الرجاء

دراسة للأب فادي الراعي، مرسل الفادي الأقدس

 روما، الجمعة 9 يوليو 2010 (ZENIT.org).

للجنس البشري  توق لا يُحدّ إلى سعادة لا تُحدّ. كما إنَّ الإنسان يعيش ويموت مشدوداً نحو المستقبل، في أمل وانتظار.

     في العالم اليوم عنف وخوف وهلع، تهديد وإرهاب، بسبب التسلُّح النوويّ والكيميائيّ المتكاثر. اليأس يُهدد الحاضر. الركائز الكلاسيكيّة تهتزّ. المسلّمات والثوابت يعاد النظر فيها. القوانين لم تعدْ مستندات. الموقف تجاه العائلة والدولة والكنيسة تغيَّر. بات الإنسان اليوم يفتش عن رؤية جديدة للمستقبل يمكنها أنّ تكون أساس القرارات الحاضرة.

فأملُنا الاَّ يُخيب أملَنا.

التحليل النفسي لظاهرة الرجاء البشري :

أ‌- الرجاء هو إنفعال، شعور، إهتزاز، تحرُّك، تفاعل، ترقُّب، تجاه موضوع مرغوب فيه، أو شخص مرغوب بلقائه، ألخ…

ب‌- علماء النفس والفيزيولوجيون يقولون : البُنى الغدديّة تتحرَّك وتعمل تحت تاثير الرجاء أو الشوق…

ج – الأقدمون (الفلاسفة) يسمّون الرجاء : شهوة، رغبة، تصوّر الخير.

د- عدم التأكّد من الحصول على الموضوع المرجوّ يولِّد بعض الخوف. فالرجاء والتخوّف يتعايشان في الوقت نفسه في داخل الإنسان. لذا يقتضي الشجاعة.

ه- تغليب الشجاعة والمعنويات دلالة على نضج الشخصيّة.

و- الشجاعة الشخصيّة تدفع إلى طلب مساعدة الآخرين والله. من هنا الرجاء يقتضي الصلاة.

التحليل الإختباري لظاهرة الرجاء البشري :

التحليل الإختباري مبني على الإختبار والملاحظة.

أ‌-  هناك آمال خارجيّة سطحيّة، وهناك آمال أعمق.

ب‌-  الرجاء يحوي علاقة بالزمن (الإنتظار).

ج- الرجاء هو إمتحان، رمية للتحرير الكامل من الشرّ.

د – الرجاء يحتوي صبراً منفتحاً على نور قد يطهر بعيداً. الصبر يعني إدخال الإمتحان في الذات الخاصة. هذا الصبر يعني أيضاً إحتراماً لمنهج الأشياء والأشخاص والجماعة والذات.

ه- الرجاء لا يصنع العجائب، لكنه يحوي ثقة بالذات وبالآخرين وبالله (مثل إبراهيم)، فهو يعارض الغحباط والإستقالة الوجوديَّة، ويثير في الإنسان الإرادة والقوّة على الثبات الباطني، والتغاضي عن القدر، والإستقرار الذاتي، في سبيل ذات أفضل. هذا يتوافق وما قاله بولس الرسول : " ما هو صالح، وما هو مرضي، وما هو كامل " (روم 12/2 و فل 4/8).

و- ليس الرجاء موضوعاً عاديّاً من جملة الموضوعات. " الرجاء سرّ وجوديّ ".

مظاهر الرجاء البشري :

أ- بعض الأقوال المأثورة : المعنويات أقوى من العقاقير. الحياة أمل – تعليل وتعليق وربط النفس بالآمال. وهناك مَن يقول : ما أضيق العيش لولا عالم ليس فيه حياة! ويقول أيضاً أندريه مالرو : عالم بدون أمل، عالم ليس فيه حياة. أمّا شارل مالك، فقد قال في أحد الأيام: أنا لا أيأس لأني أعرف عناصر القوّة والبقاء أفضل من أسباب الوهم والفناء. ويقول الشاعر راجي الراعي في كتابه قطرات النَدَى ما يلي : " أكبر القتلة قاتل الأمل أي الرجاء "[1].

 ب- بعض المظاهر الوجوديّة في حياتنا تُظهر أنَّ الرجاء هو اصل وجودنا : العمل، الفكر، الصبر طريق إثمار الرجاء، الصلاة علامة الرجاء.  

