بقلم: الشماس اسحق مقار إبراهيم
ويقول الأخ JETSU DAS الخادم العام لفرع مرسلين المحبة يحدثنا عن يومٍ كمرسل محبة أثناء تجوالها في مكان الفقرِ والبؤس مع أخواتها، عثرت الأم تريزا على عدد من الأطفال المهملين، متروكين عُزّل على الأرصفة أو إلى جانب الطريق على مقاعد أو حتى في أكوام من القِمامة. أطفالٌ أيتام أو غير مرغوبٍ فيهم أو لا قدرة لأهلهم على النهوض بتربيتهم. وكانت الحاجة ماسة إلى بيتٍ لهم، مثلما تعودت، وثقت الأم تريزا بعناية الله وقالت إن هذا العمل هو لله وهو قادر على أن يعطينا ما نحتاج إليه من منازل. هي وأخواتها لم يكنَّ سوى أدوات طيعاتٍ يبن يدي الله الخالق والواهب كل إنسان احتاجه.
تمكنّ من استئجار منزل أو بناءٍ قديم على مقربةٍ من البيت الأم يصلح للغاية المنشودة، دُعىّ nuniala Shishu Bhouan أي بيت الطفل المُهمل .
هنا أيضاً تبذل الأخوات قُصارىّ جَهدهِنّ لَيِقُمنَ بشيٍ جميلٍ لله. فمنذ افتتاحه ناشدت الأم تريزا الجميع أن يُحضروا كلَّ طفلٍ مصيره أن يُترك وحَده حتىّ لو كان على آخرِ رمقٍ من حياته .
وضج البيت بالأصوات والضحكات والثغاء وامتدت الأيدي الصغيرة، نحو أمُهاتٍ عديداتٍ وامتلأت الأسرةُ بدل الأرصفة ولبس الأطفال ثياباً جميلةً نظيفةً بدلاً عن ورق الجرائد والنفايات، كما أنهم تنعموا بنسائم عليلة تحركها مراوحٌ عّوض أن تضيقَ أنفاسهم الفتية بفعل حرِّ ورطوبةِ كلكتا الشهيرين. النساء اللواتي لم يتزوجن ولم يُرزقنَ بأطفال أصبحن أمهاتٍ لعشراتٍ من الأطفال يُغدِقن عليهم مما تختلُج عليه كل واحدةٍ منهن، قلوبهن من حُبّ ودفء .
وقد أصبح قسمٌ من البيت الذي يضم الأطفال المعَدين للتبني مشهوراً عالمياً وفيه أطفال تترواح أعمارهم مابين السنة والتسع سنوات، صبياناً وبنات، من كافة الأديان والطوائف.
وقد أحدثت الأم تريزا ومرسلاتها انقلاباً كبيراً في تقاليد الطبقات الهندية فبدل من أن تعتبر الأُسر الرفيعة المستوى الطفل المهمل منبوذاً أخذت تطلب التبني الذي أصبح يتم جهاراً ويطال كل الأطفال حتى المصابين منهم بالإعاقة. وهنا يمكنا أن نقول ” بمجانية التبني ” .ثورةٍ أخرى شهدتها الأم تريزا وأخواتها بفضل مشروع التبني وهي كأنها صاحب الثورة أو قائدتها. ثورة على منع الإجهاض وقد قالت يوم أن استلمت جائزة نوبل للسلام في أوسلو ” إن الله هو الذي يطالب بهذا الطفل لأنه على صورته ومثاله، ولأنه خلقه ليكون موضوع حُبهُ، وعَطفهّ، وطيبته في العالم. إن كل طفلٍ أودى به الإجهاض كان قد خُلقَ من اجل أهدافٍ جليلةٍ …. إن الربَّ يطالبنا بأن يستعيد الطفلُ مكانته في حياة الأسرة والعائلة البشرية، وبأن يُعترف به، وأن تتحولَ بيوتنا إلى ناصرات أخرى ”
ومواقف الأم تريزا من الإجهاض كانت صريحةٌ وثاقبة الرؤية وتعتبره مدمر للسلام في العالم، فإن كانت أمٌ قادرة على القضاء على ابنها، فما الذي يَحولُ دون أن يدمرَ البشرُ بعضهم بعضاً ؟، حتى لو استطاعت امرأة أن تنسى ابنها، فأنا لن أنساك يقول الرب، لقد وشمتك على يدي ولك قيمةٌ في عيني، وقد دعوتك باسمِك “. من بين الفقراء ربما كان البُرص هم الأكثر فقراً، هذا المرض يسبب تشويهات عديدة في الأنف والرجلين، والأصابع وتجويفات في كل أجزاء الجسم.
