مزمور 22: تسجيل لمشاعر يسوع الجريحة

 

مزمور22: 6 -24

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى ((أَيِّلَةِ الصُّبْحِ)). مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ

 

 

تأليف الأب يونان شحاته

مز-22-1 إِلَهِي! إِلَهِي لِمَاذَا تَرَكْتَنِي بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟ مز-22-2: إِلَهِي فِي النَّهَارِ أَدْعُو فَلاَ تَسْتَجِيبُ. فِي اللَّيْلِ أَدْعُو فَلاَ هُدُوءَ لِي.
مز-22-3: وَأَنْتَ الْقُدُّوسُ الْجَالِسُ بَيْنَ تَسْبِيحَاتِ إِسْرَائِيلَ.
مز-22-4: عَلَيْكَ اتَّكَلَ آبَاؤُنَا. اتَّكَلُوا فَنَجَّيْتَهُمْ.
مز-22-5: إِلَيْكَ صَرَخُوا فَنَجُوا. عَلَيْكَ اتَّكَلُوا فَلَمْ يَخْزُوا.
مز-22-6: أَمَّا أَنَا فَدُودَةٌ لاَ إِنْسَانٌ. عَارٌ عِنْدَ الْبَشَرِ وَمُحْتَقَرُ الشَّعْبِ.
مز-22-7: كُلُّ الَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ الشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ الرَّأْسَ قَائِلِينَ:
مز-22-8: اتَّكَلَ عَلَى الرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ.
مز-22-9: لأَنَّكَ أَنْتَ جَذَبْتَنِي مِنَ الْبَطْنِ. جَعَلْتَنِي مُطْمَئِنّاً عَلَى ثَدْيَيْ أُمِّي. مز-22-10: عَلَيْكَ أُلْقِيتُ مِنَ الرَّحِمِ. مِنْ بَطْنِ أُمِّي أَنْتَ إِلَهِي.
مز-22-11: لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ. لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ.
مز-22-12: أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ اكْتَنَفَتْنِي.
مز-22-13: فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ.
مز-22-14: كَالْمَاءِ انْسَكَبْتُ. انْفَصَلَتْ كُلُّ عِظَامِي. صَارَ قَلْبِي كَالشَّمْعِ. قَدْ ذَابَ فِي وَسَطِ أَمْعَائِي.
مز-22-15: يَبِسَتْ مِثْلَ شَقْفَةٍ قُوَّتِي وَلَصِقَ لِسَانِي بِحَنَكِي وَإِلَى تُرَابِ الْمَوْتِ تَضَعُنِي.
مز-22-16: لأَنَّهُ قَدْ أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ الأَشْرَارِ اكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ.
مز-22-17: أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ.
مز-22-18: يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ.
مز-22-19: أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَلاَ تَبْعُدْ. يَا قُوَّتِي أَسْرِعْ إِلَى نُصْرَتِي.
مز-22-20: أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ الْكَلْبِ وَحِيدَتِي.
مز-22-21: خَلِّصْنِي مِنْ فَمِ الأَسَدِ وَمِنْ قُرُونِ بَقَرِ الْوَحْشِ اسْتَجِبْ لِي.

مز-22-22: أُخْبِرْ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي. فِي وَسَطِ الْجَمَاعَةِ أُسَبِّحُكَ.
مز-22-23: يَا خَائِفِي الرَّبِّ سَبِّحُوهُ. مَجِّدُوهُ يَا مَعْشَرَ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ. وَاخْشُوهُ يَا زَرْعَ إِسْرَائِيلَ جَمِيعاً.
مز-22-24: لأَنَّهُ لَمْ يَحْتَقِرْ وَلَمْ يَرْذُلْ مَسْكَنَةَ الْمَِسْكِينِ وَلَمْ يَحْجِبْ وَجْهَهُ عَنْهُ بَلْ عِنْدَ صُرَاخِهِ إِلَيْهِ اسْتَمَعَ.
مز-22-25: مِنْ قِبَلِكَ تَسْبِيحِي فِي الْجَمَاعَةِ الْعَظِيمَةِ. أُوفِي بِنُذُورِي قُدَّامَ خَائِفِيهِ.
مز-22-26: يَأْكُلُ الْوُدَعَاءُ وَيَشْبَعُونَ. يُسَبِّحُ الرَّبَّ طَالِبُوهُ. تَحْيَا قُلُوبُكُمْ إِلَى الأَبَدِ.
مز-22-27: تَذْكُرُ وَتَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ. وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ.
مز-22-28: لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ.
مز-22-29: أَكَلَ وَسَجَدَ كُلُّ سَمِينِي الأَرْضِ. قُدَّامَهُ يَجْثُو كُلُّ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى التُّرَابِ وَمَنْ لَمْ يُحْيِ نَفْسَهُ.
مز-22-30: الذُّرِّيَّةُ تَتَعَبَّدُ لَهُ. يُخَبَّرُ عَنِ الرَّبِّ الْجِيلُ الآتِي.
مز-22-31: يَأْتُونَ وَيُخْبِرُونَ بِبِرِّهِ شَعْباً سَيُولَدُ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ.

