الصوم الذي يريده الله .. مقال للآب يوسف فوزى زكرى

الصوم الذي يريده الله .. مقال للآب يوسف فوزى زكرى

” يأتي زمن الصوم ومعه تأتي العديد من التساؤلات الغريبة والمرسلات التي لا منطق لها وناهيك عن الاحكام التي لا حصر لها، وكلها كفيلة أن تجعل من أزمنة الصوم المباركة أزمنة ألم وعثرة تصل إلى ازمنة الانحطاط والاسفاف والتراشق بما هو مجد وبطولة بشريين في مثل هذا المناخ الملبد علينا أن نخاطب قلب المسيحي وعقله أملاً في أن ينحصر الجهل أمام الحقيقة والمنطق:

الصوم الذي أريده يقول الرب (أش 58/6)

أولاً، الصوم وغايته
• يرى البطريرك الكاردينال بشارة الراعي أن الغاية من الصّوم إعداد الذّات للعبور مع المسيح الربّ في فصحه، من حالة الخطيئة إلى حالة النّعمة، “من الإنسان العتيق إلى الإنسان الجديد” كما يُسمِّيه بولس الرّسول (كول 3: 9-10). أليست الطّبيعة، من بعد أن تجرّدت أشجارها من عتيق أغصانها وورقها، تدخلُ زمن الرّبيع لتلبس ثوبًا جديدًا، وتزهر لكي تعطي ثمارها لحياة البشر؟ كم نحنُ بالحريّ أفضل منها (راجع متى 6: 26).
• الصّوم ضرورة من أجل بلوغ غايته، على ما يقول بولس الرّسول: “ليس ملكوت الله أكلًا وشربًا، بل هو برٌّ وسلامٌ وفرحٌ في الرّوح القدس” (روم14: 17) وعلى ما أكّدَ الرّبّ يسوع للمجرِّب: “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله” (متى 4: 4)؟
• فالصوم بهذا المعنى هو انتصار لحياة الله وللنعمة في اجسادنا الضعيفة، فنحيا لا لأنفسنا بل للمسيح الذي يحيينا بكلمته ونعمته، ويصبح التجرد وتصبح الاماتات علامة هذه الحياة.
ثانياً، الشكل اللائق بالصوم
+ عدد ايام الصوم
• تحدد الكنيسة أن عدد أيام الصوم الفصحي هي 40 يوماً اقتداء بصوم المسيح الذي صام عنا أربعين يوماً واربعين ليلة ويلحق بها عدد 7 أيام والتي تعرف بأسبوع الآلام.
+ لكن لماذا لا نصوم أسبوعاً قبل الصوم الاربعيني كما هي العادة في الكنيسة القبطية الارثوذكسية؟
• أولاً، نلتزم فقط بتحديدات الكنيسة الجامعة للصوم كما نلتزم في هذا الاطار بالأصول التقليدية والكنسية لصوم الزمن الفصحي وهو الأمر الذي لا يتوفر فيه الاسبوع الأول قبل الصوم الاربعيني فيعد الأسبوع الأول صوماً دخيلاً على نظام الصوم، ولا يستند على أية أسس كتابية ولا تقليدية ومن ثم فلا نلتزم به.
• ثانياً، منطقياً: الصوم كله استعداد للشركة المقدسة ولعيش الأزمنة المقدسة بطريقة مسيحية لائقة فليس من المنطق اذاً ادعاء الاستعداد للصوم بصوم سابق، كما أن هذا الاسلوب غير معمول به في كل الاصوام الأخرى التي تمارسها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والتي تقترب مدة صومها من مدة الصوم الأربعيني.
• إن الكنيسة الرومية الأرثوذكسية تلتزم في صومها بأسبوع سابق للصوم الاربعيني وتسميه بمسمى سليم: أسبوع استعداد، لأنها في هذا الاسبوع تمتنع فقط عن اللحوم كتمهيد للزمن الاربعيني، وتسمح بتناول كل الاطعمة الأخرى، وهو الأمر الذي تفتقده الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في ممارستها فينتفي عنها كونه اسبوع استعداد.