مصادر الرجاء البشري :

أ‌-      جوع في عمق الإنسان نحو المطلق، نحو الخالق، نحو الحياة الدائمة والسعادة الدائمة.

ب‌-  قوّة الرجاء موجودة تكوينياً في الإنسان[2].

ج-  كبار المؤمنين : الرجاء قوّة وضعها الله في الإنسان.

د-  ليس الرجاء بالنسبة للمؤمنين ملجأً، ولا هو حلم وهميّ، بل مهماز يعمل إلى جانب الإيمان.

موضوع الرجاء البشري الفردي والجماعي :

أ‌-  كلّ ما هو صالح ونافع وشريف.

ب‌- الحياة الاكثر ديمومة، والأكثر وعياً، والأكثر سعادةً.

ج- التطوّر نحو عالم أفضل مادياًّ واقتصادياًّ.

د- يمكن أن يمون موضوع الرجاء الاتحاد مع شخص أو مصالحة أو مشوار أو سفر أو يانصيب، أو تجارة أو ربح (يع 5/13).

تلك كانت النظرة البشرية الصرف إلى الرجاء البشري الطبيعي الواقعي. تُرى الرجاء المسيحي يُضيف شيئاً على هذا الموضوع لظاهرة الرجاء؟

 إنَّ رجاء الآباء وانتظار الشعوب التائقة توقاً لا يُحدّ إلى حلول مملكة السلام على أرضنا قد تمّا في شخص يسوع المسيح، لأنه النصر له وفيه وبه على سرّ الشرّ في العالم. إنَّ الرجاء المسيحي هو رجاء خلاص كلّ إنسان وكلّ الإنسان. "  تبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، شملنا بوافر رحمته فولدنا ثانية، بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات، ولدنا لرجاء حيّ " (1 بط 1/3).

وصف مقتضب للرجاء المسيحي :

الحياة المسيحية تحوي بذاتها الرجاء : كلّ معمَّد باسم يسوع المسيح هو إنسان الرجاء. الرجاء المسيحي يظهر عفوياً في الصلاة والصبر على الآلام، وفي العناية الإلهيّة حيث تسلعد في إنشاء المؤسسات الخيريّة التي تلبّي رجاء المحتاجين. هذا الرجاء الحسّي (الملموس، المعاش، الميداني) لا يوجد دائماً في المسيحيين صافياً : الآمال الأرضية العالميّة يمكن أنّ تحجب الرجاء المسيحي. نجد أيضاً بين المسيحيين أنفسهم إيماناً ورجاءً بإله يصفونه هم حسب الظروف التي يعيشون فيها. مثل على ذلك : رجاء بإله يريدونه أن يحفظ من جميع الشدائد الحياتيّة وأنّ يعزّي في الصعوبات. ونلاحظ أحياناً رجاء البعض بشكل خرافي وهمّي كالإتكال على الله ليساعدنا في الخيور الارضيّة كالشتاء، والكنوز، والخيرات. فهذه عطايا إلهيّة طبيعيّة، وليست مواهب إلهيّة يمنحها الروح القدس.

هذا الوصف المقتضب للرجاء المسيحي وانحرافاته يلزمنا بالعودة إلى الينابيع. لهذا نعرّج على ينابيع واصول وبدايات الرجاء المسيحي.

مصادر الرجاء المسيحي :

–  في العهد القديم :

بعد أنّ سقط الإنسان الأوَّل وعده الله بالفداء وأقامه على رجاء الخلاص (تك 3/15). الله لم ولن يترك البشريّة أبداً بدون رجاء : " أنا أجعلك أُمةً عظيمةً …. وتكون بركةً (تك 12)، وأعطيك    " أرضاً تدرُّ لبناً وعسلاً (خر 3/17-18).

يرفض العهد القديم الآمال البشريّة الكاذبة، المبنيَّة على بشر، على غنى، على قوّة سياسيّة. هكذا يقول الرب على لسان النبي أشعيا (30/15) وأيضاً في المزمور ( 37/5-7). يتطلَّع أشعيا إلى مستقبل السلالة الداوديّة ويقول أقوالاً تبعث الرجاء. أشعيا الثاني (40-55) هو سفر الرجاء يحمل الرجاء والتفاؤل.

