تحقيق: الكنيسة والإعـلام

 

* كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها (•)

كيف تنظر الكنيسة الى الاعلام، وما هي الاهمية التي توليها لوسائل الاعلام، واين تجد رسالة الاعلامي المسيحي؟

الاهتمام الكبير من الكنيسة بوسائل الاعلام بدأ منذ سنة 1766 بنص للبابا كليمونص الثالث عشر حول طباعة الكتب ودور الكنيسة في التوعية.

 

 وفي سنة 1849 صدر للبابا بيوس التاسع وثيقة Nostis et nobiscum وتتالت الوثائق حتى سنة 1882 مروراً بسنة 1918 حتى كان اصدار رسالة البابا بيوس الحادي عشر Vigilanti Cura سنة 1936 الى اساقفة نيويورك، وتبلور هذا الاهتمام في منتصف الستينات، وتحديداً في العام 1965، بصدور مرسوم حول وسائل الاعلام الاجتماعية من 24 بنداً، في نهاية المجمع الفاتيكاني الثاني، تقرر بموجب المادة 18 منه وجوب تخصيص يوم من كل سنة، في ابرشيات العالم كله، يتلقن فيه المؤمنون الارشادات الخاصة بواجباتهم في هذا المجال، ويدعون فيه للصلاة على هذه النية، وايضاً من اجل تقديم تبرعاتهم التي ينبغي ان تعود الى دعم ما تقوم به الكنيسة من اعمال في هذا الميدان وتنميته في ضوء حاجات الكنيسة باجمعها. وجاء في الارشاد الرعوي بشأن وسائل الاعلام 1971 المقطع 167: "لتحرص السلطات الكنسية… على بذل ما بوسعها لتشجيع ومساعدة جميع المعنيين بغية اعداد يوم عالمي خاص بالاعلام والاحتفال به سنوياً. ويجب التركيز في ذلك اليوم على ابراز دور الذين يعملون في هذا القطاع. ولتعرض هذه السلطات، فضلاً عن ذلك في اوقات محددة، على المجالس الاساقفية ما تقدر انها تحتاج اليه من اعتمادات للقيام بأعمال الرسالة في حقل الاعلام".

وألزم البيان المجمعي " السلطات  العامة بواجب الدفاع عن الحرية الاعلامية الصحيحة والحقيقية وحمايتها"، وامر باعداد كهنة ورهبان وعلمانيين لاكتساب مهارة حقيقية في استعمال هذه الوسائل لغايات رسولية، وبنشر المعاهد والمؤسسات لتنشئة الصحافيين وصانعي الافلام ومعدي البرامج الاذاعية والتلفزيونية تنشئة مناسبة مشبعة بالروح المسيحية، وبتأسيس مراكز وطنية كاثوليكية لوسائل الاعلام الاجتماعية. اخيراً اوصى المجمع جميع ابرشيات العالم بتكريس يوم سنوي عالمي لدعم وسائل الاعلام الاجتماعية.

على الصعيد التنظيمي، اعلن البابا بيوس الثاني عشر، قبيل المجمع الفاتيكان الثاني، انشاء لجنة بابوية خاصة بالسينما والراديو والتلفزيون، ثم ثبتها البابا يوحنا الثالث والعشرون عام 1959 كلجنة دائمة في الفاتيكان، وحوّلها البابا بولس السادس عام 1964 الى لجنة حبرية لوسائل الاعلام الاجتماعية، مضيفاً الى دائرة صلاحياتها الاعلام المكتوب، واخيراً رفعها البابا يوحنا بولس الثاني الى مصاف مجلس حبري لوسائل الاعلام الاجتماعية عام 1989.

ومنذ 2 ايار 1967 ومع البابا بولس السادس، درج البابوات على اصدار رسائل حبرية سنوية في مناسبة اليوم العالمي لوسائل الاعلام الاجتماعية، الذي يُنظّم عادة يوم الاحد السابق لعيد العنصرة من كل سنة في معظم انحاء العالم. والجدير بالذكر هو ان الكنيسة قد اعلنت القديسة كلارا، عذراء اسيزي، شفيعة لاهل الاعلام التلفزيوني، والقديس فرنسيس الساليزياني شفيعاً لاهل الصحافة، والملاك جبرائيل شفيعاً لاهل الاعلام الاذاعي. تضمنت هذه الرسائل السنوية نظرية الكنيسة الى وسائل الاعلام ودورها التربوية وتأثيرها على الناس، وكذلك نظرتها الى الاعلاميين وواجباتهم نحو المجتمعات، وقد حفلت هذه الرسائل بتعاليم قيمة على المستوى التربوي تشكل نظرة الكنيسة الى التربية الحديثة في مختلف ابعادها.

