الخوف والقلق علامة الحياة

إعداد ناجى كامل

خادم بكاتدرائية العذراء سيدة مصر – مدينة نصر

ومراسل الموقع من القاهرة

خاص بالموقع

-مقدمة :

منذ أن يولد الإنسان يصرخ مُعبِّراً عن حالة القلق التي يختبرها للمرّة الأولى . كأنه كان في سلام وانسلخ عنه . ولكنه سرعان ما يعود إليه، ولو نسبياً، فيشعر مجدَّداً بالأمان حيث يُحاط بالعناية والحنان . وتتوالى صرخات القلق عنده في مختلف مراحل حياته، كأنها ضريبة نموِّه وبناء شخصيته . فحين يُفطم يقلق . وحين يمشي يقلق . وحين يخرج من رحم بيته إلى المجتمع، حيث المدرسة والوجوه الجديدة، يقلق، وإن كان ذلك سيبدو له فيما بعد محبباً لأن الإنسان السوي يفضل عموماً الاستقلالية . ولعلَّ مرحلة المراهقة تعبِّر جلياً عن هذا الواقع القلِق للحياة . فالمراهق هو الإنسان الذي يبدأ رويداً رويداً تحمُّل مسؤولية الحياة . فهو صادق في أغلب الأحيان حين يعبِّر عن مشاعره، الإيجابية منها والسلبية . وما أعنف صرخات القلق عند بعض المراهقين! كم يدفعون غالياً ثمن نضجوهم . وهكذا، يدخل الإنسان شيئاً فشيئاً في واقع الحياة الصلب، أو في حتميات الكون والتاريخ . فتظهر الحياة، قاسية عنيفة، تسبب له الشعور بالقلق والاضطراب . ورغم كل ما تحقق من تطور، على صعيدي العلوم التكنولوجية والإنسانية، لابد لأي إنسان واقعي أن يكتشف أنه أمام صراع حقيقي مع الحياة . فمرّةً يجد نفسه وحيداً لا يشعر به أحد . وأخرى يتعثر باضطرابات نفسية لا يعرف سببها، حيث المكبوت فيه، في لا وعيه الإنساني، يسيِّرُ تصرفاته، فيشعر بانعدام حرية أحب أن يتمجد بها . وكم هو قاسٍ ومؤلم عليه حين يصطدم بمحدوديته: إنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد، ولا يحقق ما يرغب، ولا يكون ما يشاء . يطمح إلى المطلق، ويجد نفسه أسير جسد وعقل لا حول ولا قوة لهما، مقيدين بحدود الزمن والمكان . يرفض أن يكون إلا مميزاً، ولا يحب، بذات الوقت، أن يظهر شاذاً عن غيره . يرغب في إعلان أمجاد ماضيه ويقلق ألا تنكشف كبواته . ويقلق أيضاً لمستقبله، كالاختيارات الكبرى، العمل والزواج والثقة بالآخرين . أو الالتزام بخطوة جديدة تساهم في تغيير أو تعديل مسرى حياته . كما يقلق حين يسعى للوصول إلى هدف يحلم بتحقيقه أو إلى إنجاز يطمح بتنفيذه أو انتساب إلى جماعة يرى مكانه المناسب فيها . وقد يكون سبب القلق هو الآخرين حين يصدرون أحكامهم أو عدم تفهمهم . إن محدودية الآخر تقلقنا . وقلقه أيضاً يقلقنا .

الكتاب المقدَّس

* (على سبيل المثال وليس الحصر)

إن الكتاب المقدَّس هو خبرة الإنسان في علاقته مع الله، التي على ضوئها يحاول الكتَّاب الملهَمون أن يقدِّموا المعاني الإيمانية لمختلف مواقف الحياة، لتكون لنا بمثابة نماذج حقيقة تساهم في نضوجنا وتثبيت وتنمية إيماننا . وللقلق في الكتاب المقدّس معانٍ واختبارات حياتية عميقة، نقرأها وكأننا نقرأ واقعنا . فهو الكرب والضيق ( لو22/44 ) . الكآبة والطريق المسدود ( هوشع13/8-22، حكمة11/25، لو21،25 ) . هو تعبير عن الانسحاق والظلم ( 2كور4/8، 6/4و12 ) . علامة الخوف والشدة ( لو8/37 ) . معاناة المرض ( مت4/24، لو4/38 ) .