وعَدَ الله في العهد القديم يُدعى " كلام الله ". وعَدَ البركة والخلاص والسعادة لإبراهيم ونسله    (تك 12/1-3) وبواسطته لجميع البشر (تك 18/18). كذلك كلمات الوعود أُعطيَت لداود (2صم 7)، ثمَّ للأنبياء لتجديد شعب إسرائيل (إر31 و أش 40). الوعد مُلازم للعهد (حز 23/20 و تث 27/30). وعد الخلاص، رغم خيانة الشعب، يبقى ثابتاً من قِبَل الله " الأمين ". 

–   في العهد الجديد :

            العهد الجديد هو، من جهة، كمال الوعود الإلهيّة بالخلاص بيسوع المسيح. المسيح هو محقِّق الوعود. ومن جهة أخرى يحمل يسوع لنا وعوداً جديدة كبيرة. يبدأ بشارته بقوله : قَرُبَ ملكوت الله (مر 1/15 و متى 4/17 و 23). والتطويبات جميعها وعود خلاص وميراث ملكوت السماوات (متى 5/2-21).

            ثُمَّ يَعِدُ يسوع رسله ببقائه معهم دائماً (متى 28/19)، وبالحياة الأبدية. يَعِدُ بمساعدته لهم يوم الدين أمام الآب (متى 10/32).

       في إنجيل يوحنا : يجذب يسوع الجميع إليه (يو 12/32). والوعد الكبير هو الروح القدس (يو 15/26 و يو 16/5-15). وهكذا يؤسس يسوع رجاء التلاميذ ومَن سيؤمنون به عن يدهم. كذلك أعمال الرسل هو الكتاب الذي يظهر فيه إتمام الوعود الإلهيّة في العهد القديم بحياة يسوع لبمسيح وموته وقيامته (أعمال الرسل 1/8 و 2/39 و 13/32-33). قيامة المسيح هي مركز الخلاص الغلهي، حيث يظهر الله فادياً مكمِّلاً للوعود وواهباً الروح القدس (أعمال الرسل 2/38 و 10/45).

       كذلك بولس يركِّز على هبة الروح القدس (روم 5/5 و غل 3/14)، عربون فدائنا الكامل وميراثنا ومجدنا الآتي (2 قور 1/22)، عربون التبني لله وافتداء جسدنا (طبيعتنا المائتة) (روم 8/23)، بعد الموت والقيامة. يعلّمنا بولس هنا أنَّ امتلاك الروح القدس هو رجاء المسيحيين وأساسه. إنَّ إيماننا ورجاءنا بالقيامة أساسه قيامة المسيح (قول 1/18 و 1قور 5/20-23 و 15). المسيح الممجَّد هو مصدر رجائنا.

    

–   في تعليم الكنيسة :

       ليس في مقدورنا أن نورد جميع ما كتب وقيل حول موضوع الرجاء في التقليد وفي مواعظ الأساقفة والرعاة الروحيين : اكليمنضوس الروماني، باسيليوس الكبير، يوحنا فمِ الذهب، افرام السرياني، اسحَق السرياني وغيرهم.

–   في دستور " مبارك الله "[3]، نقرأ بأنَّ " الرجاء فضيلة إلهيّة ".

–  في المجمع التردنتيني[4]، نقرا بأنًّ الرجاء فضيلة فائقة الطبيعة، " مفاضة في قلوبنا بالروح القدس "، تؤهِّل الإنسان لأنّ ينظر بثقةٍ كبيرةٍ، بناءً على وعد الله الكلّي الصدق والوفاء، السعادة الخالدة، بالوسائل الضرورية للحصول عليها (صلاة – صبر – عمل). ويقول المجمع أيضاً بأنَّ الرجاء المسيحي ليس تأكيداً مطلقاً نافياً كل حذر وتردُّد، لكنه يبقى مقروناً بالخوف.

–  المجمع الفاتيكاني الثاني الذ أعطى دستوراً رعوياً أسماه " فرح ورجاء "[5]، أو الكنيسة في عالم اليوم. الرجاء المسيحي ميزة شعب الله السائر نحو المدينة السماوية. الجماعة المسيحيّة، الكنيسة، تترجى الكمال في مجد السماء في تجديد كلّ شيء في المسيح، في الأرض الجديدة والقيامة الشاملة. ولكن هذا الرجاء ليس منفصلاً عن الرجاء البشري الفردي والجماعي. فعندما تدافع الكنيسة عن كرامة الدعوة الإنسانيّة، " تُعيد الرجاء هكذا إلى أولئك الذين لن يجرؤوا فيؤمنوا بعطمة مصيرهم "، وبعالم أفضل عبر تطوّر التاريخ البشري، " نحو القيامة ".