• ثالثاً، روحياً: يرى البعض أنه لا لومة في الصوم الزائد فهو من الأمور المحببة من أبناء الكنيسة فلم الاعتراض؟ وهنا علينا الانتباه أن الفضيلة لا تكون بكثرة ولا بشدة ممارستها ولكن في روح وعمق الممارسة التي تقود الى تحول القلب والحياة، فيصبح من اللائق أن نلتزم بأصول الكنيسة متحلين بروح الطاعة والاخلاص للكنيسة وللتقاليد الأصيلة، فكثرة الأحمال والممارسات لا تقود حتماً إلى ملء النعمة والرحمة، لكن روح الله الذي يحررنا. كما أن صوم اسبوع زيادة على الصوم الاربعيني يخلو بدوره من المنطق لأن أيام العام ممتدة فلم لا نقوم بصومها جميعا على سبيل البركة؟؟ كما أن هذا المبدأ (الاستزادة الروحية) يتناقض مع الممارسة الرعوية المشوهة لصوم اسبوع الاستعداد لدي الاقباط الأرثوذكس إذ تعتبره مدعاة للافتخار والحكم على الآخرين باعتبار أنهم أقل صوماً وقد نسيت المبدأ البولسي الذي ينادي بأن لا يتحوّل أكلنا وشربنا ليكون سبب عثرة لأخينا (روم 14: 21)، يقول هذا ليعلن أن الفضيلة يجب أن تعاش بهدوء ووداعة القديسين لا بحرفية وافتخار الفريسيين.
• رابعاً، تاريخياً: بحسب ما ورد في المصادر القبطية ذاتها فإن هذا الاسبوع ليس مرتبطاً بالاستعداد ولا بتعويض أيام السبوت والآحاد كما يشاع، لكنه ما هو إلا اسبوع هرقل الذي حنث بوعده لليهود وعاد فقتلهم، بعد وعد الكنيسة البيزنطية في أورشليم بالصوم له من أجل حنث اليمين، ومن ثم يعد الصوم هنا (اسبوع هرقل) ثمناً لدم وحنث اليمين، وبالتالي يصبح هذا الموقف واحدة من الترسبات والتراكمات التاريخية غير الأصيلة ولا السليمة التي يجب أن تتطهر منها الكنيسة في ممارساتها. وتلك هي أهم استشهادات المصادر القبطية .
+ يرى ساويرس بن المقفع أن: “الأسبوع الأول ليس من الأربعين يوم الصوم بل نحن نصومه عبادة من أجل هرقل الملك لما قتل اليهود وفسخ العهد الذي كان عاهدهم به فهو خبر مشهور معروف في أخبار هرقل لا حاجة إلى ذكره هنا” . (راجع يوحنا سلامة ، اللآلئ النفيسة ، الجزء الثاني ، ص 446 – 447) .
+ كما يقول بن العسال : “والأصوام الزائدة على ذلك المستقرة في البيعة القبطية منها ما يجري مجرى الصوم الكبير في التأكيد وهي جمعة هرقل التي صارت مقدمة الصوم الكبير” (راجع يوحنــــا سلامـــة ، المرجع الســابق ، ص 458 ، 459 ؛ راجــع يوحنـا كابــس ، الصــوم ، ص 56 , 81 ) .
+ ويقول ابن كبر : “وحضر هرقل إلى بيت المقدس فوجده خراباً . . . وأمر اليمين فنحن وجميع النصارى بجميع الأقاليم نصوم عنك أسبوع في كل سنة على ممر الأيام إلى انقضاء الدهر . فأمر هرقل بقتل اليهود . . . وكتب الآباء القديسين [القديسون] البطاركة والأساقفة إلى جميع البلاد بصوم أسبوع وهو هذا الأسبوع الأول من الصوم الكبير” ابن العسال ، كتاب القوانين ، الباب الخامس عشر ، ص 137 . وهو ذات الأمر الذي ينقله لنا القس كيرلس كيرلس عن المقريزي (1364 – 1441) راجع ابن السباع ، الجوهرة النفيسة ، الباب المائة ، ص 152 ، 157 .
