ووقفت عند قدميه من ورائه باكية

ووقفت عند قدميه من ورائه باكية

تأمل اليوم : الأحد الرابع من توت

الأب بولس جرس

” وسأله واحد من الفريسيين أن يأكل معه ، فدخل بيت الفريسي واتكأ وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة ، إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي ، جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه با…كية، وابتدأت تبل قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها ، وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب فلما رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلا : لو كان هذا نبيا ، لعلم من هذه الامرأة التي تلمسه وما هي إنها خاطئة فأجاب يسوع وقال له : يا سمعان ، عندي شيء أقوله لك . فقال: قل ، يا معلم كان لمداين مديونان . على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون وإذ لم يكن لهما ما يوفيان سامحهما جميعا. فقل: أيهما يكون أكثر حبا له فأجاب سمعان وقال : أظن الذي سامحه بالأكثر . فقال له: بالصواب حكمت ثم التفت إلى المرأة وقال لسمعان : أتنظر هذه المرأة ؟ إني دخلت بيتك ، وماء لأجل رجلي لم تعط . وأما هي فقد غسلت رجلي بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها قبلة لم تقبلني ، وأما هي فمنذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجلي بزيت لم تدهن رأسي، وأما هي فقد دهنت بالطيب رجلي من أجل ذلك أقول لك : قد غفرت خطاياها الكثيرة ، لأنها أحبت كثيرا . والذي يغفر له قليل يحب قليلا ثم قال لها : مغفورة لك خطاياك فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم : من هذا الذي يغفر خطايا أيضا فقال للمرأة : إيمانك قد خلصك ، اذهبي بسلام ” (لوقا 7 : 36 – 50)

بعد أن كسـب يسوع الجولة مع العشـارين (زكـا)” اليوم قد تمّ الخلاص لهذا البيت” في قراءات الأحد الماضي نراه اليوم متكئا يحاول أن يتمم نفس الخلاص مع أحد الفريسين، لكن الأمر يتجاوز الفريسي المضيف ليصل إلى أبعد مما يتوقع الجميع… فيسوع يصل إلى التلامس مع قاع المجتمع، إلى أحط وأدنى طبقاته، إلى طبقة المدانين بذات الفعل فماذا سيحدث؟!!!.

لن يمر الأمر سـهلا فحيث قد وجد ذوو الأسـقام في المسـيح طبيباً للروح والنفس والجسـد، أحبوه وقبلوه وتبعوه إلى كل موضع أزمع ان يمضي إليه. بينما ظل الأصحاء في صوامعهم العاجية يتطلعون من فوق، يخشون الاقتراب ويفضلون المراقبة التي وصلت لحد الكمون والتربص، باختصار شديد إنهم لا يشعرون بالحاجة الي طبيب. وسمعان اليوم متربص:

يدين المرأة ويدين المعلم

ولا يفهم أن غفران الله يقاس بعمق الندم الناجم عن المحبة

ولا يقاس بالمظاهر الخارجية

لا يدرك أن مريم الساجدة عند قدمي يسوع اليوم

قد تغيرت تغيراً كاملاً حتى لصارت خليقة جديدة

لأنها قد تابت وسكبت الدمع الغزيرة

واليوم غفرت لها خطاياها

واليوم تم خلاصها.

حقاً إن مقاييس الله تختلف عن مقاييس البشر

ومعاييره تتباين مع معاييرهم

فليس لدى الله سوى مقياس واحد بينما تعددت مقايسـنا وتبانت :

أخيراً

الله يغفر بلا شروط فما هي قائمة شروطك لتغفر؟

والله يقيس التوبة بالحب: أحبت كثيرا فغفر لها كثيرا…

أما أنت فبماذا تقيس؟ بالكرامة  و……و………….

قصة أثرت فيّ:

يحكي أن رب السماء أرسل ملائكته إلى الأرض ليبحثوا له عن أثمن ما في الوجود فجالوا سنيناً ثم عاد أولهم بقارورة فيها آخر انفاس لشهيد سقط مدافعا عن تراب وطنه، فقال له رب العرش : حقاً أن الشهادة فداء للوطن لأمر ثمين لكن، ليس هو أثمن ما في عيني، وعاد الملاك الثاني بآخر زفرة لممرضه ماتت وهي تداوي مريضاً بالطاعون نتيجة العدوى دون تتخلى عنه خوفاً من الإصابة بالمرض فقال رب العرش: حقاً أن التضحتة في سبيل الواجب ثمينة في عيني لكنها ليست أجمل ما في الوجود وعاد ثالت بتنهيدة أم احتضنت رضيعها لتحميه من سقوط حائط وقت الزلزال فسقط الحائط عليها وماتت ليعيش ولديها. فقال رب العرش حقاً أن تضحية الأم ثمينة في عيني لكنها ليست أجمل ما في الوجود. وعاد رابع بآخر كلمات نطقت بها شفتا راهب أفني عمره في الوحدة والنسك وأسلم روحه وهو يصلي فقال الرب:”حقا أنه صلاة نفس تحتضر مستلمة في إيمان عميق لثمينة في عيني لكنها ليست أجمل ما في الوجود.هذا بينما كان يرقب أحد الملائكة أنساناً شريراً خاطئاً يفسد في الأرض بل وراح يرصد كيف سيوقع الله به جراء اثمه وخطاياه؟ وكيف سينتقم منه ليطهر العالم من خطيئته، كان يريد أن يرصد هذه اللحظة كأثمن ما في الوجود … وحانت له الفرص حين ذهب ذلك السفاح ليدخل إلى منزل رجل مسالم يعبش مع أسرته البسيطة في كوخ متواضع ليقتله وينهب بيته ويغتصب زوجته ويذل أبناءه… كان الملاك يعرف أن الله لن يسكت على هذا الشر وأن الكيل قد طفح وغضب الله قد وصل لذروته وأن لحظة انتقامه قد حانت فوقف مترقباً ينتظر لحظة الانتقام من الشر والشرير وانتصار الحق على الظلم والبطش وبينما المجرم يقترب من الكوخ الساكن الهادي إلا من ضوء قنديل راح يتلصص من النافذة ليدبر كيفية اقتحامه للمنزل … فرأى منظراً أشجاه رأى الأم هاتين مع طفلها الصغيرة تلقنه كيف يصلي منتبه وأحسن تخفقان على قلبه لم يعرفه منذ امد بعيد وشعر بأن قدماه لا تستطيعان حمله لشده خفقانه …

لقد حملته الذاكرة إلى الوراء إلى الأيام الخوالي أيام كان طفلاً يمرح في بحر من البراءة والسلام ومثلت أمامه صورة أمه الراحلة الحنونة وهي تداعبه بإصبع يدها الحانية وتعلّمه كيف يصلي ارتج كيانه كله وكاد قلبه ينشق من صدره قافزاً من التأثر فسقط على ركبتيه وبكى بكاء مراً حينئذ أسرع الملاك بقارورة في يده والتقط دمعه ذلك المجرم وطار بها إلى العرش الإلهي ودون أن يفتح فاه بادره الله قائلاً.

هذه الدموع هي فعلاً أثمن ما في الوجود.

فليس أعز عندي من دمعة إنسان تائب.