–  في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية نجد تعليم الكنيسة الواضح عن الرجاء المسيحي، إذ يعرِّف الرجاء بما يلي : " الرجاء هو الفضيل الإلهيّة التي نرغب في ملكوت السماوات، والحياة الأبدية… "[6]، ثمَّ يقول أن الرجاء هي التوق الموجود في قلب كلّ إنسان، " إنَّّ فضيلة الرجاء تلبّي التوق إلى السعادة الذي وضعه الله في قلب كلّ إنسان "[7]، وخلاصة الرجاء المسيحي هي أنَّه " بالرجاء نبتغي من الله وننتظر بثقةٍ راسخةٍ الحياة الأبديّة والنِعَم لاستحقاقها "[8].

موضوع الرجاء المسيحي :

       موضوع الرجاء العام : تتميم الوعود الغلهية لجميع المؤمنين.

 

–   في العهد القديم :

       العهد والوعد والملكوت والخلاص. رجاء الأنبياء هو انتظار المسيح وملكوته : " الأرض " رمز   " الملكوت " هي جزء من الوعد. خِصبها رمز الحياة الهنيئة مع الله.

–   في العهد الجديد :

       موضوع الرجاء الأساسي في العهد الجديد هو يسوع المسيح. موضوعات الرجاء المسيحي العامة نجدها في التطويبات وفي الأبانا.

–  في إنجيل متى : موضوع الرجاء هو ملكوت السماوات (متى 4/17)، في الصلاة الربيَّة (متى 5/9-13) : تقديس اسم الله، مجيء ملكوته، تتميم مشيئته، مغفرة الخطايا، الحفاظ من التجارب، النجاة من الشرير، الخبز اليومي أيّ الحاجات الضروريّة مادياً وروحياً.

–  عند مار بولس : نجد : البنوّة لله (روم 8/16 و 23) وامتلاك الله في المجد الآتي (روم 8/18-27) الأبدي. " المسيح فيكم هو رجاء المجد " (قول 1/21-28). الرجاء المسيحي يمتد إلى مجد أبناء الله (روم 5/2 و قو 1/27)، من التبرير إلى الخلاص (1تس 5/8)، إلى الروح الغني بالثمر (غل 5/22-23)، الذي يولِّد الحياة الأبدية، إلى الحياة الأبدية نفسها التي وعد بها الله (طي 1/2 و 3/17)، " الأمين " للذين يحبونه، إلى السبيل جميعاً من دون تمييز إلى " قدس الأقداس "، " بالفداء الذي صار في المسيح يسوع " (روم 3/24).

–   عند مار بطرس : القيامة، الميراث البريء في السماء (1بط 1/3-4). فالسماء موضوع الرجاء.

–  في الكتب اليوحنّوية: موضوع الرجاء هو بشكل خاص وعد القيامة، ما سنكونه : شبيهين بالله، ونكون نحن حيث هو (يو17/24)، ونراه كما هو (1يو 3/2).

فموضوع الرجاء بشكلٍ عام هو القيامة (1قور 15)، تبديل جسدنا : " جميعنا سيتغيّر " (1قور 15/51)، ونشارك المسيح في المجد الذي سيتجلّى فينا (روم 8/18)، أفراداً وجماعةً بشريّة مؤمنة (الخلاص الجَماعي). لذا نتحدَّث عن نقطتَين مهمّتَين هما :

o قضيَّة الخلاص الشخصي الكامل.

o الناحية الجماعية في الرجاء المسيحي.

 

–  قضيَّة الخلاص الشخصي الكامل :

       يرى الكتاب المقدس خلود النفس كهبة من محبة الله (روم 8/37-39 و 14/7-12 و قور 5/7-10). لا يدع الله الإنسان الذي يحبه يسقط ويرى فساداً، بل يُقيمه ويرفعه. توضَّجت فكرة القيامة والحياة الأبدية مع ظهور النظرة اليهوديّة : الله يلاشي نهائيّاً الموت الذي لم يكن من صنعه أساساً (أش 25). " عندئذٍ يقوم الأبرار الراقدون للحياة الأبدية، والباقون يستيقظون للعار والرذل الأبدي (دا 12/2)، إلى أرض ظلمة وظلال وموت (أي 10/21) ولا يرجعون، وحيث ينساهم الله ذاته فلا يذكرهم بعد وهم عن يده منقطعون (مز 87/7). فالموت حصّة الأشرار ينزلون جميعهم إلى الجحيم، ذلك المكان المظلم الذي لا يخرج منه أحد.

