مارون الناسك
إن الأهل القورسية كانوا أول من أخذوا بذاك الإشعاع الروحاني المتدفق من قِمَّة واحد مرتفعاتهم. وكان قد بُني عليها، منذ القدم، هيكل وثنيّ تداعت أركانه على توالي الأحقاب. وأقفرت تلك المنطقة حتى غدت بمعزل عن حركة السكّان. فقصد إليها في النصف الثاني من القرن الرابع، راهب متنسك يرتاد الخلوة والطمأنينة. “فكرّس” الهيكل الوثني المخصص “لابالسة منذ القديم” – كما في قول تيودوريطس – وأخذ يستعمله في عبادة الاله الواحد. وكان يقضي أيامه ولياليه “تحت جوّ السماء”. متعبداً، متهجّداً، حتى إذا هاجت العواصف، واشتد البرد وسقطت الثلوج، لجأ،لا إلى اطلال الهيكل التي لم يكن يؤمّها إلاّ لإقامة الذبيحة الالهية، كما يظهر، بل إلى “خيمة صغيرة” كان قد اصطنعها من جلود الماعز – والماعز كثيرة في تلك النواحي الجبلية – كتلك الخيمة التي وصفها تيودوريطس نفسه في ترجمة يعقوب الناسك، نلميذ مارون. إلاّ أنه “قليلاً ما كان يستظلّ” هذه الخيمة، فلا تصحو السماءُ إلاّ ويعود إلى منسكه في العراء.
أما في أعماله التقشفية “فلم يكتفِ بتمريس نفسه على المعتادة منها” كالأصوام والصلوات المستطيلة، والليالي الساهرة في ذكر الله، وإطالة الركوع والسجود، وتلاوة السواعي في مواعيدها، والتأملات في كمالات الله، ومناجاته تعالى، وحبس نفسه في منطقة محدودة لا يخرج منها إلاّ لشغل الأرض في أعمال يدوية تضني الجسم وتقمع شهواته، مع قهر الجسد باللباس الخشن والمسوح الشَّعرية، وتحريم الجلوس أحياناً، ومنع النوم ليالي بكاملها؛ ثم الانصراف إلى وعظ الزوّار وإرشادهم، وتعزية المصابين والحزانى منهم. كل هذا لم يكتفِ به مارون. “بل كان يزيد عليه ما ابتكرته حكمته جمعاً لغنى الحكمة الكاملة، لأن المجاهد يوازن بين النعمة والأعمال، فيكون جزاء المحارب على قياس عمله”.ولا نرى في قدر هذه الحياة النسكية الكاملة،وتعداد نتائجها الخيّرة في نفس ممارسها، وفي إفادة المجموع جسدياً ونفسياً، ورفع مستواه الروحاني، خيراً من كلام تيودوريطس، نورده بنصّه، متذوقين ما فيه من نكهة البساطة وعمق التأثير. قال:
“وبما أنّ الله غنيّ كثير الاحسان إلى قدّيسيه، منحه موهبة الشفاء. فذاع صيته في الآفاق كلّها. فتقاطر إليه الناس أفواجاً من كلّ جانب. وكان جميعهم قد علموا بالاختبا، انّ ما اشتهر عنه في الفضائل والعجائب صحيح، وبالحقيقة كانت الحمّى قد خمدت من ندى بركته، والأبالسة أخذوا في الهرب، والمرضى كلّهم برئوا بدواء واحد، وهو صلاة القديس لأن الأطباء جعلوا لكل داء دواء، غير أن صلاة الأولياء هي دواءٌ نافع من جميع الأمراض”.
“لكنَّ القديس مارون لم يقتصر على شفاء أمراض الجسد، بل كا يبرئ أيضاً أمراض النفس. فكان يشفي إنساناً من البخل، وآخر من الغضب، ويعلّم رجلاً الاقتصاد، ويعلّم غيره قانون العدل. وينهي واحداً عن استباحة المحرّمات، ويوقظ آخر من غفلة التواني”.ولنتصور تلك الجموع المحتشدة حول منسك القديس تنتظر أن يُقبل عليها ببركة أو نظرة أو كلمة يخفف فيها من أدوائها الجسدية والنفسية. فتعود بقلبٍ أقوى، وإيمان أعمر، ورجاء أوثق، إلى مناضلة الحياة في هذا الوادي وادي الدموع.