نظرة عامة للمزمور

بعض المزامير يُطلق عليها الشراح اسم المزامير المسيانية لأنها تتحدث عن المسّيا أو المسيح. ومع أن كل المزامير تتكلم بصورة أو بأخرى عن المسيح، بل الكتاب المقدس كله موضوعه الرئيسي هو المسيح، لكن "المزامير المسيانية" هي تلك التي جاءت منها اقتباسات صريحة ومباشرة في العهد الجديد عن المسيح.

هناك مزامير كثيرة تنطبق على ظروف كاتبها، كما وتنطبق علينا نحن المؤمنين، لأن كل ما كتب، كتب لأجل تعليمنا (رو15: 4)، لكن هناك مزامير أخرى في الوحي لا يمكن أن تنطبق سوى على شخص المسيح لا سواه. نذكر على سبيل المثال:

 ما ورد في مزمور 16 «لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فساداً»، ولقد اقتبس كل من الرسولين بطرس وبولس هذه العبارة. وكان تعليق الرسول بطرس عليها «يسوغ أن يقال لكم جهاراً عن رئيس الآباء داود إنه مات ودفن وقبره عندنا حتى هذا اليوم. فإذ كان نبياً وعلم أن الله حلف له بقسم إنه من ثمرة صلبه يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه، سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح أنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً» (أع27:2ـ31). كما علق عليها الرسول بولس فقال «لأن داود بعد ما خدم جيله بمشورة الله رقد وانضم إلى آبائه ورأى فساداً. وأما الذي أقامه الله فلم ير فساداً» (أع36:13،37).

وأيضاً ما جاء في مزمور 22 «ثقبوا يديّ ورجليّ»، فلم يحدث ذلك مع داود. فداود إذاً هنا لا يتكلم عن نفسه، ولا من نفسه، إنما لكونه نبياً عرف أن من نسله سيأتي المسيح، وأنه سيموت مصلوباً.

وفي مزمور 68 نقرأ «صعدت إلى العلاء. سبيت سبياً». هذه الأقوال أيضا لا تنطبق على داود، فلا داود ولا غيره صعد إلى السماء كقول الرب له المجد «ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3).

وفي مزمور110 نقرأ «قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك». ولقد علّق الرب على هذه الآية وقال «فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة» (مت45:22،46).

لكن من بين مجموعة المزامير المسيانية فإن المزمور الثاني والعشرين له غلاوة خاصة. إنه بحق قمة المزامير المسيانية، كما أنه أيضاً مزمور الصليب أكثر من أي مزمور آخر. وبالتالي فإننا فيه نرى يسوع المسيح وإياه مصلوباً.

ثلاثية مزامير الراعي

بعض المفسرون يسمون مجموعة المزامير (22، 23، 24) بمزامير الراعي. وهذه المزامير الثلاثة كتبها داود بالروح القدس. ونحن نعرف أن داود بدأ حياته راعياً للغنم، ثم اختاره الرب ليرعى شعبه إسرائيل (مز 78: 70-72). وفي خلال حياته قاسى الكثير من الآلام وهو في هذا كله رمز مجيد للمسيح المتألم، الراعي والملك.

