بمناسبة الذكرى الخامسة لانتخاب البابا فرنسيس
المونسنيور د. بيوس قاشا
من المؤكد إن الكنيسة أمّنا تحمل إلينا حقيقة الإنجيل المقدس أمانةً منها حسب وصية الرب، كما تؤكد رسالتها وفقاً لقصد الله الآب في رسالة الابن والروح القدس… هكذا يقول المَجْمَع الفاتيكاني الثاني (الدستور العقائدي في الكنيسة؛ عدد1). وقداسة البابا يرعى الكنيسة المقدسة عملاً بقول الرب يسوع لبطرس “أنتَ الصخرة وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي” (متى18:16) وأيضاً “إرعَ خرافي” (يو16:21) و”ما ربطتَه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وما حللتَه على الأرض يكون محلولاً في السماء” (متى19:16) ثم “وأنتَ إذا شئتَ، فثبّت إخوتكَ” (لو32:22).
نعم، إن خليفة بطرس أول الرسل يقود الكنيسة ويسوسها بعصمة وسلطة إلهيَّتَيْن، كما أقامه الرب يسوع راعياً على رأس الرسل، واضعاً في شخصه مبدأً وأساساً دائميَّين ومنظورَيْن للوحدة في الإيمان والشركة، ليقود سفينة الكنيسة في هذا العالم المتلاطم والذي تضربه أمواج العولمة المزيَّفة، وأعاصير الإلحاد واللامبالاة، ونقل الأخبار الكاذبة، ودمار الحروب والتهجير واللجوء، والربّ يمنحه شجاعة وقوة وإيماناً مردّداً من أجله وأجلهم “لا تخافوا” (متى27:14).
البابا هو للعالم كله “كلاًّ للكل” (كور22:9)، وهذا ما يتصف به البابوات جميعاً. واليوم البابا فرنسيس قد إشتهر بتواضعه ودفاعه عن العدالة الإجتماعية والمحافظة عن شؤون العقيدة، وإذ إكتفى بالعيش في شقته الصغيرة، جعل من شخصه أباً وأخاً للفقراء كما للأغنياء، يشارك الفقراء همومهم ومآسيهم وصعوبة معيشتهم، ويعمل في فكره كما في مسيرة حياته أنْ لا يترك فقيراً أو مهمَّشاً ينام دون عشاء أو قوت الدنيا، فتلك المطاعم شاهدة على محبته… إنها إنسانيات مسيحية، وما ذلك إلا شهادة على تفانيه ومحبته “كنتُ عرياناً فكسوتموني” (متى36:25)، فإليه يقصد الفقراء كما الرؤساء، فلم يجد نفسه إلا من أجل الإنسان، مسيحياً كان أم مسلماً، يهودياً أم بوذياً، عربياً أم أجنبياً، أسوداً أم أبيضاً أم أسمراً، فقد إستطاع أن يستقطب أنظار العالم قاطبةً، مخبراً بحقيقة الفقراء ووجودهم بيننا، ومعلِّماً للأغنياء وأصحاب المناصب والمعالي، سموّ الخدمة والعطاء، كي يحمل إلى الجميع سلاماً وخيراً وبركة وكلمة صادقة من أجل حقيقة أمينة.
البابا فرنسيس: أكيد لا ينسى تثبيت إخوته في الإيمان (لو32:22) كما في حقيقة المسيرة، حيث يوجّههم أن يكونوا بجانب خرافهم، وأن يتعلّموا شمّ رائحة خرافهم كراعٍ صالح (يو11:10) يفتش عن غنمه وحملانه، ويحمل الشهادة للمسيح القائم من بين الأموات، فهو يقرأ علامات الأزمنة على ضوء إنجيل الفقراء، فانفرد بخطّ مسيرته. وفي ذلك يرى أعمال الله التي لا تُحصى، مكمِّلاً ما قاله البابا بندكتس السادس عشر:”إن الطريق إلى روما يشكّل جزءاً من شمولية رسالته كمبعوث إلى الأمم والشعوب كي يؤسس الكنيسة الكاثوليكية الجامعة… لذا فعلى روما أن تكشف الإيمان للعالم أجمع، وعليها أن تكون مكان التقاء الإيمان الواحد” (عصر تسلّمه مقاليد الأبرشية روما؛ 5 أيار 2005).
