الثالوث الأقدس الإله الواحد الحق

الثالوث الأقدس الإله الواحد الحق

نظرة لاهوتية-عقائدية، روحية ورعوية

بقلم الدكتور روبير شعيب

الفاتيكان, 16 اكتوبر 2013 (زينيت)

ننشر في ما يلي النص الكامل لمقالة “الثالوث الأقدس الإله الواحد الحق” للدكتور روبير شعيب* التي نشرت سابقًا على صفحة زينيت في أقسام عدة.

كشف لنا يسوع أن “الله محبة” (1 يو 4، 8. 9). لقد بين عن ذلك في كلماته، في أفعاله، في حياته وفي مماته، موت الصليب. إن التجسد بحد ذاته هو كلمة حب بليغة، هو إعلان حب وكشف عن حب الله. يعلمنا ديونيسيوس الأريوباجي أن “المحبة هي قوة مُوَحِّدة”، والتجسد إنها هو اتحاد الله بطبيعتنا لكي يرفعها، لكي يؤلهها.

في صلاة من الليتورجية الافخارستية بحسب الطقس الماروني، نجد تعبيرًا جميلاً للوحدة التي نتحدث عنها: “وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا ، وناسوتنا بلاهوتك ، حياتك بموتنا وموتنا بحياتك. أخذت ما لنا ، ووهبتنا ما لك، لتحيينا وتخلصنا لك المجد إلى الأبد”.

“الله محبة” يعني أمرين اثنين: إن كل أفعال وصفات الله هي أفعال محبة، وقبل كل ذلك، الله هو محبة في ذاته، في كيانه الأعمق. سننطلق من البعد الأول، الذي هو بعد تصرف الله نحو الخلائق، لكي ننظر في ما بعد في كيانه الذاتي بحسب الوحي الإلهي.

الله ليس إلا محبة

لا يمكننا أن نفهم معنى “الله محبة” إلا إذا فهمنا أن الله ليس إلاّ محبة. فمن السهل أن نعتبر المحبة من بين مختلف صفات الله، ولكننا لا نصل بهذا الشكل إلى إدراك جذرية إله المسيحيين. يدعونا الأب اليسوعي فرنسوا فاريون للمرور في نار النفي. ومن خلال مقاربة تكاد تكون استفزازية يتساءل اللاهوتي: هل الله كلي القدرة؟ ويجيب: كلا، الله ليس إلا محبة؛ هل الله لا متناهٍ؟ – كلا، الله ليس إلا محبة.

ويشرح فاريون أجوبته لافتًا إلى أن كلية قدرة الله وقوته لا علاقة لها بقوة ديكتاتور متغطرس أو قوة قنبلة نووية مدمرة. يجب أن ندرك أن كلية قدرة الله هي كلية قدرة الحب وأن الله لامتناهٍ بمعنى أن حبه لا حد له، حبه هو اللامتناهي.

بكلمات أخرى، الله لا يستطيع أن يفعل إلا ما يستطيع الحب فعله، والله لا يستطيع أن يريد إلا ما يريده الحب، والله لا يستطيع أن يكون إلا ما يستطيع الحب أن يكون.

هذا الإطار يبدل كل نظرياتنا وأفكارنا بشأن الله. إن الكثير من الملحدين لم يكونوا ليعتنقوا الإلحاد لو لم تكن فكرتهم بشأن الله غريبة وغير مقبولة لدرجة أنه يمكننا أن نقول مع خوان آرياس: “لا أؤمن بهذا الإله”. فما من مؤمن يقبل بإله من هذا النوع. يجب علينا أن نعمِّد صورتنا وفكرتنا عن الله، أن نمررها بمنخل يسوع. التبشير الجديد يبدأ هنا.

إن الإنجيل هو مقياس يؤهلنا أن نقيس ونوطد فكرتنا بشأن الله. من يرى يسوع يرى وجه الله الحق. عندما ينطق يسوع بالتطويبات، عندما يلخص الشريعة بوصيتي محبة الله ومحبة القريب، عندما يغفر الخطايا، عندما يعانق الأطفال ويعلّم البسطاء، عندما يحب حتى المنتهى فينحني عند أقدام تلاميذه ويغسلها، عندما يموت غافرًا ومسلمًا روحه في يدي الآب… مع قائد المائة، ننظر إلى يسوع هذا، ونرى كيف عاش ومات ونعلن إيماننا: “كان هذا الرجل حقًا ابن الله” (مر 15، 39).

عندما نتأمل بحياة يسوع ندرك أن “الحب ليس صفة من صفات الله، بل إن صفات الله جميعها هي من صفات المحبة” (فرنسوا فاريون). الارتداد الحق هو تحويل نظرتنا بشأن الله، تغيير عقليتنا، تغيير نظرتنا؛ لا يجب أن نخلق الله على صورة أفكارنا بشأنه، بل أن نحول فكرتنا بشأن الله من خلال التبحر والتأمل بحبه الذي ظهر لنا في يسوع المسيح

الله الآب بحسب الأديان وبحسب يسوع

يسوع ليس أول من استعمل كلمة “أب” للحديث عن الله. هوميروس في الأوديسيا يسمي زيوس “أب البشر والآلهة”. وفي طقوس ميترا الأسرارية يُسمى الإله “أب المؤمنين”. وتُعلم الـ “ريغ فيدا”، الديانة الهندية القديمة، أن النبات يأتي من اتحاد الأرض الأم (بريثيفي) مع السماء الأب (دياوس بيتا).

