سنة الإيمان: شهر مارس 2013

سنة الإيمان: شهر مارس 2013

الإيمان وحياة الاستعداد والتجديد

الصَّلاةُ مع الصَّومِ والصَّدَقةُ مع البِرِّ خَيرٌ مِنَ الغِنى مع الإِثْم، التَّصَدُّقُ خَيرٌ مِنِ آذِّخارِ الذَّهَب. طو١٢: ٨

فى هذا الزمن المقدس من سنة الإيمان التى يجب علينا جميعاً أن نتخذ فيها مقاصد ثابتة للتجديد والإستعداد للفصح المقدس دعونا نتأمل فى واجباتنا الأساسية كمؤمنين:

التوبة: هى اول أفعال طاعة الإيمان ولذا كان النداء الأول ليوحنا لإعداد الشعب للإيمان هو الدعوة إلى التوبة “ في تِلكَ الأَيَّام، ظهَرَ يُوحنَّا المَعمَدان يُنادي في بَرِّيَّةِ اليَهودِيَّةِ فيقول: ‘توبوا، قدِ اقتَربَ مَلكوتُ السَّموات’” متى ٣: ١-٢ وكذلك سيدنا يسوع المسيح الذى اكد على وجوب التوبة فى أثناء رسالته “ولكِن إِن لم تَتوبوا، تَهلِكوا بِأَجمَعِكُم مِثلَهم” لو ١٣: ٣، التوبة هى موقف داخلى مستنير بالإيمان والحكمة وتغيير عميق فى القلب بعد مراجعة النفس وهنا نعود لمثل الإبن الضال بعدما استجاب لكل نزواته وبدأ يدفع ثمنها الباهظ “فرَجَعَ إِلى نَفسِه وقال: كم أَجيرٍ لَأَبي يَفضُلُ عنه الخُبْزُ وأَنا أَهلِكُ هُنا جُوعا” متى ١٥: ١٧ ويتبعه قرار وحركة العودة إلى الله “أَقومُ وأَمضي إِلى أَبي فأَقولُ لَه: يا أَبتِ إِنِّي خَطِئتُ إِلى السَّماءِ وإِلَيكَ. ولَستُ أَهْلاً بَعدَ ذلك لِأَن أُدْعى لَكَ ابناً، فاجعَلْني كأَحَدِ أُجَرائِكَ.  فقامَ ومَضى إِلى أَبيه.” لو ١٥: ١٨- ٢٠.

إن الآب الرحوم يقبل جميع التائبين مهما كانت خطيئتهم، بل يتوق لعودتهم فكم بالحرى يقبلهم فى الزمن المقدس، فلا يجب إهمال سر التوبة الضرورى للتجديد الروحى وخاصة أن هذه النعمة متوافرة دوماً فى كنائسنا وليكن هذا الزمن فرصة لبذل الجهد بعون الروح القدس ضد خطايانا ورزائلنا وشهواتنا التى نعرفها جيدا والبعد عن المواقف والأشخاص التى تقود إلى الخطيئة واعتبار التوبة هو موقف ايمانى مستمر فيصير القلب دوما كقلب العشار يهتف منسحقاً قارعاً الصدر: “الَّلهُمَّ ارْحَمْني أَنا الخاطئ” لو ١٨: ١٣

الصوم: كان الصوم فى العهد القديم فعل يمارسه المؤمنين كعلامة على التوبة والتذلل أمام الله بالإمتناع عن كل مسرات الجسد وأولها الطعام، ثم ظهر صوم آخر يقود إلى تغيير القلب مثل صوم يونان النبى الذى صار أكثر طاعة لمشيئة الله بعدما بقى صائما فى بطن الحوت لمدة ثلاثة أيام، تاب بعدها وصار سبب توبة لأهل نينوى… إلا أن الصوم قد أخذ بعدا جديدا مع سيدنا يسوع المسيح، فرأينا فى صومه أربعين يوماً وأربعين ليلة إرتقاء العلاقة بين الله والإنسان إلى ذروة الكمال، ذاك الذى لا تقوى عليه كل التجارب سواء كانت تجارب جسدية أو تجارب الإمتلاك والسلطة أو  الارتياب فى الأمور الروحية ووعود الله.

عندما فشل تلاميذ الرب يسوع فى إخراج الشيطان من جسد الصبى المصاب بالصرع  على الرغم من معجزات كثيرة فعلوها بإسم المسيح وبعدما وبخهم المعلم، اصروا على معرفة سبب فشلهم فأشار المعلم إلى ضعف إيمانهم بالإضافة إلى أن “هذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطانِ لا يَخرُجُ إِلاَّ بالصَّلاةِ والصَّوم” متى١٧: ٢١ فكان هذا التصريح سبب تأمل الكنيسة على مدار الأجيال فى أهمية وروحانية الصوم ودوره الحاسم فى تجاوز المؤمنين لهجمات الشرير كالتى نعيشها الآن، نحن فى أشد الأحتياج هذه الأيام لأن نصوم بقلب متواضع وسعى حقيقى نحو الفضائل وتعميق الإيمان.