مدرسة في الحياة الروحية والنسكية
ولنتصوّر التلامذة العديدين، رجالاً ونساء، الذين جذبتهم حياة القديس، فأرادوا السير على خطواته، فالتفوا، جاعلن من الكهوف والمغاور والمرتفعات، صوامع يعتصمون بها من شرور العالم. ينتظرون تفقّده إياهم، فيصغون بكلِّ لهفة إلى عظاته المشجِّعة، ويتسقطون كلماته وإشارته الموجِّهة الهادية في مجاهل الحياة النسكية.
فلا عجب أن يلخِّص تيودوريطس هذه الأعمال، وقلب الأسقف الغور يغتبط بازدهار الثمار التقوية في بستان أبرشيته جميعهاظن فيقول:
“والحاصل أن القديس أنمى بالتهذيب، جملة نباتات للحكمة السماوية، وغرس لله هذا البستان، فأزهر في كلِّ نواحي القورسية…”.
شهرته وصداقته مع يوحنا فم الذهب
هرب مارون الناسك من النا، فلحقه الناس. واعتزل الشهرة على قمّة جبل منفرد، فشهرته أعماله، وانتشر عرف قداسته حتَّى حاضرة البلاد الكبرى، حتى انطاكية، ومنها سارت إلى أطراف الامبراطورية. فذكره القديس يوحنا فم الذهب في منفاه بكوكوزا من بلاد أرمينية. وكان القديس قد عرف الناسك شخصياً، كما يظهر في رسالته الشهيرة، وقَدَر قداسته، ففكر فيه في أثناء محنته؛ وكتب إليه تلك الرسالة النفسية، العابقة بما كان بين الرجلين من روحية، واحترام متبادل، وأخوّة في المسيح، رغم التفاوت في الرتبة الكنسية بين البطريرك العظيم والقس البسيط. قال بتاريخ السنة 404، وكلا القديسين في آخر أيامه:
“إلى مارون الكاهن الناسك:
إن علائق المودَّ والصداقة التي تربطنا بك تجعلك نصب عينينا كأنّك حاضر لدينا، لأن المحبة تخرق من طبعها،والأبعاد،ولا يصدّها طول الزمان. وكنَّا نودّ أن نكاتبك بكثرة لولا بعد الشقة وندرة المسافرين إلى نواحيكم. والآن فإنّا نهدي إليك أطيب التحيّات، ونحبّ أنتكون على يقين من أننا لا فتر عن ذكرك، أينما كنّا لما لك في ضميرنا من المنزلة الرفيعة. فلا تضنّ أنت علينا أيضاً بأنباء سلامتك. فإن أخبار صحّتك تولينا على البعد أجلّ سرور وتعزية في غربتنا وعزلتنا، فتطيب نفسنا كثيراً إذ نعلم أنَّك في عافية. وجلّ ما نسألك أن تصلّي إلى الله من أجلنا”.
“إن مارون الطوباوي، هيكل الروح القدس الطاهر، قد تعب في كرم المسيح منذ الصباح حتى المساء”. فحقّت له الراحة في مساء تلك الحياة الملأى. وكان ذلك حوالي السنة 410.
موته ووصيته
مات القديس محاطاً بجمهور منتلاميذه الذين كانوا قد أهلوا قم القورسية وأوديتها ومغاورها حتى أصبحت حديقة غنّاء مزدهرة بثمار القداسةالمتنوعة. ولعلّ أ‘لق هؤلاء بنفس المعلِّم وأقربهم إلىالحياة الروحانية المثلى كان القديس زابينا المرشد. ذلك أنه كان أسنّ من القديس مارون، على ما يظهر، وكان مارون يوقر شيخوخته النقية، ويعظّم فضائله، ويقتدي ببعض طرائقه التقشفية، ويدعوه أباً ومعلماً، ويرسل إليه زوَّاره ليستمدوا بركاته. ومن هنا انَّ بعض المؤرخين يجعلون زابينا معلِّماً لمار مارون، وبعضهم يجعلونه تلميذاً له، وكان ان زابينا توفي قبل مارون، فأوصى هذا، في آخر أيامه، بأن يُدفن في قبر زابينا، قاصداً البرهان على إعجابه بفضائل الشيخ الراحل، ورامياً إلى إعطاء سائر التلاميذ أمثولة اتضاع وتجرّد.