هذا وإن الأبوة الإلهية في الأديان كانت تؤدي إلى الحلولية. فالأرض ليست مخلوقة من الإله، بل هي تنبع منه مثلما ينبع النور من الشمس.

لهذا السبب، كان العهد القديم حذرًا جدًا في استعمال “الأبوة” في الحديث عن الله. وعندما يتحدث عن هذه الأبوة فهو يشير إليها بتوضيح ضروري.

التوضيح الأول يربط أبوة الله بالعهد، بالميثاق. فإسرائيل هو ابن الله بفضل اختيار الله له وأمانته للعهد (راجع خر 4، 22 – 23؛ تث 14، 1 – 2).

المعنى الثاني يشير إلى الفداء. فالله هو أب لإسرائيل لأنه يفدي ويخلص شعبه: “أنت، أيها الرب، أبونا، من الأزل دُعيت مخلصنا” (أش 63، 16).

المعنى الثالث يشير إلى الخلق. “أنت يا رب أبونا، ونحن كالخزف بين يديك. أنت تصوغنا، ونحن جميعًا عمل يديك” (أش 64، 7). الله أب بمعنى أنه الخالق الحنون. إن فكرة “الخلق” تنفي كل مفاهيم الحلولية وانبثاق الخليقة من الله، وتقيم فصلاً واضحًا بين الخالق والخليقة.

قلما يتوجه العهد القديم إلى الله فيدعوه “آب” بالصلاة. وعندما يستعمل ذلك، يربطه دومًا بكلمة “رب” للتشديد على سمو الله. نرى مثالاً على ذلك في سفر ابن سيراخ: “أيها الرب، أب حياتي وإلهها…” (23، 4).

هناك أمر لافت في العهد القديم: إن أبوة الله لا تأخذ طابعًا أبويًا حصريًا، بل يستعين الكتّاب الملهمون بصور وخصائص أمومية. فيتم التعبير عن رحمة الله، على سبيل المثال، من خلال الحديث عن الرحم الأمومي (رحميم بالعبرية). إن حب الله لنا هو أمومي، ينبع من الأعماق، هو متجذر بكيانه الأعمق.

حنة باربارا غرل تبين كيف أن الكتاب المقدس يقدم ما لا يقلّ عن 20 صورة أنثوية للحديث عن الله. “مثلما تعزي الأم ولدها، هكذا أعزيكم أنا” (أش 66، 13). لقد أصاب ذلك الطفل الذي أجاب على السؤال عما إذا كان الله أبًا أو أمًا عندما قال: “إن الله أبٌ يحب بقلب أًم”.

ولكن هناك أمر آخر هام: إن كُتّاب العهد القديم، لا يكتفون باستعمال التشابيه الأبوية والأمومية للحديث عن الله، بل يبينون كيف أن أبوة وأمومة الله تتجاوز المحدودية التي تميز هذه الأدوار البشرية. نستشهد بآيتين لإيضاح الفكرة: ” قالت صهيون: ’تركني الرب ونسيني سيدي‘.  ’أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك” (أش 49، 14 – 15). وأيضًا: “إذا تركني أبي وأمي فالرب يقبلني” (مز 27، 10).

ميزة العهد الجديد

مع العهد الجديد نرى تحولاً جذريًا. يسوع يتوجه دومًا إلى الله بكلمة “آب”. هناك استثناء واحد، عندما يصرخ يسوع على الصليب: “إلهي، إلهي، لِمَ تركتني؟”. ولكن هذا الاستثناء يثبت القاعدة لأنه استشهاد بالمزمور 22.

يتوجه يسوع دومًا إلى الآب بدالة لا سابق لها، ويستعمل كلمة تُستعمل في الإطار البيتي الحميم: “أبّا” (مر 14، 36). لقد انطبعت دالة يسوع هذه في قلب التلاميذ لدرجة أنهم نقلوا الكلمة بالأصل الأرامي حتى في الأناجيل المترجمة إلى اليونانية (راجع روم 8، 15؛ غل 4، 6).

يعلم الناصري تلاميذه النظر إلى الله كأب صالح: “من منكم إذا سأله ابنه رغيفا أعطاه حجرا، أو سأله سمكة أعطاه حية؟ فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأبنائكم، فما أولى أباكم الذي في السموات بأن يعطي ما هو صالح للذين يسألونه!” (مت 7، 9 – 11).

يدعو يسوع تلاميذه لكي يكونوا كاملين ورحماء مثل أبيهم السماوي (راجع مت 5، 48؛ لو 6، 36) الذي “يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجار” (مت 5، 45). ويعلم يسوع تلاميذه أن يتوجهوا إلى الآب بالصلاة بدالة الأبناء قائلين: “أبانا” (راجع مت 6، 9؛ لو 11، 2).

بحق يلخص المؤرخ أدولف فون هارناك النواة الأساسية في المسيحية خصوصًا في “إعلان أبوة الله”.

هل كان يسوع يدرك أنه الله؟

رغم أن يسوع علم تلاميذه أن يتوجهوا إلى الله كآب، إلا أنه لم يُقِم أي رابط مساواة بين علاقته بالآب وعلاقة البشر به. نجد في كلام يسوع تمييز كبير بين “أبي” و “أبيكم” (راجع يو 20، 17).

يقول اللاهوتي لويس فرنسيسكو لاداريا: “لا نجد أبدًا في العهد الجديد مقولة يضم فيه يسوع نفسه إلينا وكأننا على المستوى نفسه. فعلاقة يسوع بالآب هي فريدة لا تتكرر. هذا الأمر يظهر إن في كلماته وإن في تصرفاته، وبشكل خاص في صلاته الفردية”.

