرفة الحقيقية لله فينال الحياة الأبدية. وله كتاب آخر مشهور “خلاص الغني”.
ب- أوريجانس (185-253)
خلف إكليمنضس لرئاسة مدرسة الإسكندرية تلميذه أوريجانس الذي يعتبر مؤسس اللاهوت المسيحي والذي به وصلت مدرسة الإسكندرية إلى قمة المجد.
وُلد أوريجانس في الإسكندرية سنة 185 من عائلة مسيحية تقية وتلقى العلوم الأولية على يد والده لاونيداس الذي غرس فيه حب الكتاب المقدس، حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب ويتأمل في معانيه الخفية. وبعد استشهاد والده أثناء اضطهاد سبتيم سافيروس، اضطر إلى العمل ليعول عائلته. فحينئذ طلب منه أسقفه ديمتريوس أن يرأس مدرسة الإسكندرية عوضاً عن إكليمنضس الذي اضطر إلى الفرار. وكان أوريجانس في الثانية عشر من عمره. وأخذ يتدرج بتلاميذه من الآداب إلى العلوم إلى شرح الكتب المقدسة بكل جدارة وزاد عدد الطلبة والطالبات، معطياً لهم مثال التقوى والنسك، حتى إنه أخصى نفسه ليسد أفواه أخصامه عن النميمة. مطبقاً كلام السيد المسيح حرفياً (مت 12:19).
وعندما زاد عدد التلاميذ اتخذ ياروكلاس معيناً له حتى يستطيع تكميل دراساته الفلسفية على يد أمونيوس سكاس أعظم فيلسوف في عصره. وهكذا استطاع أن يحاور الفلاسفة بالفلسفة ويستميل الكثيرين منهم إلى الديانة المسيحية مستعملاً الفلسفة لخدمة الحقيقة المسيحية.
وذاع صيته في العالم المسيحي كله حتى إن كثيراً من الحكام والأساقفة طلبوا من الأنبا ديمتريوس أن يرسل إليهم أوريجانس ليحل مشاكلهم. ومنهم على سبيل المثال أم الإمبراطور الكسندر سافيروس وحاكم بوسترا من بلاد المغرب. ودعاه أسقف أورشليم وأسقف قيصرية فلسطين ليلقي التعاليم المسيحية في كنائسهم ورسماه كاهناً مما أغضب أسقفه الشرعي ديمتريوس الذي حرمه ومنعه من التعليم بالإسكندرية سنة 231.
فاضطر أوريجانس أن يلجأ إلى قيصرية فلسطين عند الأسقف الذي رسمه كاهناً وأنشأ هناك مدرسة لاهوتية فاقت مدرسة الإسكندرية بطابعها العلمي وجذب إليها أكبر الشخصيات الذين كانوا يتشرفون بأنهم تلاميذه وهناك علّم عشرين سنة، وكتب معظم مؤلفاته، التي بلغ عددها ستة آلاف مخطوط على ما رواه القديس أبيفانيوس أسقف قبرص. ومنها الكتب اللاهوتية والكتابية والدفاعية والتصوفية ورسائل متعددة تظهر صلاته الواسعة مع كل عظماء عصره.
نذكر منها كتابة “حول المبادئ” الذي هو أول موسوعة لاهوتية في تاريخ الكنيسة. ثم “السداسيات” وهو أول كتاب تقوي عن الكتاب المقدس في خمسين مجلداً على ستة جداول ثم صارت ثمانية جمع منها كل النسخ والترجمات المعروفة في عصره. بخلاف تفسيراته للكتاب المقدس ومعناه المجازي. وعظاته اليومية عن معظم أسفار الكتاب.
وفي دفاعه عن الكنيسة، ردّ على اعتراضات الفيلسوف الوثني كلسوس الذي انتقد تعاليم الكنيسة بكل شدة فألف كتابه “ضد كلسس”. وأخيراً وليس آخراً ألّف الكتب التصوفية “الصلاة” و”الحث على الاستشهاد” هذا الكتاب الجميل الذي يحث المؤمنين على الاستشهاد الذي كان يتوق إليه من كل قلبه.
وقد قُبض على أوريجانس أثناء اضطهاد داقيوس وعُذب أشد العذابات كي ينكر الإيمان فيسقط الكثير من المسيحيين بسقوطه. ولكنه ثبت بقوة وشجاعة نادرتين. وظل في السجن حتى موت داقيوس وبعد سنتين تُوفي من جراء آلامه في مدينة صور سنة 352 شهيداً بغير سفك دم، وصار قبره مزاراً يحج إليه المسيحيون من مختلف البلاد إلى القرن الثالث عشر.