خلق التطوّر المذهل للاعلام ما يمكن تسميته بعولمة الثقافة والمعرفة، الامر الذي دفع الكنيسة الى وضع استراتيجية خاصة بالاعلام تستخدم وسائل الاعلام وتفعل فيها وتؤثر من اجل التبشير بالكلمة وخدمة الكنيسة.

1- الاهمية التي توليها الكنيسة لوسائل الاعلام

تولي الكنيسة الكاثوليكية اهتماماً كبيراً لوسائل الاعلام، فوصف البابا يوحنا الثالث والعشرون عالم الاعلام بأنه "عالم تفجير التقدم التكنولوجي". في رسالته العامة بعنوان "تقدّم الاكتشافات الرائعة" الصادرة عام 1957، قال البابا بيوس الثاني عشر انه ينبغي ان ننظر الى وسائل الاعلام على انها "هبات من الله" وهي "وسائل جبارة موضوعة في متناول البشر تتطلب من المعنيين بتداولها حساً عالياً بالمسؤولية"، كما عبر يوحنا بولس الثاني.

من جهته، وصف البابا بولس السادس وسائل الاعلام الحديثة "بأنها سيدة التفكير العام والمعلمة التي تتوجه الى الراشدين فيما يتوجه المعلم التقليدي الى التلاميذ فقط وفي فترة زمنية محددة، انها تؤدي للجنس البشري خدمات جليلة اذا استُخدمت على وجه سليم، ولها القدرة على التثقيف والترفيه في آن". وهو قول نقله عنه رولان كيرول (Roland Cayrol).

أما البابا بيوس الحادي عشر فجعل من الصحافيين ممثلين لأكبر قوة في العالم، على حدّ ما نقل عنه أوليفيرا دي بنتو (Oliveira De Pinto).

وفي رسالته الحبرية في اليوم العالمي التاسع والثلاثين لوسائل الاعلام بعنوان "وسائل الاعلام في خدمة التفاهم ما بين الشعوب" وصف البابا يوحنا بولس الثاني وسائل الاعلام "بالمجلس الأعلى" (الأريوباغُس) للأزمنة المعاصرة… ومن المعلوم ان بولس بشر في أماكن عديدة، ثم أدرك اثينا وتوجه الى "الأريوباغُس) حيث بشر بالانجيل، مستعملاً لغة ملائمة ومفهومة في ذلك الوسط. كان "الأريوباغُس" يمثل يومذاك مركزاً حضارياً للأثينيين المثقفين، ويمكنه اليوم أن يكون رمزاً لأوساط جديدة يجدر فيها اعلان الانجيل. واضاف قداسته ان "الأريوباغُس" الأول في الازمنة المعاصرة هو عالم وسائل الاعلام، الذي يعطي البشرية وحدتها، اذ يجعل منها، كما يقال، قرية كبيرة.

إن وسائل الأعلام، من وجهة نظر مسيحية، هي "ادوات رائعة موضوعة في متناول الناس"، و"تدبير الهي"، – كما جاء في رسالة يوحنا بولس الثاني في اليوم العالمي الخامس والعشرين لوسائل الاعلام لسنة 1991 – بهدف يرمي الى تحقيق المزيد من الروابط وتوثيقها وتوطيدها داخل العائلة البشرية جمعاء، علماً ان هذه الوسائل كلما تطورت كلما أنشأت بين الناس لغة جديدة للتخاطب تمكنهم من التعارف والتفاهم بطريقة اسهل، وكلما حملتهم بالتالي الى التعاون، بمزيد من طيبة الخاطر، في سبيل الخير العام.

تنظر الكنيسة على هذا الاساس، الى وسائل الاعلام على انها "هبات من الله" وانها ادوات بوسعها ان تكون فاعلة إذا ما استخدمت استخداماً حسناً معلنة بروح الحق والحرية والعدالة والسلام والخلاص والفداء بين ابناء الأسرة الانسانية.