ولقد تكلم العهد الجديد عن المسيح كالراعي مستخدماً ثلاثة ألقاب هي الراعي الصالح، والراعي العظيم، ورئيس الرعاة. ولقد استخدم الروح القدس في تسجيل هذه الألقاب كلاً من الرسول يوحنا، ثم الرسول بولس، ثم الرسول بطرس على التوالي.

ففي إنجيل يوحنا نقرأ قول المسيح عن نفسه «أنا هو الراعي الصالح. والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو10: 11).

كما يقول الرسول بولس في الرسالة إلى العبرانيين «وإله السلام الذي أقام من الأموات راعى الخراف العظيم ربنا يسوع بدم العهد الأبدي» (عب13: 20). ويختم الرسول بطرس هذه الثلاثية مشيراً إلى ظهور المسيح بالمجد والقوة فيقول في رسالته الأولى 5: 4 «ومتى ظهر رئيس الرعاة تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى».

وواضح هنا الارتباط الوثيق بين هذه الثلاثية. فمجيء المسيح بالنعمة ليفدي البشر، ذلك المجيء الذي انتهى بموت الصليب، يحدثنا عن الراعي الصالح. لكنه بعد الموت قام وصعد إلى السماء ممجداً، وهو هناك يخدمنا باعتباره راعي الخراف العظيم. وأخيراً سيأتي إلينا مرة ثانية مستعلناً بالمجد والقوة، ليعطي الأجرة لعبيده الأمناء، وذلك باعتباره رئيس الرعاة.

هذه الأفكار الثلاثة نجدها بنفس هذا الترتيب في مزامير الراعي؛ مزمور22، 23، 24. ففي مزمور 22 نجد الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن خرافه الغالية، وفي مزمور 23 نجد الراعي العظيم المعتني بكل خروف من قطيعه العزيز، والذي يحفظهم خلال هذا العالم المليء بالمخاطر والتجارب، ويرعاهم خلال الحياة المليئة بالاحتياجات والإعوازات. وفي مزمور 24 نجد رئيس الرعاة، الذي هو نفسه «ملك المجد» عندما يظهر ليكافئ كل الخدام الأمناء الذين اعتنوا بقطيعه العزيز على قلبه.

هذه الثلاثية الجميلة تغطى حياة الرب يسوع بأكملها «أمساً واليوم وإلى الأبد». فبالنسبة للأمس نذكر تجسد المسيح باعتباره الراعي الذي أتى من السماء إلى الأرض لكي يفتش عن الغنم، ولكي ما يذهب وراء الضال حتى يجده، ثم مضى إلى الصليب كالراعي الصالح ليبذل نفسه عن الخراف. وهو ما يحدثنا به مزمور22.

لكن الصليب لم يكن النهاية، ونفس المزمور الذي يكلمنا أساساً عن الصليب يشير أيضاً إلى القيامة. وبعد القيامة نرى خدمة أخرى للمسيح؛ كراعي الخراف العظيم المقام من الأموات. فالذي مات لأجلنا، قام، وهو حي لأجلنا. ولا شك أنه ما كان بوسع واحد منا أن يخلص دون خدمة رعايته لنا. من فينا حتى بعد إيمانه يستغني عن هذا الراعي العظيم؟!

لكن سوف تنتهي هذه الحياة الحاضرة والتي نسميها "اليوم" (عب3: 13)، والتي استمرت نحو ألفي سنة، عندما يأتي الرب، لندخل "إلى الأبد" وذلك «متي ظهر رئيس الرعـاة».

والعلاقة بين هذه الثلاثية الجميلة نجدها في آية سجلها موسى في ترنيمته الشهيرة في خروج 15: 13 وهذه العلاقة هي كالآتي: في مزمور 22 نجد الفداء بالنعمة، وفي مزمور 23 نجد الإرشاد بالرأفة، وفي مزمور 24 نجد مسكـن قدسه.

أو بلغة آساف في مزمور 73: 24 نجد في مزمور 22 النعمة المخلصة، وفي مزمور23 نجد الرأي الهادي، وفي مزمور24 نجد المجد العتيد.

