العجل الذَّهبي

للأب هاني باخوم كيرولس

روما، الاثنين 05 يوليو 2010 (Zenit.org)

خرج شعب إسرائيل من عبودية مصر. تحررَ ورأى العظائم التي صنعها الرب من اجله: ضرب مصر بعشر ضربات؛ فتح أمامه البحر؛ اغرق جيوش فرعون ومركباته وعبر بهم وسط المياه؛ أنزل المنّ من السماءِ وأخرج الماء من الصخر؛ عظائم تليها عظائم. نعم! عظائم ونِعم تفوق المُنتَظر، عجائب لا يتوقعها بشر ولا يحلم بها إنسان. احداث، يعجز الجميع عن اتمامها والرب يصنعها ليُظهر لشعبه مجده وحبه. والشعب لا ينكر ذلك، يذكره ويرنم نشيد الانتصار تعظيماً لهذا الإله (خر 15). وكأن هدف الرب قد تحقق بالفعل: لقد أظهر نفسه للشعب من خلال الأعمال والشعب اختبره وآمن به! لكن الايمان طريق ومسيرة لا تنتهي.

الرب ينادي موسى كي يصعد الى الجبل ليسلمه الوصايا. فيصعد موسى ولكنه يتأخر في النزول (خر 32: 1). وهنا يجتمع الشعب نفسه الذي ذكرناه سابقاً، ويقول لهارون: "قُم فأصنع لنا آلهة تسيرُ أمامنا، موسى، ذلك الرجل الذي أخرجنا من مصر، لا نعلم ما اصابه…وصنعوا عجلاً ….وقالوا هذا هو إلهك، يا إسرائيل، الذي أخرجك من ارض مصر" (خر 32: 1- 6).

 غريب ما يقوله الشعب! يقول ان موسى الذي اخرجه من مصر تأخر، فمن الممكن ان يكون قد مات، او اصابه شيء ما. ماذا نصنع؟ من سيدخلنا ارض الميعاد؟ من سيحقق لنا الوعود بالحرية؟ الشعب لم يفهم انه حتى وان مات موسى فالرب الذي دعاه يستطيع ان يقيم آخر مكانه. الشعب يشعر بعدم الضمان، بعدم وجود قائد، فيقرر ان يصنع لنفسه قائداً. فيصنع إلهاً مصوراً في عجل ذهبي كي يتقدمه ويقوده.

الشعب لا ينكر الإله الذي اخرجه من ارض مصر، لا يكفر به، على العكس الشعب يتذكر عظائم الرب. لكنه يريد ان يضمن هذا الإله، ان يجسده امامه كي يصبح ملموساً. بالنسبة للشعب، العجل هو الرب وليس الهاً آخر. الشعب لا يَكفر بل يريد ان يرى هذا الإله اللامرئي، والغير واضح في اوقات كثيرة، والذي يدبر دائماً في اللحظة الأخيرة، والذي لا يستطيع البشر فهم طرقه واساليبه. وهكذا يتمكن عند الحاجة من الذهاب اليه ورؤيته. ان يطلب منه ما يشاء، ان يقدم له ذبيحة او تضحية، فيستجيب طلبه. الشعب ملَّ من عدم الضمان والانتظار اليومي لهذا الإله الذي يقوده دون معرفته. يريد ان يحوّل هذا الإله، الى اله في متناول الأيدي. اله يُملي عليه إرادته فيحققها له. يريد الشعب الضمان والاستقرار.

تَعب الشعب من هذه العلاقة مع الرب والتي يجب ان تعتمد كل يوم على الثقة التامة فيه. تَعب من العلاقة التي يجب ان تبدأ كل يوم من جديد. الشعب يريد الثبات. فهو يقدم ذبائح ليضمن حقه في الوصول الى أرض الميعاد. الشعب تَعبَ من المجانية. لأن المجانية لا تضمن حقاً. تَعب من الوعد ويريد العقد. تعب من ان يكون ابناً يتلقى كل يوم ما يحتاجه، ويريد ان يكون عبداً يخدم فيستحق ويضمن ما يحتاجه.

العجل الذهبي ليس نكراناً لله، بل تحويل الرب لإله في خدمة من يخدمه. العجل الذهبي هو نفس الإله الذي يصنعه الإنسان اليوم، عندما يتعب من عدم ضمان الحياة المستمر ويريد ان يؤمن حياته ومستقبله. فيصنع عجلاً، صورة للإله، ويقدم له كل ما يمتلك كي يجبره ان يحميه ويؤمن له حياته. فتتحول تلك الصورة الى وثن، الإنسان لا يريد ان يصنع وثناً، لكنه عندما يرغب في تجسيد الإله، هذا الإله يتحول الى شيء ما، لا يهم ما هو هذا الشيء: قد يكون الصحة، الجمال، العائلة، الحياة المستقرة، العمل، التعليم، او اي شيء اخر…لا يهم.

الانسان اذاً يريد ان يضمن حياته ولا يقبل علاقة مجانية مع الله: اساسها الاختبار اليومي للتدبير الالهي، يريد شيئاً ثابتاً. فيترك الانسان الله ويصنع وثنه الخاص. املاً ان يحصل منه على الحياة. لكن خبرتنا تؤكد لنا ان اوثاننا التي صنعناها مكان الله اخذت منا كل ما نمتلك حتى كرامتنا كأبناء ولم تعطينا شيئاً.

لكن الله أرسل صورته في ملء الزمان، ابنه الوحيد يسوع المسيح. نعم، يسوع المسيح، الذي من رآه رأى الآب، لا يطلب ذبيحة لنفسه او تقدمة، بل قدم نفسه كذبيحة وتقدمة. فهو الذي وثق في الآب، وثقَ في وعده بالمجد والقيامة: أرض الميعاد الحقيقية، وإن كان يرى الموت يحيطه من كل جانب. وثقَ وقَبِل هذه العلاقة المجانية مع الآب. وثقَ ولم يَخِب امله فهو الآن قائم، حي وعن يمين الآب.

الرب أظهر نفسه وتجسد، لا في صورة عجل كي يُعبد، لكن في ابنه كي يَخدم ويُخلص. الرب اعطى صورته كي لا يصنعها له الانسان من جديد فيصبح عابداً لوثنٍ. ارسل الابن، كي يراه الإنسان ويصبح هو ايضاً ابناً، ابن للآب.

أيام مباركة.