ادركت الكنيسة اهمية الثورة التي قام بها الاعلام في العصر الحاضر، وحاولت في تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني ان تستوعبها وتسير بها وتفعل فيها. نلحظ في وثائق المجتمع الفاتيكاني الثاني، وجود ثماني وثائق من اصل ست عشرة وثيقة تناولت في موضوعها وسائل الاعلام الاجتماعية بطريقة صريحة وواضحة. من أبرز هذه الوثائق: القرار المجمعي في وسائل الاعلام الاجتماعية intermirifica، الارشاد الرعوي الذي جاء تطبيقاً له في العام 1971، واجب اعلان البشارة في العام 1975، واجب تلقين التعليم المسيحي في العام 1979، بالاضافة الى الرسالة الحبرية السنوية التي درج الكرسي الرسولي على اصدارها منذ العام 1967 بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الاعلام.

شددت تعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني على واجب الاهتمام بوسائل الاعلام والاتصال ودور المسيحيين على صعيد الكنيسة والدولة والمدرسة والعائلة في المشاركة الفاعلة بتطوير هذه الوسائل وحسن استعمالها وتوجيه الرأي العام بما يخدم قيم التضامن والسلام، ويصون حقوق الاعلام والاستعلام ويحمي حياة الاعلاميين ويوفر لهم المناخ اللازم من حرية التعبير والضمير، الشرط الاساسي للكرامة الانسانية.

كما اكدت الكنيسة مراراً على أهمية وسائل الاعلام في نقل القيم الانسانية والدينية وتعزيزها، وعلى المسؤوليات الخاصة التي تقع على كاهل جميع العاملين في هذا القطاع الدقيق والحساس، لا سيما وان التقدم والتطورات التي طرأت، في العقود الأخيرة، طبعت مجال وسائل الاعلام وامدتها بقدرة خطيرة على التأثير. وتعي الكنيسة هذه الامور وتدرك ايضاً انه من شأن وسائل الاعلام، اذا ما استخدمت بطريقة حكيمة، ان تقدم خدمات كبيرة للانسانية. ذكّر المجمع الفاتيكاني الثاني "بأن حسن استخدام الوسائل الاعلامية يقضي على جميع الذين يستخدمونها بأن يكونوا على معرفة بمبادئ الأخلاق، وأن يعملوا بها بأمانة في هذا المجال".

 

2-  اليوم العالمي السنوي لوسائل الاعلام

أوصت المادة الثامنة عشرة من المرسوم الفاتيكاني المتعلق بوسائل الاعلام الاجتماعية "بوجوب تخصيص يوم من كل سنة تحتفل فيه الكنيسة بوسائل الاعلام، في ابرشيات العالم كله، يتلقن فيه المؤمنون الارشادات الخاصة بواجباتهم في هذا المجال، ويدعون فيه للصلاة على هذه النية، ولتقديم تبرعاتهم التي ينبغي ان يعود ريعها الى دعم ما تقوم به الكنيسة من اعمال في هذا الميدان وتنميته في ضوء حاجات الكنيسة بأجمعها".

جاء في الارشاد الرعوي بشأن وسائل الاعلام "لتحرص السلطات الكنسية… على بذل ما بوسعها لتشجيع ومساعدة جميع المعنيين بغية اعداد يوم عالمي خاص بالاعلام والاحتفال به سنوياً. ويجب التركيز في ذلك اليوم على ابراز دور الذين يعملون في هذا القطاع. ولتعرض هذه السلطات، فضلاً عن ذلك في اوقات محددة، على المجالس الاسقفية ما تقدر انها تحتاج اليه من اعتمادات للقيام بأعمال الرسالة في حقل الاعلام".

وقد دأبت الكنيسة، منذ ايار 1967، على توجيه رسالة الى ابنائها، في اليوم العالمي لوسائل الاعلام، وذلك من اجل ان يصلوا على نية هذه الوسائل والعاملين فيها، وهي في الوقت نفسه تتوجه الى جميع العاملين والعاملات في الحقل الاعلامي لكي يعمقوا ادراكهم بأهمية رسالتهم في العالم المعاصر، وبمدى تأثير عملهم في حياة الناس، رجالاً ونساء. وفي كل سنة، تختار الكنيسة  موضوعاً من مواضيع الاعلام، مركّزة عليه الانتباه لكي يُصار الى التأمل به والتعمق بمعانيه وأبعاده.

