نور العالم وتابوت العهد

بقلم نيران اسكندر

لقد أعطانا الله في إبنه الحبيب يسوع المسيح بأن نكون كأشعيا النبي إذ قال له: “قَليلٌ أَن تَكونَ لي عَبدًا لتُقيمَ أَسْباطَ يَعْقوب وتَرُدَّ المَحْفوظينَ مِن إِسْرائيل. إِنِّي قد جَعَلتُكَ نورًا لِلأُمَم لِيَبلغُ خَلاصي إلى أَقاصي الأَرض” (أشعيا 49: 6). فالسيد يسوع المسيح أراد لنا أن نكون نورًا للعالم لِيَبلغُ خَلاص الله إلى أَقاصي الأَرض (متى 5: 14-16). فهل نحن كذلك؟ وهل نعمل بمشيئة الله هذه ببيوتنا قبل أن نتوجه إلى مكانٍ آخر؟ هل إستطعنا أن نتحمَّل ثِقل تابوت العهد على أكتافنا لنقله من مكان لآخر، أم أسقطناهُ من أيدينا لثِقله وتركناه لغيرنا يحمله بكل محبة وتواضع وخشوع وصبر وفرح؟ هل قدّسنا أنفسنا [ندمنا وتُبْنا عن خطايانا] وأبعدنا الكراهية من قلوبنا قبل التقرّب من الله لكي نلمسه دون أن يغضب منا (متى 5: 21-26)؟

 في العهد القديم كان سبط لاوي [ومنهم أُفرِز الكهنة إبتداءًا بهارون وأبناءه] هم الموكّلون برعاية وحمل تابوت العهد/الشهادة (العدد 1: 48-51، 18: 1-7) الذي كان عبارة عن تابوت من خشب مُلبّس بالذهب ومحاط بإكليلٍ من ذهب وُضِع بداخله لوحي وصايا الله ومن فوقه “الكفارة” وعلى طرفيها كروبين من ذهب كغطاءًا له (خروج 25: 10-22، تثنية الإشتراع 10: 1-5)؛ تابوت العهد الذي يُمثِّل لنا صليب الروح [أي تعاليم الله مختومة برحمته: يسوع المسيح خلاصنا، كفّارة عن خطايانا] الذي يود الرب يسوع المسيح أن نحمله بكل تواضع على أكتافنا [“إحملوا نيري عليكمفنيري طيّب وحملي خفيف” (متى 11: 29- 30)] ونتبعه إلى حيث الله، إذ به ننتصر على أعدائنا [خطايانا] فنحيا (يوحنا 11: 25-26، 16: 33) وبدونه يتغلّب علينا الشيطان وأعوانه [الخطيئة] فنموت، كما كان تابوت العهد نيرًا للبقرتين المرضعين اللتان لم يعْلهما نيرٌ من قبل وسارا به من أرض العدو إلى أرض شعب إسرائيل (1 صموئيل 6: 7-8).

تابوت العهد صورة لحقيقة سماويّة أراد الله أن يُعلنها لنا (العبرانيّين 8: 5، رؤيا 11: 19): السيد يسوع المسيح ذات الطبيعتين الإلهية والبشرية [التابوت مصنوع من الخشب والذهب] وهو كلمة الله [بداخل التابوت وُضع اللوحين اللذان كُتب عليهما وصايا الله العشرة] وأيضًا المُخلّص ورحمة الله لنا إذ به فقط نستطيع أن نقف أمام الله دون عيب وهو نعمة من فعل الله [أُغلق التابوت بصفيحة من الذهب الخالص “الكفارة” محاط طرفيها بالكاروبيم وعليها تأتي السحابة ويستطيع موسى النبي التكلم مع الله].