لا يخشى الكتاب المقدَّس أن يطرح تذمر مواطنيه حول جميع مظاهر القلق المُتعبة، ليُحيطها بكمٍ من التساؤلات والاستفسارات عن السبب وعن كيفية معايشة واقعٍ كهذا ، وخصوصاً عن دور الله في هذه المعاناة . ولكن، هل من جواب؟ ..

رغم أن كتاب المزامير، وهو صلاة الكتاب المقدَّس، يعطي المكانة الأولى على صفحاته لتمجيد وحمد الله والثقة به وبعنايته التي تسهر على المؤمنين وتدافع عنهم ( 23،27،33،37،92، .. ) ، لا يتأخر أيضاً في إعلان صرخات الاستغاثة ونداءات النجدة تعبيراً عن القلق الذي يُعانيه المصلّي . ونستنتج من ذلك أن هذه الصرخات والاستغاثات تقوّي الإيمان وتُثبت الثقة بالله وبمواعيده بأن يمنح سلاماً حقيقياً . وهي أيضاً تدعو لمراجعة الحياة وتقييم الأمانة لله ( 22، 107، 143، .. ) .

في الإنجيل:

نجد في الأناجيل حالات كثيرة من الشعور بالقلق، يحمل بعضها معانٍ جديدة، والبعض الآخر يعمِّق الاختبارات السابقة .

ها هي عذراء الناصرة تقلق من تدخل الله المفاجئ في تاريخها، ليغير مسار حياتها . فتكون مباركة بين النساء، ممتلئة من النعمة . تقلق من هذه البشارة فتسأل: "ما عسى أن يكون هذا .. ؟"

( لو1/26-38 ) ، وتستفهم عن أمر المولود القدوس، فتهدأ بسلام حين تدرك أنه ليس أمر غير مستطاع لدى الله . ويتواتر القلق في حياتها، وهي تهتم لكي ينمى ويترعرع في حياتها وحياة الإنسانية حضور الله القدوس في شخص يسوع المسيح، إلى أن يبلغ أوجه حين يجوز سيف في قلبها ساعة موته على الصليب .

ويعيش يوسف البار خبرة مشابهة من الاضطراب . فيصوره التقليد الايقونغرافي في حالة مستديمة من القلق . فإن كان السلام قد تغلغل إلى العذراء إذ تحرَّكت أحشاؤها بالمولود من الله، يعيش يوسف في حالة قلق مغبوط طيلة حياته عن سر هذا المولود متكلاً فقط على كلمة الله . ونشاهد على الصفحات ذاتها قلقاً مختلفاً تجاه الأحداث ذاتها . الرسل الذين ٍ تبعوا المسيح: "ماذا يكون لنا؟" يقولون ( مت19/27 ) . والرب بدوره يعدهم بفرح في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى .

المرضى وأقربائهم يقلقون . فالمرأة الكنعانية : تتخلى عن كرامتها بسبب قلقها على ابنها لتشحذ له الشفاء ( مت15/21-28 ) ، وقائد المائة:  يسعى جاهداً ليزيل قلقه على ابنه المريض ( يو4/46 ) ، ويشتد قلق يائيروس : خوفاً من موت ابنته ( مر5/21-42 ) ، وأعمى أريحا يصرخ طالباً الرحمة ( مر10/46-52 ) ، ومخلّع بيت ذاتا لا يعرف ماذا يريد ( يو5/1-14 ) ، ويقلق التلاميذ لأنهم لم يتمكنوا من شفاء الممسوس ( مر10/46-56 ) ، ولو كان يسوع حين مات لعازر لما مات تقول للرب أخت الميت القلقة ( يو11/1-45 ) . إن معظم معجزات يسوع هي علامات تؤكد حب الله لإنسان وسعيه لتخفيف آلامه وقلقه سعياً نحو سلامه الكامل والنهائي .

نرى في الإنجيل أيضاً نماذج حية حول قلق المستقبل .