+ كما يقول القمص عبد المسيح المسعودي قوله : “بدء صوم الروم والسريان واللاتين وغيرهم يوم الاثنين بعد الرفاع الكبير للقبط ومرفع اللحم للروم [لأن الروم يتركون فيه اللحم ولكنهم يأكلون اللبن والجبن والبيض ونحوها] بثمانية أيام ، وبعد بدء صوم القبط بسبعة أيام لأن صومهم 48يومأ فقط بدون جمعة هرقل التي عند القبط الموافق جمعة البياض عند الروم” يوحنا سلامة ، اللآلئ النفيسة ، الجزء الثاني , ص 458 .
+ ويضيف القمص صموئيل تاوضروس السرياني قائلا : “وقد أُلحق أسبوع هرقل بالصوم الأربعيني المقدس ، وظلت الكنائس الشرقية والغربية تمارسه إلى زمن بعيد ، إلى أن أسقطته أخيرا من حسابها، ولم تحتفظ به حاليا أية كنيسة ما سوى الكنيسة القبطية”. راجع بانوب عبده ، كنوز النعمة ، الجزء الثاني ، ص 359.
+ وجاء في قطمارس الصوم الكبير عند الحديث عن صوم نينوى ما يلي : “لما تربع على الكرسي المرقسي الأنبا ابرآم بن زرعة … ومن أمره أنه لم يرغب بادئ بدء أن يصوم أسبوع هرقل الجاري ممارسته عند الأقباط ، ولكنه صامه في مقابل كونه فرض عليهم أن يصوموا ثلاثة أيام على اســـم يونـــــان”. راجع غريغوريوس ، أصوامنا العامة السبعة ، الجزء الأول ، ص 67.
+ ما الذي يجب تناوله في الأصوام المقدسة
• الصوم الأربعيني ككل الأصوام الأخرى فما يؤكل في كل الأصوام يؤكل في الصوم الاربعيني لأنه ليس من المنطق ولا من التقليد تمييز الأصوام وتقسيمها درجات.
• وبناء على ما سبق على المؤمنين أن يمتنعوا في الأصوام عن اللحوم والألبان وكل مشتقاته والبيض، كما أنه يصرح في الأصوام بأكل الأسماك فهي ليست محرمة من التقليد ولا من الكنيسة وذلك طبقاً للاستشهادات الآتية .
+ شهادة الصفي أبو الفضائل ماجد أبي المفضل أسعد أبو إسحق إبراهيم أبو البشر يوحنّا الكاتب المصري العسّال، ولد علي الأرجح في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، القاهرة، 1908، ص171-172ويرى أن«الأصوام الزائدة على ذلك المستقرة في البيعة القبطية منها ما يجرى مجري الصوم الكبير عي التأكيد وهي جمعة هرقل مقدمة الصوم الكبير وصوم أهل نينوى ثلثة أيام وصوم اليوم الذي الميلاد غده واليوم الذي الغطاس غده، ومنها ما هو دون ذلك وأجرى مجرى الأربعاء والجمعة وهو الصوم المتقدم للميلاد وأوله أول النصف الثاني من هتور وفصحه يوم الميلاد ثم صوم التلاميذ وهو يتلو الخمسين وفصحه خامس أبيب عيد بطرس وبولس، وهذه الأصوام قد صامها الشعب مع عدة من البطاركة تزيد على عدة بعض الجامع المقبولة قوانينها فيجب حفظها بغير تنقيص، ومنها ما دون ذلك في حفظ الأكثرين له وهو صوم عيد السيدة وأكثر من يصومه المتنسكون والرهبانيات وأوله أول مسرى وعيد فصحه، وهذه الأصوام المستقرة تصام إلى التاسعة من النهار ولا يؤكل فيها لحم غير السمك، ومن صام زائدًا عن المفروض والمستقر شيئا فله ثوابه». ونفهم مما سبق بأنه لم يكن وارداً تقسيم الأصوام إلى درجات ولم يكن محرماً أكل السمك حتى القرن الثاني عشر.
+ كما كتب جرجس بن المكين (1255- 1273) إن الأقباط في زمن الصوم الكبير يأكلون الأسماك (راجع، راهب من دير المحرّق، الموسوعة اللاهوتية الشهيرة بالحاوي لابن المكين، الجزء الرابع، القاهرة، 2001، ص63.