البُرص فئاتٌ ثلاث، واحدة منها وهي الأندر والأقل انتشاراً خطيرة، وسريعة العدوى، في حين أنّ معظم الحالات الأخرى غير مُعدية إلاّ في فترة معيّنةٍ ولمن يملكون المناعة الطبيعية، ومن السهل جداً العلاج والقضاء على البرص في مراحله الأولى بعقاقير قربيةِ المنال. قد أحيط البرص منذ تَعَرف عليه الإنسان بموقفٍ لعنةٍ ونبذ وأُعتبر قصاصاً على الخطايا .
في الهند زادت المعتقدات الهندوسية عندداً المجزومين لأنها تؤمن وتُعَلم أنَّ البرص هو عقاب السماء على أخطاءٍ ارتُكبت في حياةٍ سابقة ولا يسوع مقاومة إرادة الآلهة بمحاولة التخلص منه بالرغم من هذه العقلية السائدة تجاه الُبرص ومرض البَرص، نهض عدد من الأشخاص ليكرسوا ذواتهم لقضية البُرص ويعبّروا بطريقةٍ بطوليةٍ عن حبهم لله والبشر عبر خدمة أكثر عدداً مما يعدون منبوذين بسبب مرض البرص .
كانت الأم تريزا أول من قادة هذه القافلة من البشر الذين امتلأت قلوبهم من محبة الإنسان، وبعد أن استقبلت المجزومين بمرض البَرص أو مرض الجزام الخمس الأوائل وكانوا قد أصبحوا بالفعل منبوذين من المحيط الذي يعيشون فيه وحتى من عائلاتهم وموقع عملهم ومجتمعهم، وإذ قد ظهرت على أجسامهم البقع البيضاء، وباتخاذ موقفٍ سريعٍ كالعادة مع تدبير الله المرافق لتحركات الأم تريزا سُخرت سيارة إسعاف ومستوصفاً نقالاً، وثم تطور الأمر وانتشر، وفي عام ألفٍ وتسعمائة وثمانٍ وخمسين ظهرت في فيتاغار في ضاحية كلكتا، أولى قريةٍ للبُرص وقد دعيت هذه القرية باسم ” غاندبجي بيرسم بنفاس” أي “بيت غاندي للمحبة ” تيمناً بالمهاتما غاندي الذي يتورع عن استقبال بُرصٍ في أشرمه. ومن بعد هذه القرية تبعتها قرية أخرى سُميت شانتي ناغار أي ” قلعة السلام “.
في عام الفٍ وتسعمائة وأربعٍ وسبعين سلمت الأم تريزا مستوطنة تيتاغار إلى إخوتِها مرسلين المحبة الذين بذلوا قصارى جهدهم وقواهم متخطين كل الظروف والمواقف الصعبة ومناواةٍ شديدةٍ من المجموعات المتواجدة هناك. ولكن الأخوة ظلّوا أمنيين على ما أنتدبوا عليه، وهاكم حال قرية البرص حالياً : تقع المستوطنةُ قرب سكةٍ حديديةٍ مهمّة، بناءٌ متمادٍ في الطول والعرض، وهو مركزٌ للإنتاج والتأهيل، يُمارِس فيه البُرص الذين يستطيعون العمل مهناً مختلفةٍ تلبية لحاجاتهم في المركز ووسيلة للعيش الكريم. فهنا نجد أصحاب المهن، السكافون وهم يصنعون الصنادل والأحذية من إطارات السيارات، والنجارون وهم يخرجون من أيديهم عكازات تسند من هم بحاجة إليها في سيرهم. كما إننا نجد مشغلاً طويلاً للحياكة وهو بهجةٌ بكل معني الكلمة للقلب والعين، حتى أصوات المغازلِ ومكينات الحياكة كأنها موسيقى صاخبة تطرب الآذان، فمن يعملون عليها سعيدون جداً بما يقومون بهِ، يضعون من ذواتهم في كل برمةِ مغزلٍ أو حركةِ يدٍ أو رِجلٍ. الجو حنا بالرغم من ضجيج القطارات من حين إلى آخر تنهشُ السكَّة نهشاً، يعبقُ بالسلام والهدوء، والاستقرار .