          فالخلاص الشخصي هو موضوع الرجاء. يقول لنا مار بولس بأنَّ الإنسان، بالموت، يصبح عارياً (2قور 5/3). ويبقلا الإنسان الباطن (2قور 4/16)، الذي نما بالمسيح، يبقى متَّحداً به بنعمة الله وقوّة الروح القدس. في الثيامة بدل الجسم اللحمي، أيّ الجسد النفسي (1قور 15/47) (التاريخي) المحكوم عليه بالموت، يقبل الإنسان جسداً جديداً بالقيامة، أيّ كياناً جديداً، يوافق الإنسان الإنسان الباطن الباقي مع المسيح، لأنَّ الموت لا يفصل عن الربّ، بل يُتحِد نهائياً بالربّ. المسيح مات وقام كلّه، كذلك الإنسان على مثال المسيح سيكون. وعلينا أنّ نقول بأنَّ الموت –  بنظر مار بولس – ليس تلاشياً. المتابعة الوجوديّة معبّر عنها بنوع واضح في (فل 1/23) : " لي رغبة في الذهاب لأكون مع المسيح… غير أنَّ بقائي معكم بالجسد…"، وهي مفروضة ضمناً في (2قور 5/31). فنحن في الروح القدس ننتظر خلاص كلّ إنسان وخلاص الإنسان، في الرجاء (روم 8/23). فالمؤمن الحق يحيا مع المسيح، بعد الموت، بنوع خاص. وهذا النوع الخاص نتصوّره ونتحسّسه ونتذوّقه مسبقاً. فالخلاص النهائي الموعود به هو نصيب المؤمن الحق.

         

الناحية الجماعية في الرجاء المسيحي :      

         يرى الكتاب المقدس محبة الله ودعوته إلى الحياة دائماً في إطار شعب الله، الكنيسة، الجماعة المؤمنة. في متى نرى القيامة معروضة كحدث جماعي في " يوم الدين " (متى 25/31-46). وشمول الخلاص ظاهر في لوقا ( لو 1/29) و في يوحنّا (يو 10/16). في نظر بولس الرسول نجد هذا في هذه النصوص : (روم 8/14) و (1طيم 2/4) و (1طيم 4/10) و (2طيم 1/10) و (طي 2/11) و (روم 5/12-21).

          والمقياس الجماعي للرجاء المسيحي يعرضه لنا لاهوتيون محدثون كثيرون. وإنَّ صلاة الكنيسة تعبِّر عن رجاء جميع المسيحيين خلاص البشريّ’ كلّها. فالمسيح وسيط الخلاص (هو طريق الخلاص) لكل الناس بالإنجيل. " تخلصون إنّ حافظتم على الكلام الذي بشَّرتكم به " (1قور 15/2). لذلك " اقبلوت بوداعة الكلمة المغروسة فيكم القادرة أنّ تخلِّص نفوسكم " (يع 1/21)، " وارغبوا كالأطفال الُرضَّع في الحليب الصافي، حليب كلمة الله لتنموا بها من أجل الخلاص " (1بط 2/2-3).

الرجاء المسيحي والرجاء البشري :

  " ملكوت الله يبدا تحقيقه في هذا العالم "[9]. نرى أنَّ تاريخ البشريّة وتطوّرها يدخلان في الرجاء المسيحي. يقول الدستور الرعوي حول الكنيسة في عالم اليوم : إنَّ الإختبار البشري في التاريخ هو حدث يدخل في بنية الخلاص " إنَّ روح الله الذي يوجِّه بعناية عجيبة سَير الأزمنة، ويجدّد وجه الأرض، هو يُشرف على هذا التطوّر ". " وعلى كلّ جماعة أنّ تحسب حساباً لحاجات ولتوق الجماعات الأخرى الشرعي، كما أنَّ عليها أنّ تحسب حساباً للخير العام الذي يشمل العيلة البشريّة بكاملها ". إنَّ الرجاء المسيحي يرفض أنّ يترك الأرض. المسيحيون " يتمّمون واجباتهم كمواطنين… كلّ أرضٍ غريبة وطنٌ لهم… يمتثلون للشرائع القائمة…. لا يعملون إلاّ الصلاح ".