إن بنوتنا تختلف كليًا عن بنوة يسوع. لا بل نحن أبناء بفضل بنوة يسوع الفريدة. فنحن نضحي “أبناءً بالتبني من خلال يسوع المسيح” (أف 1، 5؛ غل 4، 5). وكما يشرح بشكل جميع القديس إيرناوس: “نحن أبناء بالابن”.

سنقدم بعض الشواهد الكتابية التي تثبت ما نقوله:

يتحدث يسوع عن الله دومًا كـ “أبي” (راجع مت 7، 21؛ 10، 32؛ 11، 27؛ 16، 17؛ لو 2، 49؛ 10، 22؛ يو 2، 16؛ 5، 17، إلخ). في الأناجيل الإزائية، يتم الحديث عن يسوع كـ “ابن الله” في لحظات محورية من سيرته: في البشارة (لو 1، 35)، في المعمودية (مت 3، 17؛ لو 3، 22)، في التجلي (مت 17، 5؛ مر 9، 7)، في الموت على الصليب (مت 27، 54؛ مر 15، 39).

هذا وإن أعداء يسوع بالذات يؤكدون تحت الصليب أنه قال عن ذاته: “أنا ابن الله” (مت 27، 43).

ويقدم لنا إنجيل يوحنا إطارًا متينًا وغنيًا يكشف عن العلاقة الفريدة بين الآب ويسوع. فيسوع يتحدث عن ذاته دومًا كـ “الابن” بإشارة واضحة جدًا إلى الآب. ويقول علانية “ابن الله” (يو 11، 4)، و “الابن الوحيد” (يو 3، 16).

هذا ويفتتح الإنجيلي مقدمة إنجيله بالاعتراف بألوهية يسوع: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله والكلمة كان الله” (يو 1،1) وبالشكل عينه يختتم المقدمة الشعرية: “الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي الله والذي هو في حضن الله، كشف عنه” (يو 1، 18).

وفي ختام إنجيل يوحنا نسمح الإنجيلي يعلن عن مقصده في كتابة الإنجيل: “لكي تؤمنوا بأن يسوع هو المسيح، ابن الله، ولكيما، بإيمانكم به، تكون لكم الحياة باسمه” (20 ،31).

هذا وإن الأناجيل الأربعة هي مشبعة بإعترافات الناس بأن يسوع هو “ابن الله”.

إذا ما تعمقنا في قراءة الأناجيل، نرى أن يسوع لا يعتبر نفسه “ابن الله” مثل أحد أبرار العهد القديم. يسوع يدعو نفسه ابن الله بمعنى المساواة والوحدة مع الآب. لهذا السبب كان اليهود يريدون أن يرجموه، لأنهم كانوا يظنون أنه يجدف إذ أنه “يدعو الله أباه، مساويًا نفسه بالله” (يو 5، 18).

وبالحديث عن نفسه، يستعمل يسوع في إنجيل يوحنا مرات عدة تعبير: “أنا هو” الذي يشير إلى اسم الله بحسب ما كُشف لموسى (راجع خر 3، 14). خيار يسوع هذا كان يثير غضب اليهود، الذين كانوا يدركون جيدًا معنى استعمال هذا الاسم (راجع يو 8).

وعليه، فالأناجيل تبين لنا بوضوح تام أن وحدة يسوع بالله الآب، ليست مجرد وحدة أخلاقية، وحدة محبة وقداسة من قِبل خليقة أمينة نحو خالقها.

وحدة يسوع بالآب هي وحدة جوهرية، كيانية، جذرية. يقول يسوع دون مراوغة: “أنا والآب واحد” (يو 10، 30).

وعليه فالجواب على السؤال الذي نطرحه في عنوان هذه المقالة هو: نعم وألف نعم!!!

خلاصة القول، إن الأناجيل، التي نملك مخطوطات قديمة جدًا منها تعود إلى القرن الأول، تشهد باستمرار لألوهية يسوع المسيح. لا كقرار أخذته الكنائس، بل كإرث تلقاه المسيحيون، كوديعة لا يحق لهم أن يتلاعبوا بها أو أن ينكروها.

ولكمّ كان يطيب لهم أن يقولوا أن يسوع كان مجرد نبي، أو مجرد معلم وحاخام!!!! أما كان لذلك أن يعتقهم من اضطهاد اليهود ومن غضب الرومانيين؟؟؟؟ ما كانت مصلحة المسيحيين بإعلان ألوهية المسيح، لو تكن وديعة سلّمها لها يسوع؟؟؟؟

هذا، ومن ناحية أخرى، نسأل: كيف لنا أن نفهم بغض اليهود ليسوع لو أنه لم يشر دومًا إلى ألوهيته، جاذبًا غضبهم وغيظهم وكرههم لما اعتبروه تجديفًا؟؟؟

سيناريو سيرة يسوع التي يشهد لها التاريخ تؤكد أنه رُفِض من قبل اليهود بسبب إعلانه عن ذاته كابن الله. والمسيحيون عانوا فورًا بسبب أمانتهم ودفعوا بالدم ثمن إيمانهم. ولذا إعلان ألوهية يسوع كان وسيبقى فعل أمانة وإيمان بطولي.