يبدو أنّ هؤلاء القوم قبلوا بمرضهم وكأن آفاقَ قلوبهم وأذهانهم توسعت إلى حدّ تخطوا فيه النزاعُ والقلقَ، مَثلهُم في ذلك مثّلُ أيوب الصديق، وهم يتابعون حياتهم مؤدين دورهم بملئه. هنا نُغزل سواري مرسلات المحبة في العالم أجمع، وكل القطنيات المستعملة في مختلف المراكز التي تخدُمها الجمعية.
قرب المشغل مجمعُ بيوت يقطنها قِسمٌ من عائلات المصابين بالبَرص. لقد تمكنت جمعيةُ مرسلات ومرسلين المحبة مجدداً من قلب مفاهيمٍ مشوهة تعزلُ الإنسان وتجرده من كرامته وتنشب فيه حربات ألمٍ موجعةٍ من الوحدة والنبذ .
هنا يتم دبغ خيوط المعّدة لمشغل الحياكة الحلقةُ متكاملة والعمل من أروع ما يمكن .
هذا هو مصنع الجلديات وهذا المركز يوجد فيه أيضاً شيشوباثان يُبقي أطفال المجزومين قرب ذويهم. وأننا نرى أمام أعيوننا الكهربائي الذي يعمل بدون ملل أو كلل بالرغم ما يعانية من مشاكل صحية وجسدية فهو رجل بدون أصابع ولكن ما همه ؟ هو تقني كهرباء القرية كلها يُعنىّ بكل عطلٍ موجود أو حاجة لإنسانٍ ما .
في قرية النزلاء نجد أشخاص عددين وكأنهم فقدوا الإحساس [أي نوع من الألم نظراً للمرض الذي يعانون منه فمن الممكن أن يُجرحوا أو يحترقوا دون أن يشعروا بألم .
في مستوطنةِ تياغار أربعُ مئةِ وخمسون نزيلاً ونزيلاً يُعاد تأهيلهم والعدد في إذدياد مستمر. كثير من المجزومين والمصابين يحلون نزلاء على هذا المنزل بفضل النعمة الإلهية وتطوع المرسلين والمرسلات يتم تأهبيهم والعمل قدر المستطاع على إعادتهم إلى الحياة أو أقله إحساسهم بأنهم غير منبوذين .
تحتوي قرية النزلاء على مسرحٍ للعمليات تُبتَر فيه الأطراف المصابة حتى مستوى القسم الصحيح من جسمهم ثم يوضع للمصاب الطرفُ الاصطناعي، وهذا الأخير يصنعُ أيضاً داخل المستوطنة في مشغلٍ خاص، بعد ذلك يُعاد تأهيل المجزوم على المشي في غرفةٍ خاصةٍ مجهزة للقيام بمثل هذا العمل. في المركز الرئيسي الذي نتحدث عنه نجد ملحقات الدار ومن بين هذه الملحقات موزعةُ دواجن ومزرعة ماعز وخنازير وحوض كبير للماء يسد كافة الاحتياجات بالإضافة أيضاً إلى مزرعة خضار وفاكهة وشتولٍ للزينة .
الشماس اسحق مقار إبراهيم