 

3-  لجنة الكرسي الرسولي

يستند الحبر الأعظم الى لجنة خاصة بالكرسي الرسولي ليقوم بمهمته الرعوية العليا في قطاع وسائل الاعلام الاجتماعية. واذ يجعل آباء المجمع من امنية "أمانة سر النشر والمشاهد" امنيتهم بالذات، يسألون الحبر الأعظم باحترام كي تمتد سلطة هذه اللجنة وصلاحيتها على كل وسائل الاعلام الاجتماعي بما فيه الصحافة وان يلحق بها خبراء من بينهم علمانيون من بلدان مختلفة.

إن "للكنيسة دواعي شخصية تدفعها الى الاهتمام بوسائل الاعلام الاجتماعية، فهي ترى، في ضوء الايمان، أن تاريخ الاتصال البشري يبدو وكأنه طريق سفر طويل يمتد من بابل، موضع سقوط الاتصال ورمزه (سفر التكوين 4:11 – 8)، الى العنصرة وموهبة اللغات (اعمال الرسل 5:2 – 11)، اي الاتصال الذي اصلح بالروح القدس الذي ارسله الابن، وكانت رسالة الكنيسة اعلان البشارة الجديدة الى العالم حتى انقضاء الأزمنة (متى 19:28 – 20، مرقس 15:16) 22. وهي اليوم تعتبر أن ذلك يقتضي استعمال وسائل الاعلام.

 

4-  الأخلاقيات والمبادئ التي تحدّدها الكنيسة للاعلاميين ووسائل الاعلام

تطالب الكنيسة العاملين في حقل وسائل الأعلام أن يكسبوا ثقة الناس، وقد ورد على لسان البابا يوحنا بولس الثاني: "اعرف ان الجماهير، بالنسبة اليكم انتم صنّاع وسائل الأعلام، ليست جماعات نكرة. انها تشكّل التحدي المستمر للحاق والاتصال بكل واحد في اطار حياته الخاصة، على مستوى فهمه وشعوره الشخصي، بتكنولوجيات مستمرة التطور، واستراتيجيات للاتصال متزايدة الفاعلية. تُرى اي صدى يكون في ضمائركم للدعوة لأن تبلغوا الى الغير استراتيجية الاعلام، في خدمة العدالة والسلام".

ترى الكنيسة انه على العاملين في حقل وسائل الأعلام ان يكسبوا ثقة الجماهير التي هي تحد مستمر للاتصال بكل واحد منهم في اطار حياته الخاصة. وتعتبر الكنيسة ان استراتيجية الاعلام هي بمعظمها استراتيجية اعطاء معلومات للمساهمة في مجتمع العلم.

حددت الكنيسة سبع مهام اساسية في الاعلام المبرمج والمنظم لتوليد الثقة: التوعية، التنديد، الامتناع، التجاوز، الاسهام، النشر والتأكيد. ترمي التوعية الى افهام الجماهير انه مع الحرب يضيع كل شيء، لكن لا شيء يضيع مع السلام.

توجب العدالة والسلام بالتنديد بمسببات العنف على مختلف انواعها من التعامل بالاسلحة والتسلط والاستغلال… وهو أمر يدفع الى الامتناع عن كل ما يتسبب في العنف والظلم. وهو ما عبّر عنه البابا يوحنا الثالث والعشرون "بنزع السلاح من الأرواح" ما يعني الحد من البرامج التي تعرض ارادة السيطرة.

وتفترض استراتيجية الثقة تجاوز كل العقبات التي تعرقل السلام وتخطي الحواجز العرقية والطبقية والثقافية التي تقف في سبيل السلام. كما ان الاعلام هو السبيل للتحسس بحقيقة الاعلام والتثبت منها ومراقبتها وهو ما يسهم بجعل السلام ممكناً في العدل.