في العهد القديم كان تابوت العهد الوسيلة لحضور الله مع شعبه أي “الله معنا” (خروج 25: 8)، وولادة يسوع في العهد الجديد هو قيامة للرموز التي حُنِّطت ووضعت بالتابوت إلى آخر الأزمنة؛ إذ تجسّد الحق كلمة الله [مُمثل بلوحي الوصايا]، وتجسّد الطريق [مُمثل بخبز الحياة الذي أنزله الله على بني إسرائيل في الطريق الذي إتخذوه لعبور صحراء سيناء: المن]، وتجسّدت الحياة [مُمثّلة بعصا هارون التي أفرخت وبرعمت وأزهرت وأنضجت لوزًا (العدد 17: 16-25)] ممتلأً بروح الحكمة والفهم، روح المشورى الصالحة والقوة، روح المعرفة وتقوى الله (أشعيا 11: 1-9، لوقا 2: 40، 52)؛ فكان “الطريق والحق والحياة” الذي لا يمضي أحد إلى الآب إلا به (يوحنا 14: 6)، وكان يسوع “الله معنا” (متى 1: 20-23، يوحنا 14: 8-10). سبحانك يا الله، فما علّمته لشعبك بألف سنة أنجزته بيومٍ واحد.

ذُكِر في الكتاب المُقّدس، الموحى به من قِبل الروح القدس، بالعهد القديم، بأنّ الله طلب من موسى النبي بأنْ توضع الجرة التي بداخلها جزءًا من المن الذي أنزله لهم الله أمام الشهادة [لوحي الشريعة] ليكون محفوظًا لهم مدى الأجيال (خروج 16: 32-34)، كما طلب منه بعد حين من الزمان أن يضع عصا هارون الحية أيضًا أمام الشهادة، وبين الفترتين صُنع تابوت العهد ووُضعت به الشهادة ووُضع التابوت بداخل خيمة الموعِد (خروج 40: 1-3، 16-21)؛ ونقرأ في “1 ملوك 8: 9”  و “2 أخبار الأيام 5: 10” بأنه “لم يكن في التابوت إلا لوحا الحجر اللذان وضعهما فيه موسى في حوريب”. ولم يُذكر وضع الجرة والعصا بداخل تابوت العهد إلا في كتاب العهد الجديد في رسالة القديس بولس إلى العبرانيين الإصحاح التاسع آية 4. وإن دلّ هذا على شيء فيدل على أن الله في العهد القديم أعطى أتباعه الشريعة ولم يكن المن هو الغذاء الذي يُحيي بل كان فقط للشهادة على خروجهم من أرض مصر بمعونته الإلهية، ولكن مع مجيء السيد يسوع المسيح الذي لم يُنقض الشريعة إنما كمّلها أصبح هو “كلمة الحياة” و”الغذاء الحقيقي” لكل من أراد الحياة مع الله. كما إن مشيئة الله بعدم معرفة الزمان الذي وُضعت به الجرة والعصا بداخل التابوت هو تأكيد لما قاله الرب يسوع بأن ليس للإنسان أن يعرف متى زمن مجيء إبن الإنسان على السحاب وإنما هو فقط من علم الله (متى 24: 26-36، أعمال الرسل 1: 7).

تساءل النبي باروك عن الحكمة “وصايا الحياة – كتاب ما يُرضي الله” والطريق للوصول إليها لأخذها وقال: “من صعد إلى السماء فأمسكها ونزل بها من الغيوم؟” (باروك 3: 9-36، 4: 1-4)، ولعل نسي الإنسان أن كلمة الله أصبحت قريبة منه في قلبه ليعمل بها إذ أن الله أعطى وصاياه لموسى النبي (تثنية الإشتراع 30: 6-14)، لذا كمّل الله مفهوم هذه الوصايا ومفهوم الطريق إليه بالمن السماوي الذي أنزله من السماء حاملاً في طيّاته الحياة الأبدية (يوحنا 6: 48-58). طلب الشعب “الحكمة” فأعطاه الله حكمة حية متجسدة بأفعال وأقوال ومشاعر إبنه الحبيب يسوع المسيح. أَحْنَوْ رقابهم للتأديب، فأراهم “الحكمة” وقال “إسمعوا له” فتَحْيوا.

