تاريخ الكنيسة القبطية – الجزء الأول

مقدمة
الكنيسة القبطية هي امتداد كنيسة الإسكندرية الشهيرة إلى كل القطر المصري. وسُميت بهذا الاسم من بعد الفتح العربي تمييزاً للعنصر المسيحي من العنصر العربي لنفس الشعب المصري. وكلمة “قبطي” مشتقة من الكلمة اليونانية “Aiguptioi” المصريين وتم ذلك بحذف الحروف المتحركة الأولى، فجعلها العرب “Gupt” ثم قبط وسميت لغتهم المصرية باللغة القبطية.
ويرجع تأسيس هذه الكنيسة حسب تقليد كنسي قديم إلى القديس مرقس الإنجيلي. وقد اشتهرت هذه الكنيسة بمدرستها اللاهوتية الشهيرة وبعدد شهدائها الذين رووا أرضها بدمائهم الزكية، كما كانت مهد الحياة الرهبانية على مختلف أنواعها، وأخيراً كان لها الدور المتميز في دحض الهرطقات في المجامع المسكونية الأولى بفضل أساقفتها العظام أمثال أثناسيوس الرسولي وكيرلس الإسكندري. وقد قال عنها الأب برا اليسوعي “إذا كانت روما قلب المسيحية فقد كانت الإسكندرية عقلها المفكر”[1] وياللأسف أخذ دورها يتضاءل بعد الانشقاق عن الكنيسة الجامعة الذي تم بعد المجمع الخلقيدوني سنة 451.
ولكن من جهة أخرى نرى فيها بوادر نهضة روحية تبشّر بكل خير وخطوات واسعة نحو الوحدة.
نقسم موضوعنا إلى أربعة أقسام:
1. الكنيسة القبطية منذ نشأتها إلى الانشقاق سنة 451م.
2. الكنيسة القبطية بعد الانشقاق إلى القرن الثامن عشر.
3. العصر الحديث.
4. اتحاد جزء منها إلى كنيسة روما وتكوين طائفة الأقباط الكاثوليك.
1- الكنيسة القبطية منذ نشأتها إلى الانشقاق سنة 451م
أ- نظرة عامة عن وضع مدينة الإسكندرية:
لأكثر من ستة قرون، كانت الإسكندرية ثاني مدينة في العالم القديم بعد روما. وقد أسسها الإسكندر الأكبر في سنة 332م. وكانت في أول الأمر قاعدة بحرية هامة. فجذبت إليها كثيراً من اليونانيين واليهود. ونشطت فيها الحركة العقلية نشاطاً ملحوظاً. وكانت مكتبتها أشهر مكتبات الإمبراطورية. والتقى فيها الشرق بالغرب وفيها ترعرعت الفلسفة اليونانية وانتشرت الحضارة الهللينية بجوار الحضارة الفرعونية القديمة.
وتجاوزت الجاليات اليهودية الكثيرة العدد بأصحاب الديانات الشرقية. فكانت أشبه بالعاصمة الدولية المشتركة للعالم القديم. وفيها تُرجمت أسفار العهد القديم إلى اللغة اليونانية في الترجمة المعروفة بالترجمة السبعينية التي قربت الوحي اليهودي إلى أذهان اليونانيين. وفيها حاول فيلون العالم اليهودي الشهير أن يوفق بين اليهودية والفلسفة الإغريقية. وأظهر التوافق بين التوراة والفلسفة. إذ أخذ يشرح التوراة بالأسلوب الرمزي. كما نشأت في الإسكندرية الفلسفة الأفلاطونية الحديثة. كما ظهرت المذاهب الغنوصية المختلفة (نظريات المعرفة).
ب- تأسيس الكنيسة:
في هذه المدينة ذات الثقافات المتعددة والمتعطشة إلى الحق وجدت المسيحية أرضاً خصبة لانتشارها. وكما كانت عادة التبشير في المسيحية الأولى كان الرسول يبدأ باليهود ثم بالأمم. وكان لوجود اليهود في الإسكندرية دور كبير في انتشار المسيحية وحسب فيلون كان ثلث سكان الإسكندرية من اليهودية كما أنه كان لهم مراكز ومعابد أخرى في أنحاء البلاد ولا سيما في الفيوم وجزيرة اليفانتين بالقرب من أسواب.