بأيّ طريقة يدخل التطوّر البشري الصحيح في نمو ملكوت الله ؟ كيف يكون هذا التطوّر البشري جزءاً من موضوع الرجاء المسيحي ؟

– بالعمل من أجل عالمٍ أكثر إنسانية[10]. 

– بواسطة ترتيب أفضل للتعايش البشري. تعلّم الكنيسة أنَّ الرجاء في حياة أبديّة بعد الموت لا ينتقص من أهميّة المهام الأؤضيّة، بل بالأحرى يساعد على تتميمها مركِّزاً إيّاها على دوافع جديدة أعمق.

  فالتطوّر البشري الصحيح، والعمل من اجل عالم اكثر ‘نسانية، وعمل الواجب لترتيب أفضل للتعايش وغيرها، كل ذلك صورة صافية للرجاء المسيحي المعطى بالروح والمسيح.

الرجاء والإيمان :

 ما هي علاقة الرجاء بالإيمان ؟

      الرجاء والإيمان صنوان قريبان من حياة المؤمن المسيحيّ. بنظر القديس قبريانوس[11]، يقول أنَّ الإيمان والرجاء يؤلِّفان جوهر المسيحيّ. وإنَّ وجودنا كمسيحيي لهو قضية إيمان ورجاء.

–  الإيمان أساس الرجاء :

    كان أنسباء طوبيا وذووه يسخرون من عيشته قائلين : " أينَ رجاؤك الذي لأجله كنت تبذل الصدقات وتدفن الموتى ؟ فيزجرهم طوبيا قائلاً : لا تتكلَّموا هكذا. فإنَّما نحن بنو القديسين، وإنَّما ننتظر تلك الحياة التي يهبها الله للذين لا يصرفون إيمانهم عنه أبداً ".

       الإيمان هو قبول وحي الله. الإيمان، باعتباره معرفة وحي الله، يسبق الرجاء : " بما أنَّكم تؤمنون بيسوع المسيح، الذي تحبّونه، فسوف تبتهجون بفرح مجدٍ لا يوصف. أنتم الذين تصونهم قوّة الله بالإيمان، لكم رجاء حيّ بميراث لا يبلى ولا يفسُد ولا يضمحلّ، خلاص محفوظ في السماوات لكم، سينكشف في اليوم الأخير الذي فيه ستبتهجون " (1بط 1/4-5).

      الرجاء يفترض الإيمان، الإيمان بالله وبمواعيده وبصلاحه كراعٍ وأبٍ ومخلِّصٍ يريد خلاص الجميع بدون تمييز بين يونانيّ ويهوديّ أو مختون وأقلف، وعبد وحرّ (قول 3/11). كلٌُّ منّا، كلّ إنسان يدخل في المجموعة البشريّة، العائلة البشريّ’ التي يريد الله أنّ يخلِّصها.

      فبالنسبة إلينا نحن المسيحيين، يبقى " الإيمان " بيسوع المسيح مصلوباً (2قور 1/2)، الذي يقود إلى القيامة، الأساس الثابت لرجائنا. فالإيمان يقود إلى عيش الرجاء.

–  الإيمان يحثُّ على الرجاء :

     الإيمان يولِّد الرجاء. هذا الإيمان يدفعنا إلى الرجاء. الإيمان يدخلنا إلى فضيلة الرجاء (عب 11/1). الإيمان يوقظ الرجاء ويعطي الرجاء.

–  الإيمان يستند على الرجاء :

     في عالم الاضطهادات والامتحانات يبقى الوعد بإكليل المجد، بعد الجهاد، سند المسيحيّ الأقوى في صراعه وجهاده. فحيث الرجاء يهتزّ فهناك الإيمان معرَّض للفقدان. إذاً بَطُل الرجاء فماذا يبقى للإيمان؟

    فالرجاء والإيمان يقوّي أحدهما الآخر، وهكذا تحلّ صعوبات وعِقَد جمّة.

 

الرجاء والصلاة :

الرجاء يشرح الصلاة. الصلاة المسيحيّة تطلب إلى الله مجيئ ملكوته وإتمام مشيئته… فالصلاة يمكن شرحها فقط بالرجاء. " هل يستطيع أنّ يصلّي من لا رجاء له ؟ عندما تصلّي تأكَّد أنَّك دخلت في المسيرة الكبرى مع الذين يرجون القيامة والحياة ". الصلا تتعذَّر دون الرجاء (يع 1/6-7). الصلا هي بدورها التعبير عن الرجاء في رحلته صوبَ موضوعه النهائيّ، الله. إنَّ الصلاة مثل الرجاء جزء لا يتجزّأ من الحياة المسيحيّة. والصلاة تسهم في جعل الرجاء نشيطاً.