هل الله سجين وحدته؟

يميز القديس باسيليوس بين نوعين من الكلمات: كلمات مُطلَقة وكلمات نسبية. إن مثلاً بسيطًا يفي بالإيضاح:

“رجل”، “حصان”، “شجرة” هي كلمات تشير إلى واقع ما بحد ذاته، ولا ترمي إلى علاقة ضرورية تجعل هذه الوقائع ذاتها. فالحصان هو حصان بحد ذاته، لا يُنسب بشكل مطلق إلى شيء، ولا تتضمن المكلمة بحد ذاته نسبةً ما. وكذلك كلمة “شجرة” لا ترمي بشكل ضروري إلى واقع آخر.

أما كلمات مثل “صديق”، “ابن”، “أب”، هي كلمات نسبية وهي تدل بشكل ضروري إلى نسبة، إلى علاقة مع آخر. فالابن يشير إما إلى أب أو إلى أم أو إلى الاثنين معًا، وإلا لا يكون ابنًا. وكذلك كلمة أب، تشير بحد ذاتها إلى علاقة مع ابن أو ابنة.

يمكننا أن نصرح بأن ولادة ابن تتزامن مع ولادة أبيه! الأب، بالطبع، هو موجود قبل ابنه، ولكنه ليس موجودًا كأب، يضحي وجوده أبويًا مع وجود الابن.

هذا ويكشف لنا يسوع أن الله “نسبي” في ذاته!

فلنوضح الفكرة: يتحدث يسوع عن الله كآب. ونتساءل: هل يضحي الله أبًا في الزمن؟ أم هو هو، آب في أزليته؟ – بالطبع، إن الله ليس كأشجار الخريف التي تبدل أوراقها وتتحول مع الزمان. الله لا يُضحي آبًا في الزمن، ليس هناك تحوّل في الله. وعليه لا يضحي الله آبًا مع وجود الخليقة. فالخليقة موجودة من مليارات السنين، إلا أن الديانات السماوية جميعها – اليهودية، المسيحية والاسلام – تتفق على أنها ليست أزلية بأزلية الله. وعليه، لو كانت أبوة الله مرتبطة بالخليقة، لكانت واقعًا زمنيًا، وهذا لا يليق بالله تعالى!

لذا لا يجوز أن نربط أبوة الله بالخليقة الزمنية. الله لا يُضحي آبًا. الله آب في حد ذاته، لا يتحول ولا يتغيّر.

وهذا هو كنه الوحي بالثالوث الأقدس الذي نحوزه في يسوع المسيح: الله آب “منذ البدء”، لا بدء الخليقة كما قلنا، بل ذلك البدء قبل كل بدء الذي يتحدث عنه الإنجيلي يوحنا “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة كان الله” (يو 1، 1).

في البدء – ونتحدث بلغة تصويرية لفهمنا البشري المحدود – كان الكلمة، الابن في حضن الآب السماوي (يو 1، 18). لا بل إن اللاهوتي البروتستانتي كارل بارت يوضح لنا أن إمكانية أن يكون الله أبًا للخليقة ينبع من جوهره كيانه الأبوي منذ الأزل، من كونه آب للابن الكلمة.

يعلّم القديس توما الأكويني أن الشخص الإلهي (المسمى في اللاهوت “أقنوم”) هو “علاقة جوهرية”. هذه الفكرة تُدخل ثورة فلسفية في الفكر الأرسطوي. فبحسب أرسطو، “العلاقة” لم تكن واقعًا جوهريًا بل عرضيًا يرتبط بالكائنات التي تتبدل مبدلة علاقاتها المتبادلة.

ليس الأمر كذلك مع الثالوث الأقدس. العلاقات بين الأقانيم الإلهية هي علاقات جوهرية. بكلمة أخرى، ليس هناك مجرد علاقات بين الأقانيم الإلهية، بل إن الأقانيم الإلهية هي بحد ذاتها علاقات (حب). فلنوضح الفكرة أكثر:

الآب هو آب في علاقته التامة مع الابن وفي هبة الروح القدس. والابن هو ذاته في علاقته الجوهرية مع الآب ومع الروح القدس.

بهذا المعنى يمكننا أن نقول أن الله “نسبي”: الله نسبة مطلقة، علاقة حب مطلقة وأزلية بين الآب، الابن والروح القدس.

ألوهية الله وعظمته لا تكمن في تحجيمه وراء قضبان سجن الرقم 1 ظنًا منا أن هذا دفاع عن التوحيد. هذا توحيد صنمي منغلق ويابس. الرقم 1 ليس أكبر من الله، ولا يصف الله. الله أكبر من الأرقام وجداول الطرح والجمع والضرب والتقسيم. نقول الله “تعالى” لأنه يعلو قدرتنا على إدراكه وتحجيمه إلى أفكارنا.

ألوهية الله هي ألوهية محبته اللامتناهية، والمحبة علاقة وانفتاح. محبة الله أزلية، إذا الله علاقة، اتحاد وانفتاح منذ الأزل.

الله اللامتناهي ليس لامتناهيًا في المساحة، هو لامتناهٍ في قدرته على عطاء الذات، على العلاقة. يقول لنا اللاهوتي فالتر كاسبر كلمات قوية في هذا الشأن: “إن ألوهية الله تكمن في عظمة محبته. وعليه يستطيع الله أن يهب ذاته دون أن ينقص. بل هو يبقى ذاته من خلال عطاء الذات إلى الآخر. يُبين عن كيانه الإلهي من خلال التجرد عن الذات”.