ويذكر سفر أعمال الرسل أن عدداً منهم كان حاضراً في أورشليم يوم العنصرة: (أع 10:2). ولا شك أن كثيرين تأثروا بكرازة بطرس وذكروا هذه الأحداث عند رجوعهم إلى أوطانهم وبدأت الرسالة المسيحية تنتشر في الأوساط اليهودية في الإسكندرية وتبرز من بينهم شخصية يذكرها سفر أعمال الرسل هو أبلوس “وجاء إلى مدينة أفسس يهودي اسمه أبلوس إسكندري الأصل، رجل فصيح اللسان، خبير في الكتاب وكان قد لُقن طريقة الله وأخذ يتكلم بروح متقد ويعلم ما يختص بيسوع المسيح تعليماً دقيقاً ولكنه لم يكن يعرف إلا معمودية يوحنا. فشرع يتكلم في المجمع بجرأة” (أع 24:18-26).
ولكن يرجع تنظيم كنيسة الإسكندرية إلى القديس مرقس الإنجيلي “كاروز الديار المصرية” بشهادة يوسابيوس القيصري (التاريخ الكنسي ك 2جـ24-26)، وهو نفسه يستشهد بيوليوس الإفريقي الذي تُوفي سنة 200م. وفي القرن الرابع لدينا شهادات أبيفانيوس (ضد الهرطقات 5:1) وإيرونيموس (عن الرجال العظام8) جاء مرقس إلى مصر حوالي سنة 48م. وغرس مرقس المسيحية أولاً في مدينة الإسكندرية، ثم أخذ ينظم التبشير في جميع البلاد، وحمل كلمة الرب إلى الغرب إلى قيربنية، فادهرت في تلك الديار جماعات مسيحية ضخمة، حتى أصبح للمدن الخمس بليبيا (قرينية، وبطولماييس، وارسينوية، وسوزوزا وبرنيقة)، منذ الجيل الثاني، خمسة أساقفة تابعين للإسكندرية.
ولما رجع إلى الإسكندرية هاج عليه الوثنيون لما رأوه من انتشار المسيحية فبينما كان يحتفل بقداس عيد القيامة في 25 أبريل سنة 68م هجم عليه أعداؤه وجرجروه في الشوارع حتى سلم نفسه الطاهرة إلى باريه ونال إكليل الرسولية وإكليل الشهادة بعد ما أضاء القطر المصري بنور الإنجيل ووضع فيه بذرة كنيسة مجيدة.
وبعد القديس مرقس لا نجد عند يوسابيوس القيصري المؤرخ الشهير إلا قائمة تضم عشرة أسماء جلس كل منهم اثنتا عشر سنة وإن لم يذكر شيئاً عنهم بالتفصيل، إلا أنه يمكننا أن نستنتج أنهم قاموا بنشاط كبير على مستوى القطر كله. وذلك بتأسيسهم للمدرسة التعليمية لإعداد الموعوظين للعماد والتي سيكون لها شأن كبير فيما بعد باسم “الديدسكليون”. وبازدياد عدد المسيحيين ولا سيما في صعيد مصر حيث ترجمت الكتب المقدسة من اللغة اليونانية التي كان الشعب يجهلها إلى اللغة القبطية: لغة الشعب وعندنا بعض المخطوطات للإنجيل باللغة القبطية ترجع لهذا العهد. كما أن ازدياد عدد المسيحيين يحتاج إلى عدد كبير من الأساقفة ويصل عددهم إلى خمسين سنة 250م. وأخيراً يظهر ازدياد عدد المسيحيين بعدد الشهداء الذين رووا أرض مصر بدمائهم.
أما عن طريق تعيين هؤلاء الأساقفة فيقول لنا القديس إيرونيموس- “إنه في الإسكندرية كانت العادة منذ القديس مرقس إلى ديمتريوس أن يختار الكهنة واحداً منهم ليقيموه على درجة أسمى ويسموه أسقفاً” وهذا ما يؤيده ساويرس الأنطاكي في القرن الخامس وأوطاخيوس البطريرك الملكي في القرن العاشر.
وأول أسقف يكلمنا عنه التاريخ بشيء من التفصيل هو ديمتريوس الكرّام (180-230). وقد تدخل ديمتريوس في موضوع المشكلة الفصحية بين كنائس آسيا التي كانت تتمسك بعيد الفصح يوم الرابع عشر من شهر نيسان والتي كانت تركز على موت السيد المسيح وكنيسة روما التي كانت تعيّد عيد القيامة يوم الأحد التالي الرابع عشر من نيسان، مبرزة قيامة السيد المسيح من بين الأموات، وقد وقف ديمتريوس في صف فكتور أسقف روما. وهو أول أسقف يرسم أساقفة آخرين للمدن الأخرى. كذلك نرى اهتمامه بالمدرسة الإسكندرية حيث يعين لها مديراً أوريجانوس أثناء هروب إكليمنضس. وأخيراً يُظهر سلطته بحرم العلامة أوريجانوس بسبب قبوله الرسامة من أسقف غيره سنة 230.
