الفاتيكان والقوة الناعمة

الفاتيكان والقوة الناعمة

د. محمد عبد الستار البدري

نقلاً عن الشرق الأوسط

السور العظيم الذي يحيط بدولة الفاتيكان بني في القرن السادس عشر ليحيط الدولة التي تبلغ مساحتها 400 ألف متر مربع فقط والتي تحتضن الكرسي الرسولي وعلى رأسه البابا الذي يعد رأس كنيسة القديس بطرس والذي قال فيه السيد المسيح «وأنا أقول لك أيضا أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي..» (متى 16:13 – 18)، وتجدر الإشارة إلى وجود خطأ شائع وهو الربط بين كياني الفاتيكان والكرسي الرسولي، بينما الحقيقة التاريخية تشير إلى عكس ذلك تماما، فالفاتيكان دولة مستقلة حديثا وتمثل كيانا سياسيا منفصلا حتى وإن كان بابا الكرسي البابوي هو رأسها، فدولة الفاتيكان لديها إداراتها السياسية والإدارية أما الكرسي الرسولي فله تقاليده الأخرى حتى وإن تشابكا.

لقد كان الكرسي البابوي يلعب دوره الهام عبر التاريخ الأوروبي من خلال وصايته الروحية على كل مسيحيي أوروبا تقريبا بفضل الوكالة الروحية للقديس بطرس، ولكن مع مرور الوقت بدأ الكرسي يُكون لنفسه دورا سياسيا من خلال ما عُرف في التاريخ بالدولة الباباوية Papal State التي تم تقليم أظافرها مع مرور الوقت خاصة عند توحيد إيطاليا في أواخر القرن التاسع عشر، حيث أصرت الحكومة الإيطالية المركزية على تجريد الكرسي الرسولي من بعض ممتلكاته وفرضت عليه الضرائب، وهو ما دفع البابا ليقيم في مدينة الفاتيكان، واستمرت الأمور على ما هي عليه من توترات حتى تولي بينيتو موسوليني وحزبه الفاشي الحكم في إيطاليا حيث قرر أن يفتح مجالا للحوار مع الفاتيكان في عام 1926 من أجل التوصل لاتفاق نهائي يحدد العلاقة بين الدولة الإيطالية الموحدة من ناحية والكرسي الرسولي من ناحية أخرى، خاصة أن البابا كان حبيس الفاتيكان منذ توحيد إيطاليا.

وقد أسفرت المفاوضات عن التوصل لاتفاقية أو اتفاقيات «لاتيران Lateran» الشهيرة عام 1929 التي نظمت العلاقة بين الطرفين وكان من أهم بنودها:

أولا: الاعتراف بسيادة الكرسي البابوي على مدينة الفاتيكان وإعلانها دولة مستقلة ذات سيادة، مع التزام الحكومة الإيطالية بعدم التدخل في الشأن الداخلي لها.

ثانيا: عدم المساس بممتلكات الكنيسة فضلا عن الاتفاق على التعويضات التي تمنحها الحكومة الإيطالية لدولة الفاتيكان مقابل الممتلكات التي تم تأميمها، ويحدد الملحق بهذه الاتفاقية حجم التعويض بـ750 مليون ليرة إيطالي، أي المعادل آنذاك لقرابة 40 مليون دولار، فضلا عن امتلاك الكنيسة لسندات إيطالية بقيمة مليار ليرة مقابل 5% فائدة سنويا.

ثالثا: اعتبار الكاثوليكية الدين الوحيد بالدولة أو الدين الرسمي للدولة، وتمنح المادة 36 الكنيسة الدور الريادي في الإشراف على التعليم الديني في البلاد، فضلا عن الاعتراف بالزواج الكنسي باعتباره زواجا رسميا.

رابعا: نظمت الاتفاقية أيضا التمثيل الدبلوماسي المستقل لدى الفاتيكان، وحق هذا التمثيل الأجنبي في البقاء في إيطاليا ومنحه الضمانات اللازمة لأداء وظائفه، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن الأعراف الخاصة باستقبال السفارات المعتمدة لدى الكرسي البابوي لا ترحب بأن يكون المعتمد لدى دولة إيطاليا هو نفس السفير لدي الفاتيكان وذلك كنوع من الاحترام لخصوصية واستقلالية هذه الدولة الصغيرة حجما والكبيرة مقاما.

وعقب دخول هذه الاتفاقية حيز التنفيذ بدأت دولة الفاتيكان تأخذ شكلها المعروف اليوم كأصغر دولة في العالم، ويرأسها البابا نفسه الذي يقوم بتشكيل اللجنة البابوية لدولة الفاتيكان من مجموعة من الكرادلة ليكون بمثابة الدعم له في تسيير شؤون الدولة، ولا يزال الفاتيكان يحافظ على تقليده بتولي الحرس السويسري مهمة حماية البابا وهو تقليد متبع منذ القرن السادس عشر ويمكن للزائر أن يرى زيهم اللافت للنظر لكونه يحتوي على مجموعة من الألوان البراقة بالشكل الذي لم يتغير من القرون الوسطي، ولكن الأمن الداخلي يعد مسؤولية «الجندرمة» وتأتي أهميته بسبب الزيارات الخارجية للمدينة.