الشاب الغني يسعى إلى السلام في مستقبله، وكأنه يريد أن يقول حين جاء إلى يسوع: ماذا أعمل لأكون في مأمن من القلق في مستقبلي، والمستقبل عنده هو أيضاً الحياة الأبدية ( مر10/17-27 ) . ويأخذ ابني زبدى الموقف ذاته، كذلك بقية التلاميذ ومعاصري يسوع، حين يرغبوا في المجد ( مت20/21-0). والمجد عندهم هو الخلاص من القلق . ويُصدموا جميعاً، كتلميذي عماوس ( لو24/13-00 )، من عدم تحقيق "المسيح" المنتظر لرغباتهم . لكي يُبقي لهم السلام، ولكن من نوعٍ آخر ( أنظر: يو14/28 ).

 قلق الخاطئين نموذجٌ آخر من الشعور بالقلق يقدمه لنا الإنجيل . فها هي المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة تبكي على قدمي يسوع وقد فاض القلق من عينيها توبة وندامة ( لو7/36- .. ) . وتلك الأخرى التي أُمسكت بالجرم المشهود تنتظر حكم المعلم الذي يحررها من قلقها وحسب بل من خطاياها أيضاً: "اذهبي ولا تعودي للخطيئة" ( يو 8/1-11 ) . وما أشد قلق الابن الضال حين اشتد عليه العوز وقست عليه نتائج الخطيئة ( لو 15/11-00 ) . ويقلق أخوه أيضاً بفعل عدم شعوره بالبنوَّه . وكأن الإنجيل يريد أن يكشف عن أن الشريعة مهما كانت مريحة لابد وأن تُقلق، البنوَّة وحدها مدخل إلى السلام الحق .

الأحبار ورؤساء اليهود يقلقون، كهيرودس، خائفين على سلطانهم من الملكوت الجديد فيشكون يسوع على أنه مقلق للشعب ( لو 23/6 ) .

وأخيراً لا نستطيع فهم القلق في الكتاب المقدَّس ما نتعرَّف على قلق يسوع . فهو ككل البشر يجوع ويعطش، وتدمع عيناه أمام موت صديقه العازر ( يو 11/1-الخ ) ، ويتحنن على أرملة نائين

( لو7/11-17 ) . ويتحسر قلقاً على استبداد الخطيئة والشر بالبشر( مت24/37، لو23/27-31 ) . ويقلق مصلياً من أجل ثبات تلاميذه في فترة المحنة ( يو17/1-00 ) ويأسف على مصير يهوذا (مر14/49).

إنَّ أشد قلق يعانيه يسوع هو في بستان الزيتون حين أخذ يعرق دماً ( لو22/39-00): "إن نفسي حزينة حتى الموت!… يا أبت، إن شئت فأصرف عني هذه الكأس ولكن مشيئتك لا مشيئتي" . ربما قلق يسوع من الموت خبرة قوية جعلته يعي أكثر فأكثر معنى بنوته لله في عمق واقعه الإنساني . لعل ذلك يكون نهجاً لكل من أراد أن يتبعه ( مر8/34 ) .

نستخلص إذا ما تتبعنا الأناجيل الأربعة في روايتها لآلام الرب وموته، إن يسوع، على غرار كل إنسان،  " اكتشف محدوديته كإنسان" : إنه يتألم ويموت . لقد أراد يسوع أن يشاركنا مغامرتنا البشرية: خوف وقلق وحزن وعزلة، ليمنحها المعنى الجديد بقيامته المجيدة . فيرفق كل قلق في الإنسان برجاء انتصاره على كل قلق .

الرجاء فى المسيح : إن قيامة المسيح هي حدث منفتح على واقع الإنسان ( كلّ إنسان وكلّ الإنسان ) ، فهي لا تمنح قراءة جديدة للماضي والحاضر وحسب ، بل للمستقبل أيضاً، فموضوع رجاءنا هو استمرار الحياة بالله حيث الحق والعدالة وفيض الحب . يقول يسوع: "لقد أتيت لكي تكون لهم الحياة وتكون وافرة" ( يو10/10 ) . إن من يتبع الله يدخل حضور القيامة . والقيامة هي وفرة الحياة . فحقيقة الإيمان المسيحي تتلخّص بقول يسوع: "من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، ويتبعني" . لم يقل يسوع في هذه الدعوة: "فليحمل صليبي"، وقد عانى ما عاناه في صلبه ككل إنسان وأكثر، لأن الصليب هو واقع على كلّ إنسان، بل قال: "ليحمل صليبه”، ليقول مباشرة: "ويتبعني" . أي يتبعني إلى القيامة، هذا هو تماماً معنى اتِّباعه . "عندما يشهد جميع المسيحيين بحياتهم للقيامة ينقلب العالم بأسره نحو الفرح والمشاركة والسلام والرجاء والإيمان  . فإن كنا نشترك مع كل البشر في واقع الصليب، علينا في اتّباع يسوع أن نشركهم في رجاء القيامة، في "وفرة الحياة" . إذ لا يمكن فصل حقيقة الصليب عن سرِّ القيامة وإلاّ أصبحت الأمانة لله بؤساً والحياة معه جحيماً والموت نهاية .. وما عاد "الله محبة" .

