الزواج والعائلة

 

         

خاص بالموقع

إن الزواج بالنسبة لأتباع المسيح هو عهد يجمع الزوجين مع الله في كيان واحد وبالتالي يكونان أمام الله كجسد واحد لا يُفرِّقه أحد، كما شاء الله عند تكوين الخليقة (سفر التكوين 2: 24، متى 19: 5-6، مرقس 10: 6-9)، ساعين كليْهما إلى أن ينال هذا الجسد الحياة الأبدية مع الله كإرثٍ حين الممات بدلاً من الأموال والكنوز الأرضية في حالة الإنفصال. تسود المحبة بين الطرفين كمحبة يسوع لأتباعه: محبة بذل الذات للآخر، محبة غير مشروطة. يعملُ كلا الطرفين على إسعاد الآخر، مكمِّلين بعضهما البعض في كلّ الأوقات: في السراء والضراء وإلى الأبد. فكما أن اليد الواحدة لا يمكنها أن تُصفِّق بدون اليد الأخرى، كذلك الحياة الزوجية لا يمكنها الإستمرار بدون المحبة والتفاهم بين الطرفين؛ لذلك يعمل الطرفين، قولاً وفعلاً، على أن تزداد المحبة فيما بينهما بمرور الوقت لكي لا تفتر. فالزواج المسيحي ليس عقداً بين طرفين يُسمح لهما بالإنفصال متى ما رغبوا بذلك أو متى ما إنتهى الحب فيما بينهما. ويجب أن لا يُنظر إلى الزواج وكأنه متعة تنتهي بالطلاق والحصول على كمية من الأموال كإرث أو ثمناً للعِشرة المؤقتة.

 

يعتمد الزواج المسيحي على مبدأين يُكمِّلان بعضهما البعض ولا غِنى لأحدهم عن الآخر:

1.    ينتقل الإيمان من جيل إلى آخر عن طريق العائلة؛ إذ طلب الله من آدم وحواء أن يُثمرا، كما طلب من الشعب الّذي عرفه وشاهد عجائبه وقوّته أن يُخبر الجيل الّذي لم يعرفه فيؤمنوا به (التكوين 17: 7-9، التثنية 4: 9-10، مزمور 78: 1-7).

2.    الإيمان ليس قولاً يُقال بل فعلاً واضحاً أمام الجميع؛ الإيمان (أي محبة ومخافة الله) هو كل ما سُمع من كلام الله وعُمِل به، أي العمل بمشيئة الله (ملاخي 1: 6، لوقا 6: 46-49، لوقا 8: 21). وبالتالي فإن ما يُنقل للأطفال (الأجيال القادمة) من إيمان هو ما يقوم الزوجين بفعلِه أمامهم. معرفة الله، الصلاة والصوم والصدقة، المحبة، التسامح، التواضع، بذل الذات، الحقد، الكراهية، النميمة، العجرفة، وجميع صفات القلب الصالحة والطالحة تنتقل إلى الأطفال على حسب تصرّفات الأهل (لوقا 6: 45). 

 

إن قول السيد يسوع المسيح: "دعوا الصغار يأتون إليَّ ولا تمنعوهم" (متى 19: 13-15، مرقس 10: 13-16) يضع مسؤولية كبيرة على عاتق الوالدين بأن يعوا ويعملوا بمبادىء إيمانهم ليتمكنوا من أن ينقلوه لأبناءهم، إذ لا يُمكن للوالدين أن ينقلوا لأبناءهم ما يجهلونه أو ما لا يُطبِّقونه بأفعالهم. وكما أعدَّ يوحنا المعمدان الطريق لمجيء المسيح وبشّر بإقتراب الملكوت (يوحنا 1: 23)، كذلك على الوالدين أن يُعدّوا الطريق أمام أبناءهم لقبول المسيح في قلوبهم والعمل بأقواله؛ فهو على الباب (القلب) يَقرع مُنتظراً أن يُفتح له (سفر الرؤيا 3: 20)؛ لذا على الوالدين أن يفتحوا قلوب أطفالهم على محبة ومعرفة الله وهم صِغار فيثبتوا به وهم كبار. فالأطفال هم أمانة على عنق الوالدين ليوصلوها لخالقها. ولعل أول الأعمال التي يقوم بها الوالدين تجاه الأطفال لهذا الغرض هي المعمودية والتثبيت بالميرون وتهيئة الأطفال لمناولة القربانة المقدّسة. والمناولة تتطلّب معرفة اللجوء لله بكل تواضع لطلب المغفرة، وحسن معاملة الآخرين ومسامحتهم في حال وجود أي خلاف. وكما يوفّر الوالدين لأبناءهم الغذاء لنمو أجسادهم، كذلك عليهم أن يوفروا لهم الغذاء الروحي ليتمكنوا من النمو والوقوف أمام التجارب. والغذاء الروحي يأتي من (1) سماع كلمة الله عند قراءة الإنجيل سواءً مع العائلة في البيت أو في الكنيسة، و (2) الذهاب إلى الكنيسة لحضور القدّاس الإلهي، وتناول جسد ودم السيد يسوع المسيح لمغفرة الخطايا والتّقرب من الله، و (3) العمل بكلمة الله.