البابا فرنسيس: منذ بداية حبريته، وعبر خِطَبه وعِظاته الموسمية واليومية في البازيليك أو دار القديسة مرتا، يؤكد على التزامه ونهجه طريق إكتشاف الفقير وحاجاته، وفي الدفاع عن المهمَّش والسجين والمقعَد والساهر على طرقات البشر الغير المبالين، الغير المهتمين، الذين يجعلون من الدنيا ولهوها واللعب فيها سبيلاً للوصول وتحقيقاً لمآربهم، كما يعلن قداسته التزامه الثابت بالدفاع عن حقوق هؤلاء وآخرين، فهم سريعو العطب ولكنهم ثمينو القيمة لأنهم يستأهلون البحث عنهم وحمايتهم، محاولاً أن يدرك الجميع، مؤمنون وعلمانيون، إنه من أجل ذلك جاء المسيح وجال في شوارع اليهودية والناصرة وليس في قصر هيرودس وبيلاطس، وصَرْحِ حنّان وقيافا، وما إلى ذلك.
البابا فرنسيس: هو ذا يفتش عن طُرقٍ مظلمة ليجد مشرَّداً متروكاً على حافة الطريق وقد أنهكته الدنيا ومآسيها كسامري صالح، فيحمله في قلبه، ويوصي به كي يُعتنى به، ومهما كانت المسافة يجاهد ليلتقي بالبعيدين كما القريبين، ويدعو الجميع رجالاً ونساءً، أفراداً وجماعات، إلى العطاء والخدمة، والإهتمام بالمقعدين والمعوزين.
البابا فرنسيس: يناشد الشباب أن يشهدوا لحقيقة الحياة والحب، ويكلّم الأطفال ويقبّلهم عملاً بقول معلّمه الإلهي “دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم” (لوقا16:18). يعمل جاهداً لتفقد الملاجئ والمستشفيات والمصحّات، ويفتش عن المرذولين والمنبوذين والذين رماهم المجتمع بعيداً عنه، وما أكثرهم، كما كان حال الأبرص (لاويين46:13)، ولا يهتم إلا في رفع صوته عالياً حيث يسود الظلم والقهر والتهجير والفساد، ويجد الرحمة سبيلاً. ينادي بالحرية للمأسورين وبالغفران للتائبين، فرحمته تجعله أن يترك ذبيحته ويذهب ليأتي بالنعجة الضائعة، فسبيل الرحمة التي يحملها يعيشها في حقيقة المسيح الذي إختاره.
البابا فرنسيس: يدعو جميع الذين بسلطانهم زمام أمور الدنيا بإبعاد شبح الحروب والنزاعات ودمار الإرهاب، ويدعو للشرق كما للغرب بالسلام والأمان، ومن أجله يدين بقوة جميع أشكال الظلم والفساد، فهو يسير في المسيح مهاجراً على الدروب ليحمل الجميع إنجيل المحبة والسلام.
البابا فرنسيس: نعم، إنه يرفض ثقافة الحرب من أجل بناء ثقافة الحياة، وهذا ما جعله ينادي بسلامٍ آمن لمنطقة الشرق الأوسط وبالخصوص لسورية والعراق ومصر وليبيا ولبنان، ولمناطق العالم المشتعِلة بنار الحروب والقتال والتفجير والإرهاب، كما يعمل على مدّ الجسور، جسور الغفران والمسامحة، من أجل محو النفعية والأنانية والمصلحة الضيقة في قتل الأبرياء أبناء الله الخالق، وما أكثرهم اليوم في هذا السبيل سائرون، من الأقربين كانوا أو من البعيدين.
البابا فرنسيس: ما أجمله حينما ينحني على الإنسان مليئاً برحمة السماء، فيحمله من عذاب الدنيا وسوء المعيشة وإهانة كرامته إلى سموّ المسيح، بالمحبة التي يحتضنه بها، وبالرحمة التي يُظهرها عملاً بتعليم الرب “كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم” (لو36:6)، وإنْ كانت رحمته هذه إزعاجاً للسامعين ولكبار الزمن والدنيا، فهو بعمله هذا إمتدادٌ لرحمة الله.
البابا فرنسيس: يدعو بصوته الجهوري أن يكون الأغنياء وكبار الدنيا، وجليسو الكراسي وأصحاب المناصب، وأمراء الدنيا ومسلّطو الحكم، أن يكونوا رحماء ومحبّين للمهمَّشين والمرذولين، ولعلّ في ذلك يطلب آذاناً صاغية من الأقربين كما من البعيدين، ليتعلّموا أن تلك أقدس رسالة يحملها الإنسان من أجل الإنسان، من أجل عدم تشويه وجه الله، وفي ذلك يناشد الرعاة أن يكونوا قديسين، ويعلنوا كرازة الخلاص وبشارة الحياة، وأن يكونوا صدىً لكلمة الله الذي صار جسداً مثلنا.
