بسم الآب والابن والروح القدس إله واحد آمين
من البطريرك إبراهيم إسحق بنعمة الله، بطريرك الإسكندريَّة وسائر الكرازة المرقسيَّة للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا المطارنة والأساقفة، وإلى أبنائنا الأعزاء القمامصة والقسوس، الرهبان والراهبات والشمامسة، وإلى أبناء الكنيسة القبطيَّة الكاثوليكيَّة في مصر وبلاد المهجر.
النعمة والبركة والسَّلام في المسيح القائم من الأموات تكون مع جميعكم
“فأَعرِفُه وأَعرِفُ قُوَّةَ قِيامَتِهِ وأشارِكُهُ في آلامِهِ وأتشَبَّهُ بِه في موتِهِ، على رَجاءِ قِيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ” (في3: 10-11)المسيحُ قامَ عبارةُ رجاء، المسيحُ قامَ عبارةُ فرح، المسيحُ قامَ عبارةُ تهليل.
ولكنها بالوقت ذاته عبارةٌ صعبةٌ وتحدٍّ قاسٍ لمن يرددها، لماذا؟ ربما لأنَّ كلمة قيامة كلمة نتصوُّرها بذهننا فقط، أو عندما نحتفلُ بها في عيد القيامة وزمن الخمسين أو نسمعها في الجنازات، أمَّا الاختبار الحقيقيّ للقيامة وقيامة المسيح فهو أختبار يجب أن يكون كلَّ يومٍ وكلَّ لحظةٍ. وهذا هو التحدي.
إنَّ قيامةَ المسيح دعوةٌ إلى الثِّقةِ والرَّجاءِ، وهي عربونُ الحياةِ الَّتي لا تموت، فبقيامةِ المسيح، يشعرُ الإنسانُ بأنَّه غير مخلوق للموت، لأنَّ قيامةَ المسيح هي عربونُ قيامتنا، تفتح أمامنا أفاقًا واسعةً للحياة، وهي البذرةٌ الَّتي تُحوِّل العالم وترقى به، وتجعل منَّا مخلوقين خلَّاقين.
عشنا، خلال هذا الأسبوع المقدس، مع يسوع سرَّه الفصحيّ: موته وقيامته. فبموتِهِ يُحرُّرنا وبقيامتِهِ يَفتحُ لنا المدخل إلى حياةٍ جديدةٍ.
هناك ارتباط كبير بين المناسبات التي احتفلنا بها: استقبال يسوع في الشعانين كملك على حياتنا، وفي خميس العهد المحبة وبذل الذَّات، وفي الجمعة العظيمة الآلامُ الخلاصيَّةُ المُحييةُ، واليوم يُكَللُ كلُّ هذا في فرح القيامة واختبار قوَّة قيامة المسيح في حياتنا.
1-أَعرِفُ المسيح
في تأملنا يوم الجمعة كان هناك سؤال من هو يسوع الَّذي نعرفه نحن؟ وفي حديثنا عن الجمعة العظيمة وعيد القيامة يظهر لنا أن يسوع الذي عرفه بولس الرسول ونعرفه نحن ليس هو المصلوب فقط ولا هو المنتصر فقط، وإنَّما هو المصلوب القائم. تمامًا مثل خميس العهد فيسوع يؤكد أنَّه السيِّد والرَّب، ولكنَّه يغسل أقدام تلاميذه وهو عمل الخادم، لذلك فهو السيِّد الخادم أو الخادم السيِّد.
في لحن أيُّها الابن الوحيد الجنس “أومونوجينيس” يوم الجمعة العظيمة يقول: “الذي أظهر في الضعف ما هو أعظمُ من القوَّة”. فيسوع يظهر في مظهر الضعف التامّ ولكنه في الجوهر أقوى من صالبيه. هذا هو يسوع المسيح الذي عرفه الرسل ونعرفه نحن اليوم.
2-وقُوَّة قِيامَتِهِ
مَنْ أحبَّ إلى حدِّ بذل حياته لا ينزل إلى الموت بل يصعد إلى حياة أسمى.
