تأمل في شخصية المسيح (4) .. مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

تأمل في شخصية المسيح (4) .. مقال لنيافة الانبا يوحنا قلته

بتصريح خاص من نيافة الانبا يوحنا قلته ، المعاون البطريركى ، ولنيافته كل الشكر على موافقه على نشر مقاله الاسبوعى بالموقع .

*المقال نشر بجريدة حامل الرسالة بتاريخ الأحد 18 أكتوبر 2015

– يري البعض من الرافضين للإيمان المسيحي ، قديماً وحديثاً أن أحد أسباب عدم إيمانهم هو في زعمهم استحالة الاتحاد بين المطلق الأبدي ، الخالق العظيم ، الله جل جلاله وبين طبيعة الإنسان المادية ، إذ كيف يصير واحداً الأبدي والمحدود ، الروحي والمادي ، الله والإنسان إن بينهما فرقاً شاسعاً كالفرق بين السماء والأرض ، فالله لا يمكن أن يصبح إنساناً والإنسان يستحيل عليه أن يحمل الطبيعة الإلهية ، هذا هو منطق أهل البدع في فجر المسيحية ، وفهم أهل الأديان الأخرى ، وحجة الملحدين في كل عصر ، ترى ماذا لو تأملنا شخصية المسيح في تواضع وهدوء .
* * * * *
2 – بادئ ذي بدء نقول حاشا لله أن يسقط لاهوته وأبديته وقداسته ويتحول من خالق عظيم أبدي لا بداية له ولا نهاية ويتحول إلى إنسان ، فهذه ليس من فكر المسيحية ، ولا يمت للمسيحية بصلة ، ويستحيل كما نؤمن أن تتحول الطبيعة الإلهية إلى طبيعة ثانية أو أن تتحول الطبيعة الإنسانية إلى طبيعة إلهية فالمسيحية تقول أن الله هو الله ، واحد ، قدوس ، محبة ، كمال ، وأن الإنسان هو الإنسان ، محدود ، له بداية وله نهاية ، إنسان مجرب ، مجروح في طبيعته ، قد تمسه الخطيئة ، مخلوق على صورة خالقه ، ونقول أيضاً أن المسيح مولود غير مخلوق ، منبثق من الذات الإلهي ، نور من نور ، بلا انقسام أو اختلاط أو تغيير أو شرك ، فالله له كلمته الإلهية ، ونطقه الإلهي من جوهره ، والمسيح هو الله الكلمة ن الله الناطق ، جوهر واحد بلا انفصال ، إن الله هو الوجود قبل الوجود ، وهو خالق الوجود ، في ذاته الحياة ومنه تتدفق الحياة ، فهو خالقها ومصدرها ، والله كما تقول الفلسفة هو شخصية حقيقية ، وحقيقة شخصية ، ومن ثم فالله هو الوجود بكل ما تعني الكلمة ، خالقه ، ومحركه ، ومنظمه ، وواضع قوانينه وسننه ، لا شريك له ولا عيب أو خطأ ، أو ضعف ، أو حاضر وماضي ومستقبل أنه الله لا إله إلا هو ، نردد في كل وقت صلاتنا : نؤمن بإله واحد .
* * * * *
3 – وما يقال عن الله الوجود نقوله عن الله الحياة بكل ما تعني الكلمة ، يخلق من يشاء ، ويعطي الحياة لمن يشاء ، فهو مصدرها ومصيرها إليه ، فالكواكب والنجوم والفضاء ، والجماد والنبات والطير والحيوان ، كلها تخبر بعمل يديه ، وتؤكد جلاله وكماله ، ومن عظمة الله أنه خلق السموات والأرض وشرع لهما القوانين لتمضي في سنن ثابتة ، وإن كان الله هو الوجود وهو الحياة ، فهو “المحبة” ليس في الله إلا المحبة ، والمحبة هنا معناه الجمال المطلق ، والنظام المطلق ، والعدل المطلق ، أنه القدوس الكامل المطلق ، وإن كان الله الوجود فقد منح الوجود