بالطبع هذه كلمات على حدود التعبير البشري، ولكنها تفي بالغرض لكي ترمي عرض الحائط أفكارنا الأنتروبومورفية (المطبوعة على صورة الإنسان) بشأن الله. عندما نتصور عظمة الله كعظمة سلطان متغطرس يملأ الأبدية بأناه المتورم المنطوي على تتيم نرسيسي بأنا منفرد مستوحش، يحتاج إلى الخليقة لكي يتخلص من صدى أبدية منفردة!

الله محبة، إذًا الله ثالوث

الحب فعل يدفع الإنسان للخروج من ذاته. عندما نحب، نُحبّ بالضرورة شيئًا أو أحدًا. فالحب بطبيعته يتوق إلى آخر-مختلف.

عندما نقول مع القديس يوحنا: “الله محبة” (1 يو 4، 8 . 16)، نقول بالضرورة أن الله منفتح على “آخر”.

من هو هذا الآخر؟

إذا أجبنا: “العالم” أو “الإنسان”، يكون جوابنا خطرًا لسببين:

– أولاً، نصرح بأن الله، قبل خلق العالم والإنسان في الزمان (وهذا اعتقاد الأديان السماوية: العالم ليس أزليًا)، لم يكن محبة!

– ثانيًا، نصرح بأن الله كان بحاجة للعالم وللإنسان لكي يحقق ذاته، لكي يخرج من أناه وأنانيته الأزلية. فالحب المنطوي على ذاته ليس حبًا، هو أنانية، هو انغلاق.

إن الإيمان المسيحي، ارتكازًا على ما علّم يسوع بشأن الله، فهم أن الله محبة منذ الأزل، قبل الخلق وقبل الزمان.

في البدء لم يكن هناك الصمت والوحشة، بل كان هناك الكلمة والشركة، شركة المحبة. حوار الحب هذا هو الروح القدس، “روح المحبة” الذي يوحد الآب بالابن.

في كتابه الرائع حول الثالوث الأقدس، يشرح القديس أغسطينوس بأن كل فعل محبة حقيقي هو صورة عن الثالوث. ففي فعل المحبة هناك المُحِبّ، المحبوب والحب الذي يربط بينهما.

انطلاقًا من هذا التشبيه، يربط القديس الإفريقي التفكير بالثالوث الأقدس وحدس شيء من نوره بالمحبة. يقول أغسطينوس: “ترى الثالوث إذا رأيت الحب” (vides Trinitatem, si caritatem vides).

في الثالوث الأقدس، الآب هو المُحبّ، هو مصدر الحب، الابن هو المحبوب، هو الذي يجيب على الحب، والروح القدس هو الحب المتبادل.

الله محبة، إذا الله ثالوث

ارتكز الكثير من اللاهوتيين والمتصوفين على تعليم القديس أغسطينوس بشأن الترابط بين المحبة والثالوث، وقد لمع في العصر الوسيط راهب اسمه ريكاردوس من دير سان فيكتور. وقد تأمل ريكاردوس بالثالوث الأقدس انطلاقًا من تشبيه الحب الشخصاني.

الحب بطبيعته هو واقع يدفع المرء للخروج من ذاته، هو نسيان للذات وانفتاح على الآخر.

لكي يكون هناك حب حقيقي، لا بد من أن يكون هناك آخر. ويجب على هذا الآخر أن يكون مساويًا بالكرامة، وإلا لما كان الحب حبًا، بل شفقة ورحمة.

هذا وإن أصالة هذا الحب تظهر من خلال خصبه وعدم سقوطه في فخ الانطواء على الثنائي. فالانطواء يطفي الحب بين الاثنين ويبين أن حبهما لم يكن كاملًا، بل “أنانية ثنائية” كما يقول عالم النفس أريك فروم. إن كمال الحب بين الأشخاص هو حب مساوٍ لهما يجمع بينهما.

يصعب علينا كبشر أن ندرك كيف أن الحب وهبة الذات لا يؤديان لإخلاء وإفراغ من يُحب. هذا الأمر يعود إلى محدودية خبرتنا للحب: فنحن نحب انطلاقًا من محدوديتنا وبالتالي يكون حبنا محدودًا مجتزئًا وكذلك وحدتنا بالمحبوب تكون محدودة. أما الله فهو يحب انطلاقًا من لا محدودية حبه، من قدرته اللامتناهية على الحب والعطاء، وعليه فحبه كامل ويولد وحدة كاملة.

هو الحب في الله الذي يجمع بين ما قد يبدو متناقضًا لأول وهلة أي التعدد والوحدة. في الله تعدد لأن المحبة تطلب التعدد ولكن الله واحد لأن المحبة تؤدي إلى وحدة. وبما أن محبة الله كاملة فوحدة الله كاملة.

الوحدة في الثالوث ليست مصيرًا لا محالة منه، هي فعل محبة، هي دينامية، هي حياة.

الله واحد ولكنه ليس مستوحشًا، الله ثالوث لكنه ليس “عائلة” آلهة. فالمحبة الكاملة هي وحدة كاملة أعمق بكثير من وحدة تنبع من الرقم واحد.

رقصة الحب

في كتابه الشهير “فن الحب”، يتحدث عالم النفس أريك فروم عن مفارقة الحب الحقيقي. من خصائص الحب أنه يوحّد دون أن يذيب الآخر. الحب هو عندما يتحد اثنان دون أن تؤدي تلك الوحدة إلى ضياع ثنائيتهما.