صُنع تابوت العهد صُورَة وظِل لِلحَقائِقِ السَّماوِيَّة؛ وإذ أراد الله أن يُرينا أيضًا قلبه المشتعل نارًا بمحبتنا ففتح لنا قلبه وأراه لموسى فرأى تابوت العهد في هيكل الله، هذا القلب المتجسد بسر الإفخارستيا، فبعمل الروح القدس [الغطاء الذهبي] يتحول الخبز والخمر المصنوع بيد الإنسان إلى جسد ودم يسوع المسيح، ذاته ولاهوته؛ يتحول إلى قلب يسوع الأقدس، هذا القلب الذي قاسى آلام التضحية فحوِّط بإكليلٍ من شوك ورُفع على الصليب [الإكليل الذي حوّط التابوت: رباط السلام] لكي يُعطي الحياة لمتناوليه. أجل، وكأننا مع تابوت العهد يقول لنا الله: “أنتم الذين بالمسيح إعتمدتم وكلمته أطعتم وجسده أكلتم وشربتم دمه فأصبحتم شجرة مثمرة تُقدّس إسمي بكل تواضع وخشوع وفرح: أنتم في قلبي كما أن وصاياي في قلبكم”. مع سر الإفخارستيا، يقف الشعب أمام تابوت العهد صارخين إلى الله وقائلين: “تعال، وحلّ على ما صنعته أيدينا وأمكث معنا وباركنا لنسير من خلفك نورًا للأمم”.

تابوت العهد: الله الكلمة، إقنوم الله الإبن الذي كتب عنه الإنجيليين الأربعة: إثنان منهم من أتباع السيد يسوع المسيح: القديس متى الرسول والقديس يوحنا الرسول، وإثنان منهم من مُرافقي القديس بولس الرسول: القديس مرقس الإنجيلي والقديس لوقا الإنجيلي؛ وحمله إلى العالم، إلى بني إسرائيل وإلى بقية الأمم، بإختيارٍ من الله: القديس بطرس الرسول والقديس بولس الرسول (أعمال الرسل 9: 10-16، 11: 1-18) [وضعت أربع حلقات من ذهب على القوائم الأربعة للتابوت، إثنان من جانبه الأول وإثنان من جانبه الآخر، وأدخل قضيبين في الحلقات لحمله (خروج 25: 12-14)]. وبهذا تكون “البشرى السارة للجميع” هي الحقيقة السماوية الأخرى التي أراها الله لموسى النبي. حاملي تابوت العهد يعلمون بأن لا فضل لأحدهم على الآخر، فأحدهم يزرع والآخر يسقي بنعمةٍ من الله، وأعمالهم تُكمّل مشيئة الله على الأرض (1 قورنتس 1: 10، 3: 5-22).

إذن، تابوت العهد هو تابوتًا لأجسادنا المُحنّطة التي وَضعت خطاياها بداخل جراحات المسيح المصلوب فمسحها دمه المراق عليها [ملكوت/كنيسة الله على الأرض] لحين القيامة فينبعث منها قلوبًا نقيةً وأرواحًا مستقيمة خلقها الله فينا بإبنه الحبيب وروحه القدوس، إذ إلتصقت قلوبنا بالكلمة وتغذّت بالمن السماوي فأصبحت شجرة خضراء مثمرة، ومع الكاروبيم نسجد لله ونسبِّح إسمه القدوس صارخين: “قدّوس، قدّوس، قدّوس الرب إله الصباؤوت، السماء والأرض مملؤتان من مجدك العظيم. هوشعنا في الأعالي”. ففي العهد الجديد إقتسم المؤمنين جميعاً [الأب والأم مع الكهنة وخدمة الكلمة إذ أصبح الجميع جماعة كهنوتية مقدّسة (1 بطرس 2: 4-5)] مسؤولية حمل تابوت العهد والحفاظ عليه من السبي، وهم الذين يحملون مجد الله للآخرين. حاملي تابوت العهد يربطهم سلام الرب يسوع المسيح، متواضعون فلا يتكابر أحدهم على الآخر ولا يشتهي أحدهم نِعم الآخر لأن الله هو مُقسِّم النعم، ومُحبّين لبعضهم البعض دون رياء، وحاملين أثقال بعضهم البعض [أي غافرين لبعضهم البعض وساترين عيوب من أساء إليهم، ومذكّرين بعضهم البعض بوصايا الله وعاملين بها]، ووديعين وصبورين (أفسس 4: 1-7) لكي لا يختل التوازن ويفقدون السيطرة على حمل التابوت فيضطر من فقد التوازن للمس تابوت العهد وهو ليس مؤهل أن يلمسه [لما للتابوت من قداسة] فيموت لأنه لم يطع الله (2 صموئيل 6: 1-7).