وتقع على العاملين في حقل الاعلام مسؤولية نشر كل ما يساعد على فهم وإحياء السلام والعدالة، في كل مناسبة ومكان، سواء في اللقاءات الفردية او في المؤتمرات الدولية. كل ذلك ضمن اطار الفكر المسيحي في السلام والعدالة المرفق بروح الالتزام والصلاة لتأمين العدالة في الحياة. ومن جهة أخرى، دعت الكنيسة الى وجوب الانتفاع بجميع وسائل الأعلام التي يتسم بها عصرنا، وإلا فان الكنيسة تكون مقصرة أمام الرب ما لم تعمد الى الانتفاع بهذه الوسائل الجبارة التي تزداد تطوراً يوماً بعد يوم بفضل العبقرية الانسانية .

في خطبة للبابا بيوس الثاني عشر حول الرأي العام يحمّل قداسته الصحافة مسؤولية تهربها من مهمة تنوير الرأي العام وتوجيهه، البعض عن نية سيئة، والبعض عن عدم ادراك، والآخرون عن عجز او عن خوف. وكأن الرسول بولس يتوجه اليوم برسالة واضحة للعاملين في حقل الاتصالات الاجتماعية – سياسيين وخبراء اتصال ومشاهدين: "ولذلك كفّوا عن الكذب وليصدق كل منكم قريبه فاننا اعضاء بعضنا لبعض… لا تخرجن من افواهكم اية كلمة سوء بل كل كلمة صالحة تفيد البنيان عند الحاجة وتكون سبيل نعمة للسامعين".

 

 

*  كرامة الشخص البشري أول (••)

5- رسالة الإعلام المسيحي

حين وجّه يسوع تلاميذه وأرسلهم الى العالم، سلّمهم الرسالة قائلاً: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعلّموهم أن يحفظوا كل ما أوصيتكم به". إنها رسالة تبشيرية تحمل أعمق معاني الاعلام وأكثرها دقة، فللإعلام دور اساسي في تبليغ الكلمة. يمكن القول إذاً إن المسيحية استخدمت الإعلام منذ أقدم العصور واتخذته وسيلة ممتازة للتبشير بالكلمة.

أدركت الكنيسة، مع القرن العشرين، أهمية الاعلام وضرورة التعامل معه وفيه لإيصال رسالتها السامية في تقديم المسيح للأمم إلهاً مخلصاً؛ فاتخذت الكنيسة الاعلام وسيلة رئيسة فشكلت دوائر اعلامية وفوّضتها صلاحيات واسعة في سبيل بناء المجتمعات في العالم كله. في الارشاد الرعوي بشأن وسائل الاعلام، 1971، الفقرة 34 أشارت الكنيسة الى أن الانسان "يحتاج في عصرنا الى إعلام نزيه، منطقي، وافٍ ودقيق…" لذلك دعت الكنيسة الاعلاميين الى التحلي بالفضائل الآتية:

أ- المحبة: المحبة رأس الحكمة وأعظم الفضائل على الاطلاق، فهي القيمة الأكثر التصاقاً بالانسان وبحياته كعضو في الجماعة. وتقضي روح المحبة أن يتجاوز الاعلامي أنانيته عندما ينظر الى القضايا العامة المطروحة.

ب- الرسالة والتبشير: تدعو الكنيسة رجال الإكليروس الى التعامل مع الاعلام والكتابة في الصحافة والتحدث في الاذاعة والظهور على الشاشة بوصفهم ممثلين عن الكنيسة. وفي مكان آخر من الارشاد عينه ترجو الكنيسة "رجاء حاراً من المجالس الأسقفية أن تولي أكثر من ذي قبل مواضيع العمل الرسولي في نطاق الاعلام مكاناً خاصاً بغية تنظيم رعوي شامل وأن تخصّص لهذه الغاية الاعتمادات اللازمة على الصعيدين المحلي والعالمي". وتريد الكنيسة من الاعلامي أن يبشّر بالمسيح وعمل الله الخلاصي، وأن ينادي على السطوح بالبشارة، وأن يشهد للحق.

وقد دعا البابا يوحنا بولس الثاني وسائل الاعلام للتعامل بايجابية مع المعتقدات الدينية: "… ولنلاحظ، ايضاً، أن معدّل البرامج الاعلامية المخصصة للتطلعات الدينية والروحية، والبرامج ذات المضمون الرامي الى البناء الاخلاقي ورفع مستوى الحياة، يميل الى الانخفاض، على ما يبدو، ليس من اليسير على المرء أن يبقى متفائلاً بايجابية تأثير هذه الوسائل الاعلامية التي تعطي الانطباع بأنها تتجاهل ما للدين من دور حيوي في الحياة البشرية أو بأنها تتعامل مع المعتقدات الدينية بطريقة مطبوعة بالسلبية والنفور".