الرجاء والنشاط :

– الرجاء يدفع إلى النشاط :

       ويدفع إلى الإلتزام بكلّ قوّة، نحو الله ونحو الإنسان الذي من أجله تجسَّد ابن الله ومات وقام. هل يصحّ القول بأنَّ الخلاص موضوع الرجاء هو مجَّرد عطيَّة نقبلها من الله أمّ إنَّه بإمكاننا أنّ نسهم به في أعمالنا ؟ التبرير، موضوع الرجاء، هو فعل الله أوّلاً بواسطة يسوع المسيح الفادي : " لقد نِلنا البرَّ مجّاناً (روم 3/24). يقول مجمع Orange[12] سنة 529 والمجمع التريدنتيني [13] : في مرحلة التبرير التالية يكون الإنسان فاعلاً بقبوله وحي النعمة بمساعدة الروح القدس. فالرجاء المسيحي يجب أنّ يدفع إلى النشاط، إلى أعمال الإيمان والرجاء والتوبة والعبادة، وبنوع خاص إلى المحبة نحو القريب.

       " فمن هذا الرجاء يستمدّ كلّ مسيحيّ فرضيَّة العمل الذي عليه القيام به في خدمة الله والإنسان، والمجتمع والوطن. أجل، موطننا في السماوات، أمّا مسرح حياتنا ففي هذه الأرض. وبين هذه الأرض والسماء نعيش مشدودين مصلوبين، بقوّة رجائنا، نعمل في كلّ اتجاهات أبعاد الرجاء، متضامنين مع الناس أجمعين، من ذوي الإرادات الصالحة، في خدمة الإنسان وتحريره وتكميله وتمجيده ".

–  النشاط تحقيقٌ للرجاء :

      فبعد التبرير من قبل الله يمكن أنّ نتكلَّم عن أعمال صالحة من قبل الإنسان. وهل يمكن هذه الأعمال أنّ تسهم في الخلاص الموعود به من الله ؟ طبعاً، لأنَّنا " معاونون مع الله " (2قور 6/1). تعلِّم العقيدة الكاثوليكيّة بأنَّ المسيحي البار يستطيع أنّ ينمو في البرارة بواسطة أعماله الفاضلة. وبهذا يصبح مسهماً في عمل الخلاص. خلاصنا النهائيّ سيكون أكبر بنسبة البرارة المكتسبة. إنَّ عملنا المسيحيّ يزيد وينشِّط برارتنا وخلاصنا.

       يتكلَّم المسيح عن الأجر (متى 5/12) : " إنَّ أجركم في السماوات عظيم"، و في (متى 19/21) : " إنّ شئت أنّ تكون كاملاً…. يكن لك كنز في السماوات "، وفي (متى 19/29) : " كلُّ مَن يترك من أجل اسمي… حياة أبديّة "، وفي (لو 12/34) : " حيث كنزكم قلبكم "، وفي (لو 6/38) : " بما تكيلون يُكالُ لكم".

        يتكلَّم مار بولس أيضاً عن الأجر(1قور 3/8) : " كلٌّ ينال أجره وفق تعبه "، وفي (2قور 5/10): " أمام منبر المسيح يأخذ كلُ واحد لقاء ما عمل في الجسد، خيراً كان أمّ شرّاً. في (قول 3/24) يقول : " إنَّ الميراث يُنال كجزاء، أيّ كأجر للخدمة. في (2طيم 4/8) يتكلَّم بولس عن إكليل البرّ الذي يجازيه به الديّان العادل. نلاحظ أيضاً فكرة المكافأة الواجبة في (روم 2/6) : " يجازي (الله العادل) كلّ واحد بحسب أعماله".

        ويقول يوحنّا في رسالته الثانية : " إحذروا أنفسكم لئلاّ تخسروا ما قد عملتم، بل لتنالوا أجراً كاملاً (2يو 8). من جهة أخرى يجب قراءة تأكيدات المجمع التريدنتيني[14] للأعمال الصالحة على ضوء ما يقوله: " إنَّ محبة الله للبشر عظيمة إلى حدّ أنّها تجعل من مواهبه استحقاقات لهم ".