لمخلوقاته ، وإن كان الله الحياة فقد تدفقت منه إلى مخلوقاته ، وإن كان المحبة فقد جعلها الشريعة الأسمى والعظمى ، وشاء الله بإرادة الحب أن يتجلى لحبيبه وصورته الإنسان ، تكلم منذ البداية مع شخصيات دعاها إليه وقربها منه لتكون جسراً بينه وبين سائر البشر إبراهيم وموسى ، وعند ملء الزمن ، لما رأى الله بحكمة إلهية فائقة أن الإنسان في حاجة إلى أن يراه ، وأن يسمعه ، وأن يعايشه ، وأن يقترب منه أكثر فأكثر ، تجلي للإنسان في طبيعة إنسانية سوية ، أشبهنا في كل شيء ما خلا خطايانا ،بدأً بأن أرسل ملاكه ، برسالة إلى فتاة بسيطة بريئة أسمها مريم ليعلن تجسده العظيم ، لاهوته لم يخدش ، قداسته لم تتشوه ، أبديته دائمة ، كماله لم يمسه عيب ، ولد طفلاً كباقي الأطفال ، أضحى واحداً من البشر ، هو الله الكلمة لم ينقص ولكن الإنسان هو نال نعمة القداسة منه ، تنازل ليرفعنا إليه ، ليقدسنا ، ليكشف لنا الطريق والحق والحياة ، ليعلمنا شريعة المحبة ، ليعيد صياغة طبيعة الإنسان من جديد بعد أن عبثت بها الخطيئة عبثاً شديداً ، فحل الشقاء والبؤس والحروب وأستبدت الشهوات بالإنسان لأنه أبتعد عن الله القدوس مصدره ومصيره ، هدف تجسد المسيح وفدائه أن يتقدس الإنسان ليصبح أهلاً للاتحاد بخالقه .
تؤمن المسيحية بأن الله خلق الطبيعة البشرية ، بريئة ، نقية ، طالما عاش الإنسان في صحبة خالقه ، ولما أغترب هذا الإنسان عنه تمزقت ذاته ونسى مكانته عند خالقه وميراث الملكوت في موكبه وصحبته ، اتخذ الله الكلمة ، الطبيعة البشرية ، ليكون آدم الثاني ، ولأننا نؤمن أن ليس في الطبيعة الإنسانية شيء نجس حاشا أن يخلق الله للإنسان جسداً نجساً ، بل هو هيكل مقدس ، كل أعضائه مقدسة لها غاية محددة ، ليس في المادة شيء نجس لأنها من أمر الله ولمساته وهو الفنان المبدع الأعظم ، نسى البشر أن النجاسة والدنس إنما في الضمير والإرادة وليس في أعضاء الجسد ، أرسل الله نوراً من نوره ، كلمته الذاتية الناطقة ، روعة حكمته ، وسمو محبته ، وكلمتي هي ذاتي ، وكلمتك هي ذاتك وكلمة الله هي الله ، ذلك هو شخص يسوع المسيح ، ليس جزءاً من الله حاشا وكلا وألف كلا ، بل هو النور المنبثق من الذات الإلهي ، أما لماذا هذا كله ؟ لأن الله هكذا أحب العالم صنع يديه ، وأحب الإنسان ليجعله أبناً له في موكبه الأبدي ، خلق الله السموات والأرض وما عليها عن حب وتجلى الله للإنسان عن حب ، وأكد المسيح ذلك حين جسد الحب في أسمى معانيه بحياته ، بتعاليمه ، بمعجزاته ، بموته وقيامته ، فالله الأبدي المطلق ، لا يتغير ، ولا ينقص ، ولا يزيد ، هو الكمال بلا أدنى شائبة وحين اتخذ طبيعة الإنسان حتى يراه الإنسان ، ويدرك جماله وعظمته ، فمن رأى المسيح فقد رأى الله ومن عشق المسيح ، سار في درب الله ، ومن آمن بالمسيح آمن بمن هو القيامة والحياة ، أرتفع المسيح على الصليب ، فجذب إليه كل من أكتشف سر المسيح ، أنه ضياء مجد الله ، وصورة جوهره ونبع تقديس الإنسان .
د. الأنبا يوحنا قلته