ويلخص كل مزمور سؤال كالآتي:

مزمور22 لماذا تركتني؟

مزمور23 أين تُربض؟

مزمور24 من هو هذا؟

فكأن المسيح في مزمور22 وحيد منفرد، وفي مزمور 23 نجده مع أحبائه، وفي مزمور 24 هو فوق الجميع.

وإذا عقدنا المقارنة بين مزاميرالراعي الثلاثة هذه نجد الآتـي:

مزمور 24

مزمور23

مزمور22

المستقبل

الحاضر

الماضي

المجد

الإرشاد

النعمة

قوة المسيح

ترفق المسيح

تواضع المسيح

الخلاص بظهوره

الخلاص بحياته

الخلاص بالدم

صولجان الملك

عصا الرعاية

صليب الفداء

جبل صهيون

الوادي

جبل المريا

 

مزامير الذبائح

بالإضافة إلى مجموعة مزامير الراعي هناك مجموعة أخرى تتوافق مع الذبائح والتقدمات المذكورة في سفر اللاويين 1-5؛ وأعني بها المحرقة وقربان الدقيق وذبيحة السلامة، ثم ذبيحة الخطية وذبيحة الإثم. هذه التقدمات والذبائح كلها تحدثنا عن شخص المسيح وعمله. ويتفق معظم الشراح على أن مزمور16 هو مزمور قربان الدقيق؛ حيث يصف لنا حياة المسيح القدسية الفريدة والتي كانت كلها رائحة سرور للرب.

وأما الذبائح الأربع فإنها تحدثنا عن عمل المسيح من فوق الصليب من زواياه المختلفة. وهي نفس الأوجه التي تقدمها لنا الأناجيل الأربعة. فإنجيل يوحنا يقدم لنا موت المسيح كالمحرقة، وإنجيل لوقا يقدمه لنا كذبيحة السلامة، وإنجيل مرقس يقدمه لنا كذبيحة الخطية وإنجيل متى يقدمه لنا كذبيحة الإثم.

ولنا في سفر المزامير أيضا أربعة مزامير تتمشى مع تلك الذبائح الأربع، ومع الأناجيل الأربعة، وهذه المزامير هي مزمور22، 40، 69، 118

وليس من العسير أن نرى الطابع المميز لهذه المزامير الأربعـة:

مزمـور40

المحرقة

الطاعة وإتمام مشيئة الله

مزمـور118

ذبيحة السلامة

الشركة والرضا

مزمـور22

ذبيحة الخطية

الترك من الله وتحمل الألم

مزمـور69

ذبيحة الإثم

رد المسلوب والتعويض

مزمور 22

إذا كنا في هذا المزمور نرى تصويراً لآلام المسيح وهو فوق الصليب، فكم يكون هذا المزمور كريماً وثميناً بالنسبة لكل مؤمن. كيف لا وهو يُفتتح بالعبارة التي نطق بها المسيح من عمق الألم والظلمة في الجلجثة. والمسيح إن كان قد نطق بفمه بأولى عبارات هذا المزمور، فإنه لا شك قد أكمل بقيته بروحه. ونحن إن كنا نجد في الأناجيل تسجيلاً للوقائع التي تمت في الجلجثة، فإننا في المزامير، ولا سيما هذا المزمور نجد تسجيلاً لمشاعر المسيح الجريحة وأحزانه الدفينة وهو يجتاز أحزان الجلجثة.

إن من يقرأ هذا المزمور يجد فيه صورة حية لمشهد الجلجثة الرهيب حيث تألم المسيح من أجلنا. وإننا لن نجد في كل الكتاب تصويراً أبلغ لآلام الكفارة، وجعل المسيح ذبيحة خطية لأجلنا، مما نراه هنا. إنه حقاً مزمور يحوي سر الأسرار؛ الابن الحبيب متروكاً من الله! ينبوع المياه الحية بحنك يابس! الذي تبدي الخليقة قدرته السرمدية يقول «يبست مثل شقفة قوتي»! والمؤتزر بالمجد والجلال نراه عارياً من كل كرامة بشرية!! فلتنحن الهامات إذاً، وليفض من القلب أعمق مشاعر التوقير والإجلال والتعبد، ولنخلع أحذيتنا من أرجلنا ونحن نقرأ هذا المزمور، فإننا هنا نقف في قدس أقداس الكتاب المقدس كله!