 

أجل، فغاية الزواج المسيحي هو "الإثمار" إي أن تُزرع: (1) "محبة الله وطاعته كمحبة وطاعة الصغير لأبيه" و (2) "الثقة بالله كآب سماوي قادر على كل شيء وهو إله خير" و (3) "محبة القريب كأخوة لآب واحد" في قلوب الأولاد ليتمكنوا بدورهم من زراعتها في قلوب أولادهم في المستقبل. هذا النوع من المحبة الخالية من كلّ رياء نجدها بقلوب الأطفال النقية، وهذا ما أكّده السيد يسوع المسيح حين قال: "إن من لا يقبل ملكوت الله مثل طفلٍ فلا يدخله" (مرقس 10: 15). إن على المؤمن أن يُحبَّ أباه السماوي ويثق به ويتّكل عليه ويطيع كلامه كما يُحب الطفل الصغير أباه.

 

في ضمن العائلة، يعيش الإنسان المؤمن كافة تعاليم السيد يسوع المسيح القائمة على محبة الله وإحترام كلمته وطاعتها وشكره وتسبيحه، والتي تتضمن العيش بمحبة ورحمة وعدالة مع الآخرين، إذ عليه أن يُجاهد ليكون نوراً لشريك حياته ولأطفاله ولمن حوله من الناس، كما عليه أن يكون ملحاً يُملّح به قلوب من حوله أي يستطيع بأفعاله أن ينقل للآخرين محبة الله التي تكمن في قلبه (مرقس 9: 50)؛ فـ الطاعة هي تعبير للحب وتمجيد لمن يُطاع (يوحنا 14: 15 و21). 

 

يُمثّل البيت المسيحي المؤمن صورة مُصغّرة للملكوت السماوي من حيث (1) المشاعر التي تسود بين أفراد العائلة و (2) المكانة الواجبة إتخاذها لكل فرد من أفرادها دون التعدّي على حقوق الآخرين. فهناك ملك واحد وملكة واحدة وأبناء متساوون في المكانة مع إختلاف ذواتهم ومواهبهم، وجميعهم أعضاء في جسد واحد. في هذه المملكة الأرضية متى ما إختل التوازن أو حُرم أحدهم من المكانة الواجبة له (كأن يُحب الأب إبناً أكثر من الآخر) أو أُستبدل أحدهم بشخص أخر (كأن تأخذ الحماة مكان الزوجة) أو شيء أخر (كأن تكون تجميع المادة أهم من إحتياجات الأولاد) فسوف ينقسم هذا البيت على نفسه إذ تتسلل الغيرة والحقد والكراهية والطمع وصفات أخرى غير مُحبّبة إلى القلوب. لذلك علي كل فرد من أفراد العائلة وبالأخص الوالدين أن يبقوا متحدين بالقلب كإتحاد الآب السماوي بإبنه الحبيب يسوع المسيح وأن يتمتّعوا بروح الحكمة ليستطيعوا أن يُربّوا أبنائهم تربية مسيحية مثمرة حسب مشيئة الله.