العبور من السؤال : القلق لماذا .. إلى السؤال : الرجاء كيف ..

يشبه كل مظاهر القلق التي يعيشها الإنسان  حاليا :  قلق التلاميذ بعد موت يسوع يشبه قلقهم حين كانوا في السفينة وحدهم حيث الأمواج تتلاطمهم إذ الريح مخالفة ( متى 14/22 .. ) ،. إن يسوع الذي يمشي فوق الأمواج، ولو كانت الريح مخالفة، هو نفسه يدخل القلوب وأبواب الأمل مغلقة " ويدعوها إلى الرجاء" ، إن هذا الذي يأتي من الحياة الأبدية يطعم حياتنا بالرجاء الأكيد . لا يمكن أن نعيش الرجاء إلا بالاستجابة لدعوة القائم والحي . يقول بطرس: "يا رب، إن كنت إياه فمرني أن أذهب إليك على الماء"، كأنه يقول يا رب إن كنت أنت حي ومخلص أعطني أنا أيضاً أن أعيش بسلام فوق قلقي واضطراباتي . يستطيع بطرس أن يمشي على أمواجه طالما ينظر إلى يسوع، ولكنه يأخذ في الغرق حين ينظر الريح المخالفة . هناك علاقة جدلية بين السلام والنظر إلى يسوع . تماماً كما حدث لبطرس أيضاً حين نكر يسوع، وإذ بدأ ينظر إليه مجدد غرق بدموع توبته ( لو22/61 ) . لن يترك المسيح إنسانه يغرق طالما يهتف إليه : "يا رب، نجني .. " إن الحقيقة هنا ليست مسألة تطرح على العقل بقدر ما تدعو الإنسان بكامله إلى الاختبار .

خاتمة

الرجاء فى المسيح :  إن كنا نختبر القلق في حياتنا فلأنه واقع الإنسان، فهل نعيش الرجاء الحق ليكون واقعنا هو من إطلالات ملكوت الله في زمننا؟ إن واقع القلق هو محتوم لكل البشر، فهل نشاركهم في واقع الرجاء؟ هل نكون دعوة رجاء؟ إنها دعوة الحياة بالمسيح، التي يدعونا إليها "ذاك الذي في أيام حياته البشرية، رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد ، إلى الذي بوسعه أن يخلص من الموت، فاستجيب طلبه لتقواه . وتعلَّم الطاعة، وهو الابن، بما لقي من الألم . ولما جُعل كاملاً صار لجميع الذين يطيعونه علة خلاص أبدي" ( عب5/6-10 )

إن الإيمان الحق هو العلاج الناجح للقلق : نحن خراف المسيح , و هل تخشى الخراف من موضوع المأكل و المشرب و الملبس و؟   و إذا كان الرب معنا فمن علينا  ؟ بالإيمان استطاع بطرس أن يتخلًص من الخوف و القلق وسار على الماء . و بالإيمان استطاع توما أن يتخلًص من قلقه و ذهب للهند مبشّراً , و كذلك جميع الرسل و القديسين ..

أحبّائي: ربما نكون ضعفاء بسبب ( أو بحجّة ) طبيعتنا البشرية فلا بدّ أن يدخل القلق أو شيء منه إلى نفوسنا ولكن ليس علينا أن نعطيه الأولوية أو الأهمية الكبرى في حياتنا , فقط لنسلّم ذاتنا لله فهو أدرى بما نحتاج , و هو غير متطلّب للكثير: أطلبوا أولاً ملكوت الله و برّه وهذا كلّه يزاد لكم  . و إذا كنّا نحن البشر نحسن رعاية أولادنا و نحسن العطاء فكيف بالحري أبانا السماوي؟