وخلفه ياروكلاس أحد تلامذة أوريجانوس بالمدرسة الإسكندرية وصار مديراً لها من بعده. وكان فيلسوفاً متعمقاً في دراسة شتى الفلسفات وخطيباً مفوهاً وكان له تأثير كبير على النفوس حتى إنه اكتسب عدداً كبيراً من الوثنيين إلى المسيحية. وقام برحلة راعوية طاف خلالها أنحاء القطر المصري. وبسبب ازدياد عدد المسيحيين قام برسامة عشرين أسقف وهو حسب أوطاخيوس البطريرك الملكي أول من نال لقب “بابا الإسكندرية”.
ومن الوجوه المضيئة والمشرقة للكنيسة في هذا الزمان القديس ديونيسيوس الكبير (248-262). وُلد ديونيسيوس سنة 200م من عائلة وثنية وبعد سنوات طويلة من الدراسة والتأمل اهتدى إلى المسيحية وصار تلميذاً لأوريجانوس ثم صار رئيساً للمدرسة الإسكندرية من 232-248. حيث عُيّن أسقفاً للأسكندرية. وكان أسقفاً عظيماً وكاتباً قديراً. ترك لنا مجموعة رسائل تدل على اهتمامه بكل شؤون الكنيسة في زمانه وعلى علو مكانته اللاهوتية في دحض الهرطقات التي ظهرت في وقته. وكان في اللاهوت معتدلاً وصانع سلام بين الأطراف المختلفة يحارب التشدد في النسك والمعاملة مع الخطأة.
وأظهر قيمة الزواج المسيحي ضد الذين يرون فيه دنساً وشراً، كما أنه حث على قبول الخطأة الراجعين إلى الله بتوبة صادقة بعد ردتهم عن المسيحية بسبب ضعفهم أثناء الاضطهادات متخذاً موقف أسقف روما ضد نوفاسيانوس المتشدد.
كذلك في مسألة إعادة تعميد الهراطقة يقف في صف بابا روما إسطفانوس ضد قبريانوس أسقف قرطاج. كما أنه يحارب النظرية الألفية ضد فابوسيوس أسقف أرسينية ويشرح نص الرؤيا شرحاً رمزياً. حسب منهج المدرسة الإسكندرية. ويتخذ موقفاً صارماً ضد سابليوس الذي أنكر التثليث بقوله إنه لا يوجد إلا أقنوم واحد (أومواوسيوس) وهو آب في الخلقة وابن في التجسد والفداء وروح قدس من يوم العنصره. فدافع ديونيسيوس الإسكندري مُظهراً تمييز الأقانيم الإلهية الثلاثة، رافضاً لفظ “اومواوسيوس” بسبب خطورته على الإيمان وعدم وجوده في الكتاب المقدس ولما قُدمت شكوى ضده إلى ديونيسيوس أسقف روما. أوضح ديونيسيوس الإسكندري موقفه إلى أسقف روما وتم التفاهم بينهما.
وأنه ترك لنا رسائل فصحية كثيرة معلناً يوم عيد الفصح مقروناً بالعظة المناسبة، وكان له الفضل في تحديد يوم الفصح على أساس فلكي فهو الأحد الواقع بعد اكتمال القمر في الاعتدال الربيعي. وهو الحساب المسمى بالأبقطي. وتعرض في أيامه إلى اضطهاد دقلديانوس وفالريان، فيهرب أول مرة ولكن قبض عليه في المرة الثانية ونفي إلى الصحراء الليبية حيث بشر وجذب الكثيرين إلى المسيحية.
كان لديونيسيوس مكانة كبيرة في زمانه وقد لقب بديونسيوس الكبير ووصفه القديس باسيليوس بالمشرع القانوني وسماه أثناسيوس معلم الكنيسة الكاثوليكية. ومن بعده انتشرت المسيحية في مصر انتشاراً واسعاً حتى صار عدد المسيحيين ثلث عدد السكان. وفي سنة 320 صار عدد الأساقفة يفوق المائة الذين جمعهم البابا الكسندروس في سينودس 320 لحرم اريوس.
القمص/ إسكندر وديع
للمقال بقية: أنظر الجزء الثاني (هنا)
الجزء الأول – الجزء الثاني – الجزء الثالث – الجزء الرابع

[1] الأب برا في كتابه “أوريجانس” ج11.