+ كما يذكر القس شمس الرياسة بن الشيخ الأكمل الأسعد أبو البركات بن كبر، الذي عاش في أواخر القرن الثالث عشر، وسيم قسيسًا في كنيسة المعلقة باسم القس برصوم، وتنيح في يوم 10 من شهر مايو لسنة 1334، وفي مؤلفه مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة، في الباب الخامس، حققه الأب سمير خليل اليسوعي، مكتبة الكاروز، القاهرة،1971، ص 141: «أن صوم اليوم الذى الميلاد غده واليوم الذي الغطاس عده ومنها ما هو دون ذلك وأجري مجرى الأربعاء والجمعة، … ثم صوم آبائنا القدّيسين التلاميذ بطرس وبولس وهو تلو الخمسين وفصحه الخامس من أبيب ويجب حفظ هذه الأصوام بغير تنقيص منها في حفظ الأكثرين له وهو صوم عيد السيدة العذراء من أول مسرى وعيد السيدة فصحه 16منه. وهذه الأصوام المستقرة تصام إلى التاسعة ولا يؤكل فيها لحم غير السمك.
+ ويكتب الرحالة جوڤني ميكيله ڤنسلبيو في السنة 1671: «لدي الأقباط أربعة صيامات كبيرة في السنة، الأوّل قبل الميلاد، في شهر ديسمبر، ويستمرّ أربعة وعشرين يومًا، والثاني الصوم الأربعينيّ الكبير، ويدعونه “الصوم الكبير”، وهو يستمرّ خمسة وخمسين يومًا، والثالث صوم رسل سيدنا، ويدعونه “صوم التلاميذ”، ويبدأ بعد العيد الثالث للعنصرة، ويستمرّ واحدًا وعشرين يومًا. وقد كنت، في ذلك الوقت بالذات، في مصر العليا بينهم، وأُجبرت أنا أيضًا على المحافظة عليه، حتّي لا أسبّب عثرة والرابع صوم العذراء في أغسطس، ويسمي “صوم العذراء”، ويستمر خمسة عشر يومًا، ويحافظون على هذه الأصوام محافظة؛ لأنهم لا ينقطعون عن اللحم فحسب، بل وعن مشتقّات الألبان، والبيض[…] ويأكلون السمك» (راجع، جوڤني ميكيله ڤنسلبيو، تقرير الحالة الحاضرة لمصر 1671، ترجمة، المشروع القومي للترجمة=1005، القاهرة، 2006، ص141-142).
ثالثاً، مجرد تساؤلات
+ ومن خلال ما سبق هل نستطيع أن نفهم هذه المساحة الشاسعة بين شكل الصوم منذ مبدأه وحتى القرن العشرين؟ لماذا اصبح صومكم محملاً باثقال وأحمال تثقل على الشعب وتزيد من معاناته؟ هل تظنون بعد هذا السرد التاريخي المبتسر أنكم أمناء ومخلصين للتقاليد المقدسة؟ اين ذلك الاخلاص والتقليد بريء تماما من تقسيم الاصوام إلى درجة أولى وثانية؟ هل في رأيكم هذا التقسيمات تتناسب مع سمو وعظمة الوحي المسيحي؟ أليس هذا التقسيم هو اقرب إلى الشكل الموسوي والتشريعي عن مضمون وروح الايمان المسيحي؟ وفي الواقع حتى شريعة موسى وكل شريعة العهد القديم لم تجرؤ على هذه التقسيمات المحدودة في منطقها وروحانيتها فيما يخص الأصوام.
+ هل يعلم الاقباط الارثوذكس شيئاً عن ذاك الاصلاح الجريء الذي قام به الأنبا غبريال الثامن سنة 1602 حيث جعل من صوم الرسل الأطهار صوماً مدته 15 يومًا، وصوم السيدة العذراء اختياريا، وصوم الميلاد 29 يومًا، وتمّ إلغاء صوم يونان؟ (راجع، كامل صالح نخلة، تاريخ البطاركة، الجزء الثاني، القاهرة، الطبعة الثالثة، 2011، ص340و 341).