فالحب أقوى من الموت، حيث الحب أهم من الحياة أي الاستعداد بالتضحية في سبيل مَن نحبّ.
بهذا الحبّ أحبنا يسوع، حبّه لنا ولأبيه، ولم يتراجع أمام الموت بل أجبر الموت على التراجع أمام حبه. وحده حب المسيح لأنه متحدٌ بقوَّة الله الآب يمكن أن يمنح حياةً وخلودًا وهذه هي قوَّة قيامة المسيح.
فبموته يحررنا من الخطيئة وبقيامته يفتح لنا المدخل إلى حياة جديدة، وهذه الحياة الجديدة هي أولا التبرير الذي يعيدنا إلى نعمة الله، وتقوم هذه الحياة في التغلب على موت الخطيئة والاشتراك في النعمة، كما يؤكده بولس الرسول بقوله: “فدفنا معه في موته بالمعمودية لنحيا نحن أيضًا حياة جديدة…” (رو6: 4).
وقوَّة قيامة المسيح ينالها الإنسان بنواله سرّ المعموديَّة، الذي هو الاشتراك في موت وقيامة المسيح، ونوال الولادة الروحيَّة الجديدة. كما يقول القديس بطرس في رسالته الأولى: “تبارك الله أبو ربِّنا يسوع لأنَّه شملنا بفائق رحمته، فولدنا بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات ولادةً ثانية ً لرجاءٍ حي” (1بط1: 3).
3-اختبار القِيامَة والشهادة لها
تبدلت اللغات والتعابير والعادات والاحتفالات والمؤسسات المسيحيَّة وتفرَّعت كثيرًا منذ العنصرة وسوف تتبدل وتتفرع، ولكنَّ الأمر الوحيد الثابت المشترك، بيننا وبين الرسل وبين كل أجيال الكنيسة، هو الإيمان بيسوع القائم من الأموات. وهذه البشرى اهتزّت لها الأرضُ فرحًا منذ أكثر من ألفي عامّ.
إنَّ اختبار القيامة والشهادة لها، هو انطلاقًا من معرفتنا بيسوع المسيح المصلوب القائم من بين الأموات. فالكنيسة في جوهرها شهادةٌ لقيامة المسيح، وما تاريخ المسيحيَّة سوى لقاءات بشر بيسوع، وما القدِّيسون سوى شهود يعلنون أنَّ يسوع لم يمت ومازال فاعلًا في العالم، فموت يسوع وقيامتُه غيرا مجرى التَّاريخ.
جميلٌ أن تكون لنا سحابةٌ كثيفةٌ من شهود الماضي لقيامة المسيح، ولكن أين شهود الحاضر؟ أفرادًا وجماعات؟ مَنْ يؤمنون بقيامة المسيح ويشهدون بفرحٍ ورجاءٍ، ويؤكدون أنَّ القيامة ليست وهمًا ولا خدعةً وإنَّما حقيقةٌ نعيشُها في حياتنا اليوميَّة بقوةِ قيامة المسيح وعمل روحه القدوس فينا.
فنردد مع القدِّيس بطرس الرسول، في عظته في سفر أعمال الرسل، “قتلتم سيِّد الحياة، فأقامه الله من بين الأموات، ونحن شهودٌ على ذلك” (أع3: 15)
إنَّ قيامة المسيح أسست بشرية جديدة، ووضعت قيمًا روحية تقود الفرد والأسرة والمجتمع في طريق النور والخلاص، وعلَّمت أنَّ الحياة أقوى من الموت، وأنَّ الإنسان يحملُ رسالةً من الله، ومسئولية عن أخيه الإنسان وعن الكون.
عيد القيامة هو عيدٌ لقيامةِ ويقظةِ ضميرِ وقلبِ وعقلِ كلِّ إنسانٍ. فالحياة بعد قيامة المسيح اتخذت مسارًا جديدًا، وأخلاقًا جديدة ورجاء جديدًا.