دفنه وانتقال رأسه إلى لبنان
إلاّ أن وصيَّته لم تنفذ، فما ان فاضت روحه، حتّى تزاجمت على جثته الجماهير المتقاطرة من القوى العديدة،و كل جمهور يودّ لو اختطف الجثمان فدفنه في قريته. وكان يؤدّي النزاع إلى العراك، حتى ظفر أهل قرية من جنوبي القورسية، فنقلوا الجثة ودفنوها في قريتهم. وأقاموا على القبر تلك الكنيسة التي ذكرها تيودوريطس، وجعلها بعيدة عن مركز أسقفيته أي قورس، دون أن تكون خارجةً عن الأبرشية. قال: “ومع أننا بعيدون عن القديس، فإن بركته تشملنا، وذكره يقوم لدينا مقام ذخائره”. فيكون قبر القدِّيس، والكنيسة الأولى المقامة على اسمه، إنما كانا “في شمالي سورية، جنوبي قورس، في نحو نصف المسافة بينها وبين حلب”، كما يستنتج الأب لامنس.
وفي التقليد الماروني أن جمجمة القديس مارون نُقلت أولاً منهذه الكنيسة إلى دير مارون الكبير، أو “بيت مارون”، المشيد على العاصي. ثم نُقلت من هذا الدير إلى لبنان، إلى دير مارون القائم “شرقي القرية المدعوة كفرحَي في بلاد البترون”، على ما جاء في تاريخ الدويهي قال: “ولما استقر (يوحنا مارون) في كفرحَي، بنى هيكلاً وديراً على اسم القديس مارون. ووضع هامته، مانحة الشفاء، في داخل ذلك الهيكل. ومنها سُمّي الدير “ريش مُرون” أي: “رأس مارون”.
رأس مار مارون في ايطاليا
بيد أن رأس القديس لم يبقَ في لبنان إلا بضعة قرو انتقل بعدها إلى ايطالا على يد راهب بنديكتي. قال الديهي فسه: “في سنة 1130 للتجسد الالهي، قدِم إلى بلاد الشام إحد رهبان القدِّيس مبارك، وكان رئيساً على دير الصليب القريب من فولينيو (ايطالية). وبعد أن كان في الأكامن المقدسة، وأتمّ زيارتها، وهمَّ بالعودة إلى بلاده،إذا به حظي في تلك الأثناء برأس القديس مارون. ففرح فرحاً لا ينعت. ولما وصل إلى وطنه، شرع يخبر الشعب عن فضائل الأنبا مارون… فبنوا له بيعة على اسمه… ثم أن أسقف فولينيو، المسمى لوقا، لمّا كان من غلاة المكرمين للقديس، نقل ذلك الرأس المكرّم إلى نفس المدينة، وذلك سنة 1194. وجعله في كنيسة الأسقفية. فصاغ له المؤمنون شخصاً من فضة وأودعوه فيه”
ووافق السمعاني والدويهي على القول بأن مار يوحنا مارون نقل إلى دير كفرحَي “هامة مار مارون من دير حماه”. ذلك أن الديهي والسمعاني كليهما يجعلان دير مارون الكبير في حماه.
وقال الأب لامنس: “وانما يثبت التقليد أنَّ رأس الناسك القديس، بعد خراب ديره القريب من أفامية، نُقل إلى لبنان”.
وكان من نصيب المطران يوسف الدبس (+1907) أن ينال أثراً من هذه الذخيرة النفيسة في أثناء إقامته بايطالية. قال: “وقد تسنّى لي، مدَّةَ إقامتي في رومة، سنة 1887،وان قابلت أسقف فولينيو، وحدَّثته في هذا الشأن. فحقق لي ان التقليد عندهم ينطبق على ما رويته، وانه ما برح في كنيستهم شيء من هامة القديس مارون، يُعطون منه المؤمنين ذخائر. فسألته ان يتحفني بشيء منها. فأهدى إليَّ خمساً منها. فكنت له شاكراً لهديّة أثمن عندي من الذهب والجواهر”.
مجلة الفصول اللبنانية
عدد 3 – 1980