ويقدم الفيلسوف الكبير هيغل أفكارًا عن الحب تفيد جدًا لغايتنا:

“الحب هو تمييز بين اثنين، ليسا أحدهما للآخر مجرد مختلفين. إن إدراك وحدس هذه الوحدة، ووعي كياني خارج ذاتي وفي الآخر، هو الحب بالذات. إن وعيِ الذاتي لا ينحصر في ذاتي، بل في الآخر؛ ولكن هذا الآخر، بما أنه خارج نفسه، يملك بدوره وعيه الذاتي فيَّ، وعليه فكلانا نعيش وعيًا مشتركًا، وهو وعينا بأننا خارج ذواتنا من أجل الآخر. هذا هو الحب”.

طبيعة الحب هي أنها توحد دون إزالة الاختلاف. الاختلاف ليس خلافًا أو انشقاقًا. وهذا النوع من الحب يظهر في الثالوث الأقدس بشكل كامل. فأقانيم الثالوث الأقدس هي متحدة لا لتشكل اختلاطًا عشوائيًا، بل لكي يكون أحدها في الآخر، إذا جاز التعبير.

يقدم يوحنا الدمشقي عبارة تقنية هامة تلخص هذه النظرة. العبارة اليونانية هي “perichóresis” وهي تتألف من “peri ” (حول) و “choreia ” (رقص). إن التشبيه يهدف إلى تقديم فكرة عن كيان الله ككيان ديناميكي، حي، وفرح.

تعيش أقانيم الثالوث الأقدس في تبادل حب وانتباه وحضور يشبه الرقصة. عندما ننظر إلى رقصة جيدة، نرى أن الجميع يتحركون على وقع موسيقى واحدة، بتناغم وانسجام وجداني وحقيقي. دون هذا الانسجام لا يمكننا أن نتحدث عن واقع الرقصة. كذلك الأمر، إذا جاز التعبير، يمكننا أن نقول أن في الثالوث رقصة توحد الأقانيم، في وحدة ليست مصيرًا مفروضًا، بل هو قرار حب حر وطوباوي.

هذا التشبيه استمده يوحنا الدمشقي، واستمده اللاهوتيون عامة من كلام يسوع بالذات. ففي إنجيل يوحنا يتحدث يسوع عن علاقته بالآب قائلاً: “أنا في الآب والآب فيّ” (يو 14، 10 – 14)؛ “الآب فيّ وأنا في الآب” (يو 10، 38؛ 17،21).

إذا نظرنا إلى أيقونة الثالوث كما صورها الراهب والفنان الروسي أندريي روبليف، نرى أن واقع الـ “بريكوريزيس” موجود في نظرات الأقانيم الثلاثة. في تبادل النظرات ونوعيتها، يصبح “الفراغ” بين الأقانيم موضع حضور وشركة. في هذه الشركة يهب كل من الأقانيم ذاته للآخر ويفسح المجال لحضور وكيان الآخر.

اللافت في هذه الأيقونة أيضًا هو أن هناك فسحة في اتجاه من ينظر إلى الأيقونة ومن يصلي أمامها. هذه الفسحة هي للبشرية ولكل إنسان، لكي يدخل في رقصة حب الثالوث الأقدس.

الثالوث الأقدس ليس نظرية حول الله، الثالوث الأقدس يُعاش بحق في خبرة صلاة واتحاد حب بالله.

الثالوث الأقدس في النفس البشرية

“لا تخرج من ذاتك، بل ادخل إلى أعماقك: الحقيقة توجد في الإنسان الباطني. وإذا وجدت أن طبيعتك ليست وطيدة، تسامى على ذاتك. ولكن اذكر أنك بتسامي ذاتك، أنت تتسامى على نفس عقلية: تُق، إذًا، إلى حيث يضيء نور العقل”. عن أي نور يتحدث القديس أغسطينوس في هذا المقطع الشهير من كتابه “الدين الحق”؟

إذا ما شرحنا هذا المقطع من فكر أغسطينوس على ضوء نصوص لاحقة، يمكننا أن نجيب بهذا الشكل: النور هو حضور الله في النفس وإشعاعه فيها.

بالنسبة لأغسطينوس، الطريق الأفضل للوصول إلى الله هو الإنسان: “اجعل من الإنسان طريقك – يقول لنا القديس الفيلسوف – فتصل إلى الله”.

كل فكر أغسطينوس في هذا الموضوع ينطلق من آية سفر التكوين التي تتحدث عن الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله (راجع تك 1، 26 – 27). ويفكر أغسطينوس بهذا الشكل: إذا كان الإنسان مخلوقًا على صورة الله فمثاله، لا بد أن يكون فيه أثر، بصمة ولمسة (إذا جاز التعبير) من الثالوث الأقدس.

الذاكرة، العقل والإرادة

يتحدث أغسطينوس عن ثلاث ملكات موجودة في الإنسان وهي بحسب أسقف هيبونا تذكرنا بالثالوث الأقدس: الذاكرة، العقل والإرادة.

ويشرح أغسطينوس: كل إنسان يملك نوعًا من ذاكرة عن وجوده وحياته. لا يجب أن نعتبر الذاكرة بالمعنى العام. الذاكرة ليست حاسة نتذكر فيها الأحداث أو ننساها. بالمعنى الأغسطيني، الذاكرة هي أقرب إلى الإدراك الذاتي أو الوعي، هي حدسنا لـ ’أنا‘ نا. هذه الذاكرة هي بشكل مجازي صورة للآب. من هذا الوعي الذاتي يتولد الفكر أو العقل أو المعرفة. بهذا الشكل نرى أن العقل هو ابن الوعي الذاتي، وهو بشكل مجازي صورة للآب الذي يلد الابن (بالطبع الولادة هي تعبير مجازي، لسنا نتحدث هنا عن ولادة جسدية تتطلب ممرضات ومياه ساخنة وأوجاع مخاض!!!! اعتذر للنهفة، ولكنها تفي التفسير).