مزمور لداود

كاتب هذا المزمور، كما يتضح من عنوانه هو داود. لكن موضوع هذا المزمور لا يحدثنا عن اختبار داود. وحتى لو كنا نقدر أن نرى بعض الملامح لاختبار داود من خلال المزمور، لكن هذه الملامح لا تزيد عن كونها ضوء الكوكب الذي سرعان ما يختفي أمام نور الشمس. ومع ذلك نقول إن الذي يرى في هذا المزمور يسوع وآلامه لا يعنيه بعد ذلك أن يرى فيه داود أو سواه.

لقد كتب داود هذا المزمور إذاً بروح النبوة. فهذا المزمور هو جزء من «الكلمة النبوية» (2بط1: 19). وأنبياء العهد القديم تنبأوا بروح المسيح الذي فيهم، عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط1: 11)، فلا عجب أن يقول الملاك ليوحنا إن «شهادة يسوع هي روح النبوة» (رؤ19: 10).

نعم هذا المزمور لا يعطينا أساساً اختبار داود. فبالإضافة إلى أن داود لم يمت مصلوباً، ولا كانت ميتة الصلب تمارس على عهده، والأرجح أن الرومان هم الذين أدخلوها بعد داود بمئات السنين، فإن داود أيضاً لم يُترك من الله؛ أليس هو القائل في مزمور 37 «أيضاً كنت فتى وقد شخت ولم أر صدّيقاً تُخلّي عنه». كلا، ليس هذا المزمور اختبار داود، بل هو اختبار المسيح من فوق الصليب.

لقد ذكر أحد الشراح للكتاب، وهو يهودي متنصر، أن هذا المزمور يحتوي على 33 نبوة تمت في المسيح. فيا للعجب أن اليهود حتى اليوم لا يرون في هذا المزمور آلام المسيا، تلك الآلام التي تسبق ملكه العتيد على كل العالم. وليس فقط هم لا يرون المسيح فيه، بل إن المزمور يمثل لهم حجرة عثرة، والكثيرون منهم يتحاشون قراءته تماماً، كما يفعلون أيضاً مع إشعياء 53.

وأوضح النبوات والإشارات إلى المسيح في هذا المزمور ما يلي:

1– الآية الأولى «إلهي إلهي لماذا تركتني» قالها المسيح وهو على الصليب كما نفهم من متى 27: 46، مرقس 15: 34

2– الآيات من 6 إلى 8 التي تحتوي على تهكم البشر، تسجل كلمات الأشرار التي قالوها للمسيح وهو فوق الصليب بالحرف تقريباً (انظر متى27: 39-44).

3- الآيات 11،12 التي تشير إلى انتفاء المعونة البشرية عن القدوس المتألم تمت عندما تركه التلاميذ كلهم وهربوا (مت26: 56).

4- الآية 16 عن صلبه «ثقبوا يدي ورجلي»، وأن هذه العملية ستتم بأيدي الأمم؛ الرومان الذين يشير إليهم المزمور بأنهم "كلاب"، تمت في صلب المسيح (مت27: 35).

5- الآية 17 عن نظر الناس إليه وتفرسهم فيه (انظر لوقا23: 35).

6– الآية 18 عن اقتسام ثياب المسيح (ولقد أشار إلى هذه العملية كتبة البشائر الأربعة – انظر متى 27: 35، مرقس 15: 24، لوقا 23: 34، يوحنا 19: 23،24).

7- الآية 22 عن حضور المسيح وسط تلاميذه ليخبرهم باسم الآب ويسبحه في وسط الكنيسة (قارن يوحنا20: 19، مع عبرانيين 2: 12).

الآلام والأمجاد

لقد تنبأ أنبياء العهد القديم عن الآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها (1بط1: 11). وهذا المزمور يحتوي فعلاً على هاتين الفكرتين؛ الآلام والأمجاد.

من ع 1-21 موضوعه صرخة المتألم؛ ويبدأ بقوله الكريم «إلهي إلهي لماذا تركتني»

ومن ع22 – 31 موضوعه تسبيح المنتصر؛ ويبدأ أيضاً بقوله «أخبر باسمك اخوتي. في وسط الجماعة أسبحك» (قارن عب2: 12).