ج- الحقيقة: تريد الكنيسة من الاعلامي أن يضع لنفسه هدفاً رسولياً في الحياة، فلا يقتصر دوره على العمل الروتيني، وتطالبه بأن يتميّز بالصدق والدقة والحيادية والموضوعية وعدم التحيّز، فيكون أميناً للخبر ويعمل على توخي الحقيقة. جاء في الارشاد الرعوي الفقرة 123 أنه "على جميع الذين يضطلعون بالمسؤولية في الكنيسة أن يواظبوا على إعلان الحقيقة بواسطة وسائل الاعلان وأن يبذلوا ما بوسعهم لكي ترسم عن الكنيسة وحياتهم صورة طبيعية جميلة وعليهم ألا يتركوا هذه المهمة لجهات أخرى، منعاً لتشويه صورة الكنيسة".

في رسالته الحبرية السابعة والثلاثين، قال يوحنا بولس الثاني: "في الواقع، إن وسائل الاعلام غالباً ما تقدّم للحقيقة خدمة مشفوعة بالشجاعة. غير أنها تعمل أحياناً كأدوات دعائية وإعلامية مضلّلة خدمة لمصالح فئوية وأحكام مسبقة قومية كانت أم عرقية، عنصرية أم دينية، أو خدمة لأطماع مادية وأنظمة فكرية خادعة. لذلك، لا بد من التصدي للضغوط التي يمارسها البعض على وسائل الاعلام ويدفعون بها الى الانحراف. كما لا بد من أن ينهض، في طليعة هذا التصدي، الاعلاميون والاعلاميات أنفسهم، وكذلك الكنيسة والفئات الاخرى المعنية". وورد في "سلام الارض" (الفقرة 167):

د- الكفاية والابداع: في رسالته الحبرية الرابعة والثلاثين، دعا يوحنا بولس الثاني "الاعلاميين الكاثوليك أن يتحلوا بالكفاءة وروح الابداع، تطويراً لوسائل اعلامية جديدة وطرائق جديدة للبشارة. لكن على الكنيسة أن تعمد ايضاً، "بقدر الامكان، الى الافادة من المناسبات التي تعرضها وسائل الاعلام الدنيوية".

 

6-  الرأي العام في الكنيسة

تناولت الكنيسة الكاثوليكية موضوع الرأي العام في معرض تعليمها عن وسائل الاعلام، وخصوصاً في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني وفي ما أصدر الكرسي الرسولي من وثائق في مناسبة الايام العالمية لوسائل الاعلام، تناولته في مفهومه وصناعته والعناصر التي تكونه، ثم أعطت مبادئ لحسن صناعته. وقد رأت أن الرأي العام هو تراث المجتمعات الصالحة والسليمة، لأنه يخلق جواً من الحرية، وله، في المجتمعات الديموقراطية، فعل حاسم في الحكومات. فاذا غاب أو ألغي، كان ذلك دليلاً لاعتلال في هذه المجتمعات. انه الصدى الطبيعي والترجيع العفوي لوقع الاحداث والاحوال الراهنة، وفي أفكار الناس وآرائهم. تتم صناعة الرأي العام على يد اصحاب وسائل الاعلام والوكالات الصحافية والمخبرين والاعلاميين، انها غاية رجل الاعلام ورسالته. ولذلك، يجب أن يتحلى رجال الاعلام بميزات الاصالة والصدق وعدم التحيّز، وأن يراعوا القواعد الاخلاقية، وحقوق الانسان الاساسية، والقيم النابعة من الانجيل وتعليم الكنيسة، والحقيقة، وأن يتقيدوا بأصول المهنة متغلبين على أخطار الفساد والرشوة. انهم في خدمة الرأي العام، ولا يحق لهم أن يتلاعبوا به، باختلاق الاخبار، واعتماد الاعلام المضلل، او الاقتصار على عرض الناحية المثيرة والغوغائية. فعندما تلج الحقيقة عمق الضمائر وتصل الى قلب كل انسان، تولد الاقتناع والالتزام الشخصي.