+ هل تعلمون أن هذا الاصلاح قد ايده البطريرك يوساب الثاني في منتصف القرن العشرين 1946-1956 وذلك من خلال عقده لمجمع لا بل وزاد على قرارات الانبا غبريال بفطر الأربعاء والجمعة الواقعة بين الميلاد والغطاس أسوة بأيام الخماسين المقدّسة»؟(راجع، صموئيل تاوضروس السرياني(القمص)، من أعماق التاريخ: الصوم في الكنيسة القبطية، مجلة رسالة المحبة، ديسمبر، 1982، السنة 48، القاهرة، ص284).
+ هل يعلم الأقباط الرثوذكس ما يقوله البطريرك مار اغناطيوس زكا عواص بطريرك السريان الأرثوذكس الذين هم في شركة كنسية معه بانه يعلم ويؤكد على الآتي: “إن الكنيسة هي أم رؤوم، ومعلمة صالحة، لا تحمّل المؤمنين أعباء ثقيلة لا يستطيعون إلى حملها سبيلاً، متذكرة قول الرب: القائل: «وويل لكم أنتم أيها الناموسيون لأنكم تُحمِّلون الناس أحمالاً عَسِرَة الحمل وأنتم لا تَمَسُّون الأحمال بإحدى أصابعكم» (لو 11: 46) فمن هذا المنطلق فسّح الطيب الذكر البطريرك الياس الثالث (1932+) في أكل السمك في أيام الصوم الأربعيني، وسمح لأبناء الكنيسة في أميركا أن يصوموا الأسبوعين الأول والأخير فقط من الصوم الأربعيني بالإضافة إلى أيام الأربعاء والجمعة. وفسّح لهم في الإفطار بقية أيامه.” فهل سيأتي يوم تتعلم فيه الكنيسة القبطية الارثوذكسية الاعتدال كشريكتها السريانية الارثوذكسية أم أنها ستتحول لتهاجم شريكتها الارثوذكسية السريانية كعادتها في التهجم والتهكم على نظم الكنائس الأخرى؟؟؟؟

+ السبب الحقيقي والتاريخي وراء تحريم أكل الأسماك في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية
هل يعلم الاقباط الارثوذكس أن موقف تحريم أكل الاسماك يعود إلى اسباب سياسية محض لا علاقة بها إلى النظم الكنسية بشيئ وأنها تعود الى العصر الفاطمي 969-1055 في عهد أبي علي المنصور بن العزيز بالله الحاكم بأمر الله وهو سادس حكام الدولة الفاطمية في يوم الجمعة ثالث عشر من شهر المحرّم لسنة خمس وتسعين وثلاثمائة أي في يوم 20 من شهر أكتوبر لسنة 1004 صدر سجل أوامر من الدولة: «أن يلبس سائر النصاري واليهود دون الخيابرة الزنانير في أوساطهم، والعمائم السُّود على رؤوسهم، فامتثل ذلك في سائر أعمال مملكته[…] وأنكر التعرّض لشرب الفقّاع وأكل البقلة الملوكية (والبقلة) المعروفة بالجرجير، وأكل الطلينس وهو نوع من السمك الحلزوني الذي يشبه الثعبان وسائر السمك العديم القشر ولا يصطاده أحد من الصيّادين. وكان متي وُجد أحد قد تعرّض لبيع شيء من ذلك أو لابتياعه عُوقب وأُشهد. وقلّ من نجا منهم من القتل» وعندما ظهرت جماعة أنهم باعوا أشياء منه، فضُربوا بالسياط وطِيف بهم، ثمّ ضربت أعناقهم (راجع، يحيى بن سعيد بن يحيى الأنطاكي، تاريخ الأنطاكي المعروف بصلة تاريخ أوتيخا، حققه ووضع فهارسه عمر عبد السلام تدمري، طرابلس، لبنان، 1990، ص256و 257. وهذا الحدث جعل الكنيسة تصدر منشورًا في عهد الأنبا ارسانيوس (1000-1010)، بعدم أكل السمك في الصوم الكبير خوفاً على ابناءها (راجع، فاطمة مصطفي عامر(الدكتورة)، تاريخ أهل الذمة في مصر الإسلامية من الفتح العربي إلي نهاية العصر الفاطمي، الجزء الأول، تاريخ المصريين=177، القاهرة، 1999، ص417).