عندما صرخ الرب كان بمفرده فلم يكن ممكناً أن يكون أحد معه، لكن عندما سبح؛ لم يسبح وحده، بل نراه يسبح وسط حماعة مفدييه؛ الجماعة التي انفصلت لأجله وصارت له وهي الكنيسة.

ففي النصف الأول نجده وحيداً تماماً، لم يكن معه أحد من أحبائه. عندما أتوا ليقبضوا علي المسيح «تركه الجميع وهربوا» (مر14: 50). وهو يقول لله في هذا المزمور «لا تتباعد عني … لأنه لا معين». لكن ليس فقط كل البشر تركوه، بل أيضا الله تركه! أما في النصف الثاني، فنجد أكثر من دائرة مرتبطة به، كما سنرى في حينه.

في القسم الأول نراه محاطاً بأعدائه المشبهين بالثيران الجامحة والكلاب الجائعة، يعيرونه ويضطهدونه، بينما في القسم الثاني هو في وسط أحبائه ومفدييه يقود تسبيحاتهم لأبيه.

في القسم الأول وهو في ساعات الظلمة يشكو أن الله لا يسمع له ولا يستجيبه (ع2)، بينما في القسم الثاني يقول «لأنه لم يحتقر ولم يرذل مسكنة المسكين، ولم يحجب وجهه عنه، بل عند صراخه إليه استمع» (ع24).

القسم الأول خلاصته التنهد (ع2)، أما القسم الثاني ترنم (ع22،25).

ما أبعد الفارق بين قسمي المزمور، نستطيع القول عن القسم الأول ظلمة الجلجثة، والقسم الثاني فجر القيامة. وما أبعد الفرق بين ظلمة الجلجثة في رابعة النهار، وبين الصبح المنير عندما قام المسيح من الأموات فجلا ليل الدجى.

كم كان حزن التلاميذ عندما مات المسيح، وكم كانت فرحتهم عندما قام من الأموات. لكننا في هذا المزمور لا نرى حزن التلاميذ وفرحتهم، بل نرى أحزان المسيح في الجزء الأول، وأفراحه في الجزء الثاني.

في القسم الأول «كل الذين يرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه وينغضون الرأس قائلين» هم يتكلمون، وهو يجتر أحزانه في صمت! لكن سوف يأتي الوقت الذي فيه يتكلم هو وأمامه يستد كل فم. وهذا موضوع القسم الثاني «لأن للرب الملك وهو المتسلط علي الأمم».

في القسم الأول نرى الرب وهو ذاهب بالبكاء حاملاً مبذر الزرع، لكن في القسم الثاني نراه آتياً بالترنم حاملاً حزمه (مز126: 6).

العمل ونتائجه

هذا المزمور باعتباره نبوة عن شخص ربنا يسوع المسيح فإنه يحدثنا عن عمله الكريم ونتائجه الباهرة؛ هذه النتائج التي عبر عنها الرسول بالقول «من أجل السرور الموضوع أمامه»، وبسبب هذا السرور قبل أن يقوم بالعمل «احتمل الصليب مستهيناً بالخزي» (عب12: 2).

وكما رأينا في قسمي المزمور آلام المسيح وأمجاده، يمكننا أن نرى فيهما أيضاً عمل المسيح ونتائجه.

من ع 1 – 21 نرى العمل الذي أتمه المسيح على الصليب، ثم بداية من ع22 – 31 نرى نتائج عمله الكريم.

وما عمله المسيح إنما عمله من خلال الألم. ولقد تمت آلامه هذه في دقة عجيبة، حتى وإن بدت بعض التفاصيل ثانوية لا أساسية، فعليها جميعاً انطبق القول «هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم» (لو24: 46).

والآلام في هذا المزمور ثلاثية المصدر: من الله ومن البشر ومن الشيطان. فهناك آلام نيابية من الله وجسدية من البشر وجهنمية من الشيطان، وذلك نظراً لقداسة الله وكراهية الإنسان وعداء الشيطان.

ع1-6 نجد المسيح متروكاً من الله.

ع7-18 نجد المسيح محتقراً ومتألماً من الشعب.