هذا وإن وعينا الذاتي وفكرنا يرتبطان أحدهما بالآخر بفعل إرادة. بكلمة أخرى نحن نحب ونريد ذاتنا (وإلا لقمنا بالانتحار) ونحب الفكر الذي يعبّر عن ذاتنا بشكل حقيقي. وكذلك بشكل مجازي، الروح القدس يولد من الآب والابن ويشكل رباط الحب بينهما.

هذا وإن هذه الحواس أو الملكات الثلاث هي متمايزة ولكنها واحدة في الإنسان الواحد، وكذلك بشكل مجازي يمكننا أن نقول أو نفهم بعض الشيء الثالوث الأقدس الإله الواحد.

ويعود أغسطينوس مرات عدة إلى موضوع صورة الله في الإنسان، لافتًا إلى أن “الروح البشري الذي يذكر نفسه، يفهم نفسه ويحب نفسه: إذا ما تمعنا في هذا الأمر، رأينا ثالوثًا، بالطبع، لسنا بعد بصدد ثالوث الله، ولكن بصدد صورة الله”.

ويقول في موضع آخر: “إليكم صورة عن الثالوث الأقدس: الروح، معرفة ذاته التي هي ’ابنه‘ والكلمة المولود منه، وفي المقام الثالث المحبة”.

خبرة الثالوث الأقدس في النفس. ولادة الابن الأزلية ليست جسدية بل روحية

كان لفكر أغسطينوس حول صورة الثالوث الأقدس في النفس البشرية أتباعٌ مهمين في تاريخ الفكر اللاهوتي. نلفت إلى شخصيتين بارزتين بينهم: غييوم دو سان تياري والقديس بونافنتورا.

كلا اللاهوتيين يبينان كيف أن الثالوث الأقدس يشع في النفس البشرية ويحثاننا على تأمل الثالوث الأقدس في النفس كما في مرآة.

يكتب القديس بونافنتورا: “أدخل إلى ذاتك، وتأمل في نفسك. فهي تحبّ ذاتها بشكل عميق؛ ولكنها لم تكن لتحب ذاتها لو لم تعرف ذاتها؛ ولم تكن لتعرف ذاتها لو لم يكن لديها ذكر لذاتها، لأننا لا نستطيع أن نفهم إلا ما هو محفوظ في ذاكرتنا؛ وعليه بعين العقل – وليس بعين الجسد – يمكنك أن تفهم أن للنفس قدرات ثلاث. أنظر في هذه القدرات فترى الله من خلال ذاتك كونك صورة الله: وبهذا الشكل تنظر إلى الله كما في مرآة”.

هذا ويقدم القديس يوستينوس، وهو من مدافعي المسيحية الأولين تشبيهًا يبين لنا أن ولادة الابن ليست ولادة جسدية، كما لو كان في الله مخاض وحبل، إلخ. فالفيلسوف المرتد إلى المسيحية بعد أن اختبر العديد من التيارات الفلسفية والدينية، يدحض تفاهة من يتهم المسيحيين بأنهم ينسبون لله خصائص وصفات تتعلق بالمرأة الحامل. يستعمل يوستينوس تشبيه العقل الذي يولد الفكر، ويقول أنه بشكل مماثل يمكننا أن نفكر بالآب الذي منذ الأزل يحمل اللوغوس (الكلمة، الفكر، الحكمة، إلخ) في ذاته. اللوغوس هو كلمة الله الموجودة في حضن الله، في فكر الله، وحرمان الله من حكمته هو جعل الله جاهلاً. فيسوع هو كلمة من الله، وكلمة الله ليست زمنية بل هي أبدية من أبديته. كلمة الله ليست كلمة مائتة أو زائلة، بل هي أبدية هي حية لدى الله وفي الله.

وهذا ما يقوله مطلع إنجيل يوحنا. في البدء كان اللوغوس، واللوغوس كان لدى الله واللوغوس كان الله. لقد تركت الكلمة اليونانية قصدًا لأنها تتضمن الكثير من المعاني التي تفوق مجرد تعبير “الكلمة”. اللوغوس هو في الوقت عينه: الروح، الحكمة، الفكر، العقل، المعنى، الكلمة، إلخ.

وعليه فالتثليث هو تعبير عن سمو الله، عن حكمته الأبدية. الله منذ الأزل وإلى الأبد متحد بحكمته الأزلية. وكما أن هناك تمايز واتحاد بين الإنسان وفكره في الوقت عينه، كذلك في كيان الله – كما كشفه لنا يسوع المسيح – هناك تمايز واتحاد بين الآب والابن.

بالعودة إلى تشبيه يوستينوس، يتوضح لنا أن “ولادة” الابن هي تعبير مجازي، وليست ولادة جسدية مع آلام المخاض وبحضور الدايات.

يوضح أغسطينوس هذا التبشبيه عندما يقول: “وكأن الآب قال نفسه عندما ولد الكلمة، المساوي له في كل شيء”. الآب يعطي ذاته للابن، يعطي ذاته في الابن ويقول ذاته في الابن.