 

تظهر في الحياة الزوجية الكثير من الصعوبات لإبعاد أفراد العائلة عن الهدف الرئيسي للزواج والتفكير بالطلاق، ولكن من يتْبع السيد يسوع المسيح فيتّبع تعاليمه ويعمل بنصائحه يصل لمبتغاه. فلقد قال السيد يسوع المسيح بأن "لا بدّ للضيقات أن تأتي" و "لا بدّ أن تقع المعاثر حتماً" (متى 17:7) و "إن الشيطان قد طلبكم لكي يُغربلكم كما يُغربل القمح" (لوقا 22: 28-31)، والشيطان عازمٌ على إستغلال المادة والشهوة وحب السلطة وحب الذات والشخصيّة (الطريقة التي تربّى عليها الإنسان) والأحبّاء (الأقارب والأبناء) وحتى المشاعر والأحاسيس والإحتياجات لكي يخيب الإيمان (تجارب الشيطان ليسوع في البرية (لوقا 4: 1-12)، وسفر أيوب)، لذا وجب دوماً التوكّل على الله والصلاة ليُزيد من الإيمان (لوقا 17: 3-6) ومن مواهب روحه القدوس في القلوب (متى 6: 33) فتنجو من الشرير. كما أوصى السيد يسوع المسيح على أن لا يكون أحد حجر عثرة أمام الآخر (متى 17:7)، فكيف بالحال إن كان حجر عثرة أمام الأطفال (مرقس 9: 42). حين تحدث المشاكل بين الزوجين، يتساءل الأطفال: "أين هو إلههم؟ وما هي نوعية مسيحيّتهم؟ أهي مسيحية بالإسم فقط؟ وأين المحبة التي يُنادي بها المسيح ويُعلِّمونا إياها؟". أجل، إن لم تملأ المحبة قلبيْ الوالدين لتصفح وتغفر وتُضحّي، فلن يستطيعوا أن ينقلوا لأبناءهم المعنى الحقيقي للمحبة. لذلك في وقت الضيقة، لا بدّ أن تكون محبة الله هي التي فوق كلّ شيء حتى فوق محبة الذات أو البنين، إذ يعتقد البعض بأن الإنفصال أو الطلاق هو أفضل وسيلة لعدم تعريض الأطفال إلى مشاكل نفسية أو لإنهاء وضع غير ملائم لإستمرارية المعيشة من سوء فهم بين الطرفين أو لعدم إمكانية توفير حياة مادية أفضل، وبالتالي يكون الطرفين قد ربحا راحة البال وخسروا أنفسهم بعدم العمل بمشيئة الله وتعاليمه عن عدم الإنفصال والمغفرة واللجوء لله وبذل الذات والتنازل عن المتطلبات الشخصية والعمل فقط بما يريده لفائدة الآخرين.

 

إن رباط المحبة الّذي يجمع بين أفراد العائلة وخاصة الزوجين هو الوسيلة التي يستخدمها الله لبناء جنده، فأفراد العائلة هم جنود الله الّذين يحملون كلمته (السيف الّذي يُحاربون به ويُدافعون به عن أنفسهم وعن أولادهم) للتصدّي لأعمال الشيطان (أفسس 6: 10-20). وبما أن الكاهن هو صدى لكلمة الله، فلا بدّ من إستشارته حين وقوع أدنى خلاف بين الزوجين لحل المشاكل بأسرع وقت ممكن. كما أن الإلتزام بمحبة الله يولد في النفس التسابيح والصلوات والأعمال اللائقة بإسمه القدوس، أعمالاً تنبع عن محبة وليس أداء واجب عن خوف من الله.

 

لنُصلّ:

    ربي وإلهي، لعلّنا إنغمسنا في متاهات هذه الدنيا المادية فلم نُحبّك كما وجب ولم نعطي أية أهمية لتصرفاتنا التي قد تكون ليست فقط حجرة عثرة أمام أبنائنا بل قد بنت جبلاً كبيراً يمنعهم من الوصول إليك، لذا نتقدّم منك ونحن كلّنا ثقة بأنك تستطيع أن تُحرك هذا الجبل وتُحوّله إلى تراب مستوي يستطيع الأبناء من أن  يتخطّوه للوصول إليك. ربي وإلهي، إننا نثق بما قاله أشعياء النبي بأنه ينبغي لنا أن لا نخاف بل بكل ثقة نتقدّم منك لأننا أبناءك وتريد أن تعيننا لتُعيدنا إليك فأنت مخلّصنا وقدّوس إسرائيل (أشعياء 41: 8-20).

    ربي وإلهي، إحفظ قلوبنا متحدةً برباط محبتك وروحك القدوس لكي نستحق أن نكون جزءاً من قلبك الأقدس فنثمر ثماراً تسرّك على مثال عائلة بيت لحم؛ نسألك ذلك بإسم إبنك الحبيب يسوع المسيح. آمين.

                                     

بقلم نيران إسكندر