هذه الشخصية الفذة أثارت إعجاب الكثيرين في عصره وبعد مماته شرقاً وغرباً، كما إنها لم تخلُ من خصوم حرموه في حياته وبعد مماته، إلا أن الجميع اعترفوا بما كان له من أثر كبير.
أولاً- الأصدقاء:
فرمليانوس أسقف قيصرية فلسطين الذي رسمه قساً. ثم القديس بمفيلوس وهو كاهن من نفس المدينة وقد قام بنسخ معظم كتب أوريجانس بيده. خلاف تلاميذه الذين صاروا أساقفة في مصر وفلسطين وأسيا الصغرى والقديس غريغوريوس صانع المعجزات . وفي القرن الرابع نذكر ديديموس الضرير الذي خلفه فيما بعد لإدارة مدرسة الإسكندرية، والقديس أثناسيوس. ووصل تأثيره إلى الآباء الكبادوكيين: باسيليوس الكبير أسقف القيصرية وأخوه الروحي غريغوريوس النزينزي اللذان اقتبسا من مؤلفات أوريجانس وضعاها في كتاب لتعليم النشء أسمياه “فيلوكاليا” ومنهم أيضاً غريغوريوس أسقف نيصص وإيفاجريوس البنطي . وفي الغرب نذكر كاسيانوس الذي نشر تعاليم أوريجانس في الغرب وروقينموس الأكوياي من كبار المتحمسين له. وأمبروسيوس الذي اقتبس الكثير من كتب أوريجانس في كتابه عن الروح القدس.
ثانياً- الخصوم:
أولاً نذكر أسقفه ديمتريوس الذي حرمه ونفاه من الإسكندرية بسبب مخالفة القوانين الكنسية إذ قَبِل الرسامة من أسقف غير أسقفه الشرعي. ثم نذكر القديس ميثودوس أسقف أوليمبيوس الذي رجع في آخر أيامه وأدرك خطأه وأظهر له كل تقدير وإعجاب. ثم أبيفانيوس أسقف سلامينا بقبرص الذي انتقد أوريجانس على ما سمعه من الآخرين. كذلك إيرونيموس وثاوفيلس الإسكندري لأسباب شخصية.
ولكن الصدمة الكبرى تمثلت في حرمه في المجمع المسكوني الخامس سنة 53 المنعقد في القسطنطينية إذ ألصقوا به بعض الأخطاء اللاهوتية التي لم يقل بها أوريجانس نفسه بل استنتجها بعض أتباعه في القرنين الرابع والخامس ودعى مذهبهم بالأوريجانية.
ويعود المؤرخون واللاهوتيون الحديثون على دراسة مؤلفات أوريجانس ويُعجبون أمام هذه العبقرية الفذه ويقول عنه الأب دانيلو اليسوعي في كتابه “أوريجانس عبقرية المسيحية” ص7، 8.
“أوريجانس معلم ومفسر للتعاليم الإلهية، ومجاهد مسيحي، وفيلسوف ممتاز، وروحاني عظيم. وصفوة القول إنه عبقري فريد له في نواحي الفكر النصيب الأوفى إذ إنه أول من وضع الأسس التي قام عليها تفسير الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وأول من عنى بكشف غوامض الأسرار المسيحية، وأول من مهّد الطريق أمام كل من يريد أن يسمو إلى إدراك العزة الإلهية.
أما عن مدرسة الإسكندرية فظلت تمارس رسالتها على نهج إكليمنضس وأوريجانس، وقد ترأسها علماء كبار صار البعض منهم بطاركة على الكرسي السكندري أمثال ياروكانوس وديونسيوس ومن ضمن أساتذتها المشهورين لا يمكن أن نغفل ذكر ديديموس الضرير 313-398؟ الذي ترك لنا كتباً تفسيرية أضاف فيها إلى التفسير الرمزي لأوريجانس، التفسير الحرفي لاسيما لأسفار العهد الجديد.
كما أنه تعمق في الثالوث مؤلفاً كتاباً عن الروح القدس وآخر عن الثالوث وآخر ضد الهرطقة المارونية. كما أنه وصل إلى القمة في التصوف وعلاقة المسيحي مع السيد المسيح. واستمرت هذه المدرسة إلى القرن الخامس ثم ضعف نفوذها وكان آخر أساتذتها رودون سنة 530م.
للمقال بقية: أنظر الجزء الثالث
القمص/ إسكندر وديع
الجزء الأول – الجزء الثاني – الجزء الثالث – الجزء الرابع