هناك ثلاثة مبادئ تدعو الكنيسة الى اعتمادها، من أجل حسن صناعة الرأي العام، وهي:

الصدقية المبنية على الحقيقة. فلا يجوز فصل الحقيقة عن الحرية، إذ بدون الحقيقة، كأساس ونقطة انطلاق ومعيار للتمييز والحكم والاختيار والعمل، لا يمكن أن تُمارس الحرية حقاً. الصدقية تقتضي أن يكون المحتوى الاعلامي صحيحاً وكاملاً في حدود العدالة والمحبة، وضرورة نبذ التلاعب بالحقيقة لأي سبب كان.

كرامة الشخص البشري توجب على وسائل الاعلام أن تحترم الشخص البشري وحقه في خياراته المسؤولة وحريته الداخلية، لكي يتمكن من تكوين رأي سليم. فلا يحق لها، بمحتوياتها (الموضوع والاساليب) وبوقعها على الجمهور، اثارة الجشع والغرور والغيرة والشهوة. ولا يجوز لها أن تكون مطية لرؤية مشوهة عن الوجود والاسرة والقيم الدينية والخلقية.

المسؤولية الاجتماعية لجهة البيئة. ثمة خطأ منتشر هو الظن ان الانسان يستطيع التصرف بالأرض على هواه، فيسخرها لارادته بدون حساب، وكأن الله لم يحدد لها صورة وهدفا، يجب على الانسان تطويرهما لا التنكر لهما. في هذا الاطار تلعب وسائل الاعلام دوراً حاسماً.

هذه المبادئ تتوافق مع موقف الكنيسة من وسائل الاعلام بكونها تعتبرها "نقطة مركزية في وسط الساحة المعاصرة الكبرى حيث تتبادل الآراء والافكار، وحيث تتكون القيم والتصرفات. ولذلك تلتزم بأن "تكون حاضرة في وسائل الاعلام – سواء كانت ملكاً لها، ام خاصة ام تابعة للدولة – خدمة" منها لشعب الله والبشرية كلها… وتشعر الكنيسة بعقدة الذنب امام الله، اذا هي تخلت عن استعمال هذه الوسائل… التي تجد فيها ترجمة عصرية لمنبر الحقيقة، من خلاله تستطيع ان تخاطب جماهير الناس". ذكر البابا يوحنا بولس الثاني حول هذا الموضوع "ان التأمل بدور الرأي العام في الكنيسة وبدور الكنيسة في الرأي العام يثير اهتماماً كبيراً. يوم التقى البابا بيوس الثاني عشر ناشري الصحف الكاثوليكية، اعلن ان شيئاً ما كان قد نقص من حياة الكنيسة لو لم يكن هناك رأي عام. وعلى هذه الفكرة بالذات شدّد البابوات في مناسبات اخرى. ومجموعة القوانين الكنسية تقر للرأي العام بحق التعبير وذلك بشروط محددة. وان كان صحيحاً ان حقائق الايمان ليست متاحة لتفسيرات اعتباطية وان احترام حقوق الآخرين يفرض حدوداً جوهرية على التعبير في التقويم بالذات، فليس أقل صحة انه في مجالات اخرى يوجد بين الكاثوليك مساحات واسعة لتبادل الرأي في حوار يحترم العدالة والفطنة…".

و"الاتصالات داخل الجماعة الكنسية وبين الكنيسة والعالم تتطلب شفافية وطرقا جديدة لبحث مسائل تتعلق بعالم الاتصالات، ويجب ان توجه هذه الاتصالات نحو حوار بناء لكي يخلق في الجماعة المسيحية راياً عاماً معداً اعداداً صحيحاً وقادرا على التمييز. فالكنيسة بحاجة الى التعريف بنشاطاتها الخاصة، ولها الحق بذلك كما لسائر المؤسسات والتجمعات. انما في الوقت عينه، واذا اقتضى الامر، لها الحق بأن تحافظ على شيء من الكتمان الضروري من دون ان يمنع هذا الكتمان اتصالا دقيقاً وكافياً للأمور الكنسية". "انه موضوع يتطلب غالباً مساهمة العلمانيين المؤمنين مع رعاتهم. اذاً، كما يشدد المجمع الفاتيكاني الثاني عن حق "انه ليُنتظر للكنيسة من هذا التعامل الودي بين العلمانيين والرعاة كل انواع الخير. وبهذا يتقوى العلمانيون في تحسس مسؤولياتهم الذاتية وتتغذى غيرتهم وتتضافر بأكثر سهولة جهود الرعاة والعلمانيين على العمل. وهكذا بمساعدة العلمانيين وخبرتهم يتوصل الرعاة الى ان يحكموا بتمييز اقوى وبصواب اشد في الامور الروحية والدنيوية على السواء، فتتوصل الكنيسة جمعاء، مدعوة بكل اعضائها، الى ان تتم بأكثر فاعلية رسالتها لأجل حياة العالم".