4-على رَجاءِ قِيامَتي مِنْ بَينِ الأمواتِ
ما هي قيامتي؟ مماذا أقوم؟ وما هو الحجر الَّذي يحتاج إلى أن يُدحَرج عن القبر؟ كثيرًا ما نعيش تحت ثقل أحجار تُطبِقُ علينا في حياتنا.
تبدأ قيامتنا مع يسوع باختيارنا الحرّ الواعي بين الآلام الخلاصيَّة المحيية والآلام المصنوعة الَّتي تُميت، وهنا ربطٌ بين الجمعة العظيمة وعيد القيامة.
فماذا اختار من المواقف، مثلًا: موقف الشَّعب: بين الوعي واليقظة أو الانقياد الأعمى، موقف يهوذا: بين الإخلاص أو المصلحة الشَّخصيَّة والخيانة، بطرس: بين الشجاعة أو الخوف، بيلاطس: بين الوقوف بجانب الحق والدفاع عنه أو السلبية وغسل اليد، التلاميذ: بين الثبات في مواصلة اتباع المسيح أو الانهزام والهروب.
وفي يومنا هذا هل أنا من المتضامنين مع الناس أو من المتاجرين بآلامهم؟ هل أنا أساعد أم أستغّل الموقف وأغتني على حساب عوز النَّاس؟
أقوم مع المسيح متى اخترتُ الموقف الإيجابيّ الذي يُخلِّص ويُحيي، (مثال الكاهن الَّذي ترك جهاز التَّنفس للشاب وضحَّى بحياته)، وأظلُّ في القبر ما دمتُ في الموقف السَّلبيّ الَّذي يُميت (مثال الجشع في التجارة وتهريب المخدرات).
أقوم مع المسيح واختبر قوَّة قيامته، متى اخترتُ أن أحيا معه المحبَّةِ والغفرانَ والتَّضامنَ، والرَّجاءَ الثابت بأنَّ كلَّ تجربةٍ تتحوَّلُ إلى نعمةٍ وكلّ حزنٍ يتحوَّل إلى فرحٍ وكلَّ موتٍ إلى قيامةٍ.
متَّحدين مع قداسة البابا فرنسيس، ومع كلّ الَّذين يحتفلون بعيد القيامة، نرفع صلاتنا في هذا المساء المبارك، من أجل عالمنا الذي نعيش فيه، لكي يسكب الله رحمته ونعمته على كل البشريَّة، فيتوقَّف خطر الوباء ويعمَّ الخير والسلام، نُصلِّي طالبين للمرضى شفاءً، وللموتى رحمة، وللحزانى عزاءً، ولكلِّ مِنْ له تعب في مواجهة الإخطار ومساندة المحتاجين شجاعة وقوَّة.
نصلي من أجل وطننا الحبيب مصر، ومن أجل فخامة الرئيس عبدالفتَّاح السيسي لينعم الرب عليه بالصحة والنعمة ليواصل خدمته للوطن مع جميع المسؤولين وكل من يقوم بعمله بإخلاصٍ وأمانة. نلتمس شفاعة أمنا مريم العذراء، الشاهدة الأمينة على قيامة المسيح، كي يبارك الله تعالى شعب مصر ويحفظه من كلِّ شرّ.
ختامًا: نرفع صلاتنا إلى المسيح القائم من بين الأموات:
أيُّها المسيح الحي، بقيامتك لم يعد للشرّ والألم والموت الكلمةُ الأخيرة، وصار الصليب علامة المحبَّة والانتصار والحياة.
لتكن بشرى قيامتك نشيد تسبيح على شفاهنا، وصرخة فرح في قلوبنا، ورسالة رجاء تقود حياتنا. فنقوم معك ونكون لقيامتك شهودًا ولأخوتنا، خاصَّةً الأكثر احتياجًا، عونًا وسندًا ليشاركونك وإيانا قيامتك المجيدة بشفاعة أمنا مريم العذراء.