        كما إنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني يعلِّمنا أنَّ العمل الذي نقوم به في العالم يدخل بشكلٍ ما في خلاص البشريّة. على المسيحيين أنّ يظهروا رجاءهم (أف 5/16 و قول 4/5) في بنى الحياة المدنيّة. هنا أساس رسالة العلمانيين الذين عليهم أنّ يمارسوا عملهم الرسولي في حقول العمل الرسولي المتنوّعة : الجماعات الكنسيّة، العائلة، الشبيبة، البيئة الإجتماعيّة، القطاعات الوطنيّة والدوليّة.

        العضو العامل في الكنيسة لا ينجرف بكبرياء أو غرور، بل يفرح بنجاح عمله لأنَّه نجاح عمل الله. والنجاح في العمل عربون فرح وبهجة. فالمسيحيّ فرِح دائماً بنجاحه. الحياة المسيحيّة كحياة المسيحيين الأوّلين يجب أنّ تكون نشيطة. وإنَّ ثقة المسيحيّ بأنَّ ابن الله لن يخيِّب الأمل، تدفعه إلى العمل بمحبة لا تعرف اليأس.

الرجاء والطاعة :

        بما أنَّ القيامة والحياة الجديدة، موضوع الرجاء المسيحي، هما المستقبل الموعود من قبل الله، فالرجاء المسيحي يدفع إلى طاعة الله.

       الطاعة يفرضها رجاء تحقيق وعود " الأمين ". والرجاء بدوره يستند إلى الوعد الإلهي الثابت. فالمسيحية الخلقية أمام الله يوجِّهها الوعد الإلهي الأكيد. وقوام المسيرة والتجدُّد بسماع الكلمة (متى 7/24)، والإجادة في قراءة علامة الأزمنة. والشهود لنا هم إبراهيم ابو المؤمنين (تك 12/1-4 و 22/1-18 و عب 11/8-12)، وبعده آخرون، حتى المسيح يسوع. أتمَّ الابن الفداء بطاعته. وبعد الرب والمعلّم حشد من القديسين وخدَّام الله و "المختارين "(رؤ 7/9-17)، يملأ التاريخ على مرِّ العصور المسيحيّة وعلى رأسهم " أمّ الفادي " الإلهي، حواء الجديدة (رؤ 12/1) مثال المرأة (يو 2/1-5 و 19/25) " الأمينة لصوت الروح، إمرأة الصمت والإصغاء، إمرأة الرجاء ".  وقد تجاوبت العذراء مع دعوة الله بطواعية تامّة : " أنا أمة الرب " (لو 1/38).

          هكذا نحن اليوم، إقتداءً بمن سبقونا، وخاصة بالمعلّم، علينا بالطاعة " لعهد الرب ". هذه الطاعة أساس الثقة بأمانة الله لوعوده. يبقى أنَّ الطاعة، حسب العهد الجديد، هي الموقف الإنساني الإيجابي والخلقي الأساسي (متى 7/24). وإنَّ مار بولس يضع

[1] – كتاب قطرات النَدى، للشاعر راجي الراعي، الطبعة السابعة – زحلة 2002، ص 155.

[2] – كما يقول Ernst Bloch.

[3] – Benedictus Deus للبابا بندكتوس الثاني عشر، 29/1/1236.

[4] – الجيل السادس عشر، في الجلسة 16.

[5] . Gaudium Espes –

[6] – الجزء الثالث، المقال السابع، ً2 الفضائل الإلهيّة، بند 1817.

 – [7]الجزء الثالث، المقال السابع، ً2 الفضائل الإلهيّة، بند 1818.

[8] – الجزء الثالث، المقال السابع، ً2 الفضائل الإلهيّة، بند 1843.

[9] – هذا ما تعلّمه " الكنيسة في عالم اليوم ".

[10] – راجع : ك ع، الفصل الثالث.

[11] – أسقف قرطاجة واللاهوتي الخلقي الإغريقي الأوَّل.

[12] – الذي ثبَّته بونيفاسيو الثاني، سنة 531.

[13] – الذي انعقد من سنة 1545 حتى سنة 1563.

[14] – في نهاية الفصل السادس عشر.

[15] – في رسالة " ترقي الشعوب ".

[16] – بتاريخ 1 أيّار 1984.

[17] – رجاء جديد للبنان.

[18] – من كلام سيادة المطران سليم بسترس.