وفي موضوع الرأي العام وضرورة المشاركة في تكوينه بهدف التغيير، اشارت تعاليم الكنيسة الى اهمية المشاركة في تكوين الرأي العام. وقد حدده البابا بيوس الثاني عشر بأنه: "صدى الاحداث والاحوال المتردد بطريقة عامة وشبه عفوية في خواطر الناس وآرائهم". من خصائصه "حرية التعبير وحق الجميع بالافصاح عن آرائهم في حدود النزاهة والمصلحة العامة". من هنا ان الرأي العام سلطة تدعو الكنيسة الى المشاركة في تكوينه، سواء بنفوسهم او بواسطة من ينتدبونهم للتعبير عن افكارهم. وليس كل ما يتداول بين العامة رأيا عاما. كما انه لا ينبغي المزج بين الرأي العام والدعاية بأشكالها المتعددة، فالرأي العام يتوخى المصلحة العامة، والدعاية تتوخى المصلحة الخاصة". لهذا يجب على السلطات، ولاسيما الدينية والمدنية منها، ان تقيم وزناً لما يشاع بين الناس من آراء تكشف عن فكرة الشعب وارادته، وتقديره حق قدره".

اما في موضوع واجب المسؤولين الروحيين في توجيه الرأي العام فقد رأت الكنيسة أنه "نظرا لتزايد اهمية وسائل الاعلام الاجتماعية في حياة البشر عامة والكنيسة خاصة يرجى رجاء حارا من المجالس الاسقفية ان تولي اكثر من ذي قبل مواضيع العمل الرسولي في نطاق الاعلام مكانا خاصا، بغية تنظيم رعوي شامل، وان تخصص لهذه الغاية الاعتمادات اللازمة على الصعيدين المحلي والعالمي". وقد شددت الكنيسة على انه "لا يستطيع احد ان يحسب نفسه وفياً لوصية المسيح، اذا اهمل الاستعانة بهذه الوسائل والافادة منها لايصال العقائد والتعاليم الانجيلية الى اكبر عدد ممكن من الناس". وهذا تأكيد على الدور المحوري التي توليه الكنيسة لوسائل الاعلام ولدورها في بناء الرأي العام.

 

7- العلاقة بين تعاليم الكنيسة ومبادئ المهنة الاعلامية:

 تنافس ام تكامل؟

نظراً لأهمية وسائل الاعلام وتأثيرها في توجيه الفكر والسلوك لدى الافراد والجماعات، وانطلاقا من رسالة الكنيسة وتعاليم المجمع الفاتيكاني الثاني، تشدد الكنيسة في  لبنان على ضرورة وضع خطة اعلامية لتفعيل وتطوير وسائل الاعلام والاتصال الاجتماعية، يشارك في بلورتها اختصاصيون في هذا المجال بهدف ترسيخ القيم وتعزيز روح الحوار داخل الكنيسة والمجتمعات. تؤكد الكنيسة في لبنان على وجوب تشجيع وتطوير اللقاءات مع القيمين على وسائل الاعلام والاعلاميين من جميع الطوائف والتيارات من اجل التعاون والتنسيق وانتاج البرامج المشتركة ذات المضمون الذي يعود بالخير على سائر ابناء المجتمع اللبناني.

 

الأب طوني خضره    

(  (•رئيس الاتحاد الكاثوليكي العالمي للصحافة.

(••)  من لقاء الاعلاميين في 6 أيلول 2008، دير مار الياس – انطلياس.

 

جريدة النهار 31/5/2009