البابا فرنسيس: إنه يقرأ علامات الأزمنة في ضوء الإنجيل ليرى من خلالها أعمال الله وفعل الإيمان، كما يعمل على أن يكون للعائلة محامياً ولكرامتها، كي تنال حقوقها، داعياً ومظهراً مكاناً يليق بما جمعه الله كي لا يفرّقه الإنسان (متى6:19)، مدافعاً عن كرامة الكائن البشري منذ اللحظة الأولى لتكوينه… إنه صوت الحقيقة والحياة كما هو صوت المتألمين والمظلومين… إنها كلمات ومسيرة حياة تهزّ القلوب بعد أن تفعل فعلها في العقول، لتعلن حقيقة بركة الكنيسة في سر الزواج المقدس واهتمامها.
البابا فرنسيس: يعمل جاهداً أن يبقى واقفاً وصدّاً ثابتاً لا يخاف ولا ييأس ولا يرتاب رغم مخاوف الإرهاب وتهديدات الأشرار، وفي ذلك لا يحمل إلا إنفتاحاً وحواراً وشجاعةً ورجاء في أن يكون علامة حوار مع العالم ومع الديانات، حواراً مع المؤمنين وغير المؤمنين… وما تلك إلا علامات ملكوت الله في التاريخ.
البابا فرنسيس: يقطع مسافات ليملأ الساحات معلناً حقيقة الحياة والبقاء في عيش السلام، ومن أجل التعايش وقبول الآخر المختلف وغير المختلف في القومية والدين والطائفة والعشيرة، من أجل التناغم بين الشعوب والتي أصبحت اليوم هذه التسميات بضاعةً للتجارة كما للمتاجرة بها، وفي هذا كله تراه مليئاً بألم وحب، بألم مشاركاً فيه الفقراء والمهمَّشين، وحبٍ من أجل أن يحيا الجميع كراماً، حاملين خبزة واحدة لقوت حياتهم.
البابا فرنسيس: مسيح الصلاة والإيمان، وما أحلاها وما أعمقها حينما يعلن “من فضلكم إذكروني في صلاتكم” في كل مناسبة. إنه يحملنا أن نكون في صلاة مستدامة من أجله كي يكون الرب في عونه. وفي طلبه البسيط هذا للصلاة يعلّمنا أن لا شيء يمكن أن يكون نافعاً كمفعول الصلاة الإيمانية النابعة من قلب الإنسان البسيط. إنه فعل تواضع من أجل الإنسان ليعلن عون الله وعظمة نعمته، وفي ذلك يعلن لنا جميعاً إن الإتّكال على الله ما هو إلا صلاة ودواء لرحمة الله كي تحلّ علينا جميعاً، فنكون بذلك رجال صلاة قبل أن نكون رجال حكمة دنيوية مزيّفة… وما أكثرهم في هذا الزمان الفاسد، ليس إلا!.
نعم هذا هو البابا فرنسيس، بل هو أكثر من هذه الأسطر… إنه كتاب مفتوح يقرأ كل إنسان صفحاته البيضاء ليكتب عليها كل ما يشاء، من إحترام ومحبة لهذه الرسالة التي يحملها قداسته بتواضعه السامي وبساطته المعهودة ونظرته المُحِبّة ومشاعره المتألمة من أجل الذين يقصدونه، وفرحاً من أجل الذين يطلبون بركته الأبوية، معتبراً إيّاهم أبناءً يفتشون عن حقيقة الكلمة لإعلانها معه بين الشعوب والسامعين.. إنها كلمة المسيح الحي.. إنها البشرى السارة.. فهو بحق وحقيقة رسول بيننا، بل مسيح يحمل عاهاتنا ويفرح في عرسنا ويتألم لمآسينا، وفي هذا كله ، تعلنون ملكوت الله الذي أحبنا… فأنتم من أجل الإنسان… ليس إلا!.
نعم، إنه قاموس الرحمة والتواضع والمحبة والحقيقة في بساطة الحياة. فمبروك لكم يا قداسة البابا ذكرى إنتخابكم، ونعلن لكم إننا لن ننساكم في صلواتنا. فلتباركنا يمينكم، لنبقى أمناء لإيماننا، وشاهدي لحقيقة المسيح الحي وليس لكبريائنا وأنانياتنا، ولا لعبادة مصالحنا وتأليه إنسانيتنا، بل أوفياء لكنيستنا المقدسة الجامعة الرسولية… نعم يا قداسة البابا، فأنتم ذلك الوجه الذي يظهر لنا إنكم أباً رحيماً وصبوراً دائماً… نعم وآمين.