الصلاة: هى الإنفتاح على الله والتواصل معه بما فى القلب والوجود البنوى فى حضرته، فبدون صلاة يستحيل التجديد بل يذبل الإيمان وينزوى، وتتعاظم أهمية الصلاة فى الزمن المقدس لأنها تعطى المعنى للتوبة والصوم والصدقة بل هى الزيت الذى يضىء كل أفعال الإيمان ولذا كانت وصية يسوع “اِسهَروا وصَلُّوا لِئَلاَّ تَقَعوا في التَّجرِبة. الرُّوحُ مُندَفِع، وأَمَّا الجَسدُ فَضَعيف” مر١٤: ٣٨ في الصلاة يهب الله غفرانه وتعزياته ونعمه وعلمه ورسالته أيضاً وبها يتدخل ويبدل ويصنع الأعاجيبفَكُلُّ شَيءٍ تَطلُبونَه وَأَنتُم تُصَلُّونَ بِإِيمانٍ تَنالونَه” متى٢١: ٢٢ فلنهتم بكل من صلاة الكنيسة الجماعية والفردية، الصلوات الثابتة كصلاة الساعات التى تعلمنا كيف نصلى والصلاة الشخصية التى نعبر فيها عما فى قلوبنا للآب السماوى كابناء مقتدين بداود النبى وهو ينشد: “في حينِ أَنِّي لَستُ إِلاَّ صَلاة” مز ١٠٩: ٤، ولترافق صلواتنا تأملاتنا فى كلمة الله وشخص المسيح فهى الغذاء الروحى الذى به أيضا يحيا الأنسان.

الصدقة: هى عطاء المحبة الأخوية الصادر من القلب وليس من الجيب، إيماناً بمسئوليتنا عن إخوتنا جميعاً فلا نسلك مثل قايين الذى هتف فى غلظة فى وجه الله عندما سأله عن أخيه “أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟” تك ٤: ٩ وهنا نقف أيضاً أمام زكا العشار الذى فى لقاءوه مع المسيح أعطانا نموذج للتوبة ورد المسلوب وتقديم نصف ثروته صدقة للمحتاجين، برهانا على الإيمان والتوبة الكاملة “يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف” لو١٩: ٨ ، النموذج الثانى هو الأرملة ذات الفلسين، لقد كان سيدنا يسوع المسيح ينظر إلى عطايا المحسنين ويزنها بمكياله هو، فكانا الفلسين هما العطية الكاملة المقبولة أمامه، لأنهما كانا كل ما تملكه الأرملة، فياله من إيمان..! فلا عجب أن يهتف المعلم مطوباً اياها أمام الجميع، ويختارها لتكون معلمة العطاء للمؤمنين فى الأنجيل المقدس على مدار الأجيال،  لنتعلم نحن أيضاً منها كيف يكون العطاء الكامل.

الأعمال الصالحة: كان الرب يسوع أثناء زمن رسالته على الأرض يجول يصنع خيراً وقد علمنا قائلاً:  “هكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالحة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات.” متى٥: ١٦ فالأعمال الصالحة هى تبشير حقيقى بمحبة المسيح الحى فى القلوب وتمجيد للآب السماوى مصدر كل خير فى الوجود، وما أبسط تلك الأعمال واكثرها فى الحياة اليومية لمن يرغب فى القيام بها، بل فى الحقيقة ما أهمها فى أيامنا الحالية الخالية من الحب والكثيرة العنف اللفظى والمادى ورفض الآخر، الأغلبية الساحقة تتدعى الحكمة وتتكلم عما هو صواب وما هو خطأ ولا أحد يصنع خيراً بما فيهم نحن، لا أحد يقوم بدور نبوى يعلن حضور المسيح الحى الشافى فى المجتمع العريان الجريح النازف، ينبغى أن نواجه ضمائرنا بصوت يوحنا المعمد الصارخ: “فأَثمِروا إِذاً ثَمَراً يَدُلُّ على تَوبَتِكم” متى ٣: ٨، ولنراجع ذواتنا فى الزمن المقدس فى نور تعليم القديس يعقوب أخو الرب: “وكَذلِكَ الإِيمان، فإِن لم يَقتَرِنْ بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه. ورُبَّ قائلٍ يَقول: ‘أَنتَ لَكَ الإِيمان وأَنا لِيَ الأَعْمال‘. فأَرِني إِيمانَكَ مِن غَيرِ أَعمال، أُرِكَ أَنا إِيماني بِأَعمالي” يع٢: ١٧-١٨

نختتم المقال بمقطع للقديس يوحنا ذهبى الفم فى مناسبة الصوم الأربعينى المقدس يقول:

“لذلك دعاه الأقدمون ‘ربيع الحياة الروحية‘ فكما تنشط فى النباتات والأشجار قوة حياة مع موسم الربيع، فتكتسى بالأزهار وتمتلىء بالزهور مبشرة بثمار وفيرة، هكذا تؤازر الصائم قوة الروح القدس ليعيد النظر فى الحياة والسلوك الشخصى والعائلى، ليقطع أهوية وشهوات الجسد بسكين الروح الباتر، ويضبط نفسه ويتعفف، نامياً فى أعمال الفضيلة والرحمة بالمساكين والفقراء، ساهراً على كلمة الله، مواظباً على الصلاة القلبية فى المخدع بندامة وتضرع وقرع صدر مع أسرته، وكل هذا -ياللعجب- يتم فى النفس دون أن تجزع من دموع أو حزن، ودون أن تندم أو تتحسر على شهوات محببة تركتها إلى غير رجعة، بل فى دفء الروح تتقدم فى حياة القداسة بمسرة لذيذة.”

اللجنة الأسقفية للعلمانيين و الأنشطة الرسولية