معرفة الثالوث

في إحدى صلواته يتوجه القديس باسيلسيوس الكبير إلى الله بهتاف تعجب: “ما أروع المعرفة التي أحوزها عنك من خلال النظر إلى ذاتي!”. في محيّا الإنسان يُشع مجد الله: “مجد الله هو الإنسان الحي”، يقول القديس إيرناوس في تعبير شهير، ويضيف: “حياة الإنسان هي رؤية الله”. يعيش الإنسان بالملء عندما يدخل في رؤية محوِّله لسر الله، عندما يقبل من فم الله نسمة روحه المحيي والذي يخلقه من جديد.

الرؤية التي نتحدث عنها ليست مجرد فضول العين، بل هي العيش بحسب حياة الله. ولمسة الله في حياة الإنسان هي هبة ومهمة في آن، مهمة تحثنا على أن نضحي على مثال الله الذي خلقنا على صورته في الأصل.

إن مسيرة الأنسنة هي مسيرة طويلة من الصورة إلى المثال، المثال الإلهي، المثال الثالوثي: نضحي بشرًا حقًا، عندما نسمح لله بأن يؤلهنا.

في هذا الإطار، لا يبقى الحديث عن الثالوث مجرد تفكير مجرد بشأن الله انطلاقًا من الآيات الكتابية التي تتطرق إلى الموضوع، بل يضحي مشروعًا يلهم حياة المرء ويحولها.

معرفة الثالوث لا تتوق إلى المعلومات المجردة بل إلى التحول، تحول نظرتنا وحياتنا بعينها وإلى زرع القلب الجديد في صلب كياننا الروحي، قلب ينبض بالشراكة والحب اللذين نتأملها في أيقونة الثالوث الإله الواحد الحق.

الحياة المسيحية ليست مجرد معرفة بشأن الله، بل هي معرفة شخصية وحميمية لله، هي دخول في صلب رقصة حب وفرح الثالوث الأقدس. والولوج في هذا الحب يتم بفضل محبة الله التي أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهب لنا، بحسب ما يعلمنا القديس بولس الرسول (روم 5 ، 5).

بحق يقول القديس الروسي سيرافيم ساروفسكي بأن غاية الحياة المسيحية هي الحصول على الروح القدس. من يقبل الروح بشكل ثابت في كيانه، يدخل في عناق وقبلة الثالوث الأقدس. وقد أدرك جيدًا القديس برنردوس أن رمز القبلة في نشيد الأناشيد يير إلى الروح القدس. فمعلم الكنيسة يتساءل: “ما هو الروح القدس إلا القبلة التي يتبادلها الآب والابن؟”.

الاختبار الصوفي للثالوث الأقدس

فقط من اختبر سكنى الثالوث الأقدس في النفس يستطيع أن يشرح ما يعني الإيمان بالثالوث الأقدس. إليزابيت كاتز، كانت شابة في مطلع القرن العشرين، اكتشفت أن دعوتها هي تحقيق معنى اسمها (الاسم العبري يعني بيت الله). لهذا السبب، عندما قررت دخول الكرمل في ديجون، اختارت اسم “أليزابيت (أليصابات) الثالوث”. كان هذا الاسم أكثر من تسمية تقوية، كان مشروع حياة: أن تضحي أليزابيت سكنى الثالوث وتعيش حياةً تمجد الثالوث الأقدس.

في إحدى رسائلها تكتب المتصوفة الفرنسية: “إن كل جهادي الروحي يتمثل بالدخول إلى ذاتي والغوص في الثالوث القائم فيّ”.

وتتحدث مصلحة الكرمل، القديسة تريزا الآفيلية، عن سكنى الله في عمق النفس فتخبر عن بعض أبعاد خبرة صوفية: “تصورت لي النفس وكأنها اسفنجة متشربة من اللاهوت، وإذا بها تعيش طوباوية عميقة تنبع من حضور الأقانيم الثلاثة في ذاتها”.

إن حضور الله فينا، وانحداره صوبنا، هو مدعاة دهشة كبيرة. العديد من آباء الصحراء الشرقيين كانوا يعتبرون الصلاة كفعل دهشة أمام حضور الله وانحداره في النفس. كيف لي أن يأتي ربي إلي؟!

أن نكون حاضرين بتتيم للحب الحاضر فينا، هذه صلاة! الصلاة هي حضور للحاضر بشكل مطلق. الصلاة هي دخول في صلاة وتواصل الله الثالوث، في تبادل الحب بين الأقانيم الإلهية، هي فتح عيوننا على واقع أننا سكنى الله، على أننا موضع حبروه، على أن قلبنا هو تلك الوليمة التي يجلس حولها الآب والابن والروح القدس.

ولكن لا يكفي أن ندرك ان النفس هي سُكنى الثالوث، يجب أن نوقن أن الثالوث هو أيضًا سُكنى النفس. يحقق الله فينا ومعنى رقصة الثالوث التي تحدثنا عنها سابقًا.

تكتب إليزابيت: “الثالوث الأقدس: هوذا سكنانا، ملاذنا، بيتنا الأبوي، الذي لا يجب أن نبتعد عنه”.

لقد أدرك بعمق جبران خليل جبران معنى العيش في محبة الله عندما قال: “إذا أحببت، لا تقل: الله في قلبي، بل قل: أنا في قلب الله”.

أن نعيش في الثالوث، أن نعيش الثالوث، يعني أن نسمح لتيار الحياة الإلهية أن يحملنا، أن يحولنا وأن يجعل.