حوار في مزود .. مقال للاب د. انطون فؤاد

حوار في مزود .. مقال للاب د. انطون فؤاد

خاص بالموقع : بموافقة خاصة من سيادة الاب د. انطون فؤاد

كنت أتجول في مدينتي الصغيرة بيت لحم، في يوم غير عادي، فعلى عكس كل الأيام تحولت المدينة الصغيرة إلى مدينة مزدحمة، تقابل في الشوارع أشخاص لم نرهم من سنيين، وترى أشخاصاً لم ترهم من قبل، الكل يأتي من أجل أتمام الأكتتاب الذي دعى إليه أوغسطس قيصر.
الشوارع مليئة بالباعة، حتى الذين لم تكن التجارة مهنتهم تراهم يفترشون الطرقات بمؤكولات يتزاحم عليها الوافدون، والكل قد جهزوا بيوتهم ليأووا فيها الغرباء بمقابل مادي، حركة وضوضاء في كل مكان.
فجأة أستوقفني مشهدٌ غريبٌ لم أره من قبل في مدينتي، ثلاثة ملوك يأتون من المشرق، يتجولون في المدينة على ظهر الأبل، شاخصين إلى نجم في السماء، كأنه مرشدهم.
سألت نفسي ترى ما هو الحدث الجلل الذي يجعل ملوك المشرق يأتون إلى مدينتنا الحقيرة؟ هل ولد في مدينتنا ملك؟ أم ظهر محتل أخر غير الرومان في مدينتنا؟
قلت لنفسي لا يجب أن أترك الحدث يمر بمدينتي، دون أن أعرف تفاصيله، على أن أتبع هؤلاء الملوك لأعرف خبرهم، ولأرى ما ورائهم، على أجني فائدة ما من هذا.
سرت ورائهم وجدتهم يخرجون متجهين نحو منطقة الزرائب التي تبيت بها مواشينا، فتعجبت! ترى عن ماذا يبحثون الملوك في هذا المكان الحقير؟ هل عرفوا عن طريق النجوم أن هناك كنز ثمين هنا؟ قلت لنفسي أتبعهم علك تجني فائدة.
تسمرت قدماي وذهب عقلي عندما وجدتهم يسجدون أمام طفل فقير وليد يفترش العشب، تغطيه أمه بخليقات قليلة حتى تدفئه، وقد خلع رجل يبدو أنه أبوه ثيابه ليغطيه مع أمه، ووقف هو مرتعشاً من البرد.
تجرأت وخلت بينهم لعلى اسمع من الكلمات ما يكشف لي سر هذا الطفل، لكنهم لا يتكلمون، والمكان ملئ بأصوات تسبيح جميلة تسمعها ولكنك لا تعرف مصدرها.
وجدت الطفل يبتسم لكل الحضور بلا أستثناء، فأقتربت من أحد الملوك، وسألته: لماذا أنت هنا؟
أجابني أتيت لأسجد لملك اليهود.
فقلت له: أي ملك؟ أنا لا أرى ملوكاً.
أشار إلى الطفل الوليد، هذا هوا ملك اليهود. قد اعلمتني السماء والنجوم أنه ولد اليوم ملك عظيم، فأتينا لنراه.
قلت له: وكيف لك و أنت ملك حكيم أن تصدق هذا؟ أيوجد ملك يولد بين الحيوانات؟ أيوجد ملك ليس له موضع في دار؟ أجننت يا رجل؟
أجابني الملك: معك حق، فبمنطق العقل لا يمكن، ولكن حينما تعلمنا السماء بهذا فلا يسعنا إلا أن نصدق.
تدخل ملك أخر في الحديث قائلاً: لماذا تتحير أيها الإنسان؟ لماذا يكون سهل عليك دائماً أن تصدق ما يرويه لك الأخرون من روايات عن خوارق الأمور دون رؤية؟ وحينما يكلمك الله بشئ غير معتاد، تهب باحثاً عن منطق العقل. أليس الله أكبر من عقلك؟ أم تريد أن تكون أكبر من الله؟
تركت الكل وذهبت قريباً من الطفل الوليد، قائلاً له: أحقاً أنت ملك؟
نطق الوليد وأجابني: نعم أنا ملك، لكن مملكتي ليست كممالك العالم، مملكتي وملكوتي هي مملكة الحب والسلام، وليس ملكوتي قائم على الظلم والأستبداد.
سألته: لماذا وأنت ملك تولد في مذود؟ أأختفت القصور وأنهدمت المنازل؟
أجابني: لم تختف القصور ولم تنهدم المنازل. لكن أختفت الرحمة من القلوب وتهدمت الشفقة في النفوس. لقد طرق أبواي أبواب بيوت كثيرة، لكن لم يقبلنا أحد لأننا فقراء، رغم صراخ أمي المتوجعة من مخاض الولادة لم تتحرك الشفقة داخل قلب واحد ليقبلنا في منزله. فقط هذه الحيوانات قبلت أن أولد بينها، لم تتطالبني بمقابل ولم تسألني من أين أنا، تأملها كم هي رحيمة وهي تلتف حولي لتدفئني بأنفاسها، كم هي أكثر إنسانية هذه الحيوانات من البشر.
ثم سألني الوليد سؤالاً: ترى أيها الإنسان لو أني ولدت في قصر، هل كان يمكنك لقائي؟
أجبته: بالتأكيد لا.
قال: لذا ولدت بين الفقراء حتى يستطيع الكل لقائي، ولدت فقيرا لأوحد الفقراء و الأغنياء حولي، ولدت في مذود لأحقق من جديد المصالحة بين الطبيعة وبينك أيها الإنسان، ولأجدد العلاقة التي قطعها جدك حينما أخطأ.
تكلم الملك الثالث مع الطفل قائلاً: مولاي قد أعلمتنا السماء أنه علينا أن نعود من طريق أخر، حتى لا يعرف هيرودس مكانك فأنه يريد قتلك.
قال لهم الطفل: لا تخافوا! فمهما حاول هيرودس لن يستطيع قتلي. وأشار الطفل بيده فمرت بنا رؤية لأحداث واحد وعشرين قرناً بعد ميلاده، رأيت أحداث العالم تمر أمامي، ودائماً بها الصراع بين هيرودس مهما أختلف شكله وجنسيته وهويته السياسية أو الدينية وبين يسوع، ودائماً يفنى هيرودس ويبقى يسوع.
أقتربت من الطفل مجدداً، وسألته: ماذا يمكني أن أقدم لك؟ ليس لدي لبان أو مر أو ذهب، لكني أريد أن أقدم لك شيئاً.
يكفيني قلبك أيها الإنسان، قالها الطفل. أجعل لي قلبك مسكناً لأولد فيه، أحمني من هيرودس الخطيئة الذي يطاردني داخلك. أنشر هذه الأنشودة التي سمعتها “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة” بين البشر، أنشر السلام في الأرض، أنشر المسرة بين الناس، أنشر ملكوت الحب في عالمك الملئ بالدماء، أفتح قلبك لتستقبل فيه من هجرتهم الحروب، أعطي حباً لمن يبغضك، وحياة لمن يريد موتك، هذه هي الهدية التي أرغبها وقتها سيصبح العالم مذود كبير أولد فيه كل يوم، لأعطي حياة جديدة للكل.