رابعاً، مضمون الصوم الروحي؟
إن ما يقوله البطريرك بشارة الراعي في هذا الشان هو شديد الأهمية إذ يقول: ” لا يتوخّى زمن الصوم فرض أصوام وإماتات تفوق طاقتنا البشرية لأنّ الربّ يريد “رحمة لا ذبيحة“، وأن لا تكون خياراتنا في الأطعمة والأشربة سببًا للخصام مع إخوتنا لأنّ المحبّة هي التي تجب أن تحكم أوّلًا في كلّ أصوامنا. وهذا ما يُعبّر عنه بولس الرسول بقوله: “إن كنت من أجل الطعام تُحزنُ أخاك، فلا تكون سالكًا في المحبّة. فلا تُهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من أجله!” (روم 14: 15). لكن ما يجب التيقّظ له أيضًا هو أن لا يتحوّل أكلنا وشربنا ليكون سبب عثرة لأخينا (روم 14: 21). بل فلتتحول كلّ أصوامنا لمجد الله”.
وهو الأمر الذي علمتنا اياه التقاليد المسيحية الأصيلة حتى يصبح صومنا صوما مسيحياً حقيقاً واصيلاً، يقول القديس افرام السرياني: يا إخوتي فلنحب بعضنا بعضاً إذ هذا هو تكملة الوصايا إذ يوجد من يصوم عن الخبز وهو ممتليء غيرة وحسد ويوجد من يمتنع عن الخمر وهو يقتل رفقه في الخفية يصوم الفم عن الخبز فليصم اللسان أيضاً لكيلا يتحدث بأباطيل ويصبح صيامه باطلاً مثلما لا يقبل العسل المخلوط بالمرارة هكذا لا يقبل الصيام المقرون بالحسد هذا هو الصوم الذي أخترت غنت الروح في إيشعيا إذ مع الصوم من المأكل علينا أن نصوم عن السيئات فلنصم إذاً يا أحبائي خفية وعلناً معاً للذي يرانا علناً ويعرفنا خفية أيضاً
لو أن صومك شبيه بالعسل ولسانك ممزوج بالحنظل لإنقلبت فيه الحلاوة إلى مذاق طعم المرارة إن الفم المفطوم من الخبز فليكن مفطوماً أيضاً من الغش والباب الذي يدخل منه الملك فلا يعبرن من خلاله الاثم … ألا بالصوم غلبوا صدقاتكم لكي يتبارك الصيف بثماره ويبتهج قلب المساكين ألا بالصوم فلنزرع الصدقات لكي يطرب البيدر والمعصرة معاً وتمتليء الأهراء بركات بالصوم فلنعط العشور لكيلا يعشرنا الغرباء بالصوم فلنشبع من هم جياع من أجل أن يصبح منزلنا الفردوس جعت كم من المرات لأن طبيعتي كانت تقتضي فامتنعت عن الأكل لأستحق ذلك الطوبى نبذت المؤكولات واحتقرت الخمور إذ رسمت أمام عيني مأدبة ملكوتك أيها العريس السماوي
ونختم بتلك الوصايا العشر التي يقدمها البابا فرنسيس معمقاً من خلالها مضمون ومفهوم الصوم المسيحي الذي يساعدنا على تحول القلب والحياة إلى صورة ذاك الذي صام عنا اربعين يوماً واربعين ليلة:

– صم عن حكم وإدانة الآخرين واكتشف المسيح الموجود فيهم.
– صم عن قول كلمات جارحة ومحقّرة واملأ فمك بجمل وكلمات تفيد وتشفي الآخرين.
– صم عن التّذمّر واملأ حياتك من عرفان الجميل والشكر.
– صم عن الغضب واملأ نفسك بالصبر.
– صم عن التشاؤم وامتلئ بالرّجاء المسيحي.
– صم عن القلق المفرط وامتلئ من الثّقة بالله.
– صم عن التّشكّي واعط قدرًا وقيمة لعظائم الحياة.
– صم عن الإستياء من الآخرين واملأ قلبك بالتّسامح.
– صم عن الحقد واملأ نفسك من طول الأناة على الآخرين.
– صم عن الإحباط والتّراخي وكن ممتلئًا من حماسة الإيمان. امين.