ع19-21 نجد المسيح مضطهداً ومسحوقاً من الشيطان.

وكما أن آلام المسيح ثلاثية فإن نتائج عمل المسيح أيضاً ثلاثية؛ فهي أولاً لمجد الله، ولإسعاد الإنسان، ولدحر الشيطان.

من ع22-25 نجد مجد الله

من ع26،27 نجد سعادة الإنسان

من ع28-31 نجد ملك المسيح الذي يتضمن سحق الشيطان ودحره نهائياً.

المزمور والاعياد:

هناك ثلاثة اعياد سنوية كبري عند اليهود هي:

1 . عيد الفصح (خروج 12 ):

 يبدأ هذا المزمور بما يتوافق مع عيد الفصح (ع1-3)، حيث نسمع تأوهات الحمل المشوي بنار العدالة الإلهية (خر 12 / 8 ).

2 .  الخمسين: أي عيد الأسابيع (خر22:34؛ لا15:23؛ تث10:16؛ 2أخ13:8).

وفي منتصف المزمور نقرأ ما يتجاوب مع عيد الخمسين (ع22-24)، حيث التقدمة الجديدة، والتي لها نفس نوع حياة ربنا يسوع المسيح، «لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة، قائلاً اخبر باسمك اخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك» (عب2: 12).

3 . عيد المظال : هو ثالث الأعياد السنوية الكبرى التي كان يجب فيها على كل ذكر في إسرائيل أن يتراءى أمام الرب في الموضع الذي يختاره (تث16:16)، ويُعرَف بالعبرانية "سُّكُّوت"، وإشتق الإسم من عادتهم في أن يسكنوا مظالاً أثناء مدة العبادة (لا40:23-42).

وفي آخر المزمور نقرأ ما يتمشى مع عيد المظال (ع27-29)، حيث ستمتلئ الأرض من معرفة مجد الرب كما تغطي المياه البحر، عندما يملك الرب، ويسعد الإنسان، وتعم الفرحة كل الخليقة.

إن كان مجيداً في أعيننا المسيح المتألم، فكم بالحري يكون المسيح الممجد. وإن كان يحلو لقلوبنا أن تراه عندما كان دامي الرأس، مكللاً بالأشواك لأجلنا، فكم تتوق بالأحرى لأن تراه وعلى رأسه تيجان كثيرة!

الالام الاعداد من 4-21

دعونا مرة أخرى ننظر إلى هذا المنظر العجيب، الذي لن نصل مطلقاً إلى عمقه أو قراره طالما نحن في الأرض، ولن نمل من التأمل فيه طوال فترة وجودنا في البرية وفي الغربة، حتى نصل إلى السماء. وماذا ستكون السماء؟ وما هي الأبدية؟ إنها جلسة متصلة حول الخروف المذبوح (رؤيا 5). فهل سنستطيع في الأبدية أن نصل إلى قرار أعماق محبة المسيح لنا؟ كلا، بل ستظل محبة المسيح فائقة المعرفة، وستظل أسرار الصليب فوق أفهامنا.

وسننشغل في هذا الفصل بالتأمل في آلام المسيح التي احتملها من يد الإنسان، وهذه الآلام مذكورة في هذا المزمور من ع4-21 وقد تمت في دقة عجيبة بعد نحو ألف سنة في الرب يسوع عندما كان معلقاً فوق الصليب.

1 . الرب يسوع له كل المجد دودة لا إنسان !

تفتتح هذه الأعداد موضوع دراستنا الآن بهذه العبارة المذيبة التي سبق لنا التأمل فيها «أما أنا فدودة لا إنسان».

من هو الذي يقول هذا ؟ إنه مبدع الكون القدير. تأملي يا نفسي في هذا اللغز العجيب واخشعي!

وكلمة دودة نطقها بالعبري "تولع"، هو اسم أحد قضاة إسرائيل (قض10: 1)، ويعتبر رمزاً لقاضي إسرائيل الحقيقي لكن المرفوض (مي5: 1). ويستخدم هذا الاسم للتعبير عن ديدان صغيرة حمراء اللون، تجمع بهز الشجر الذي توجد فيه، وعندما تسحق تلك الديدان تتخضب تماماً بالدم القاني، مما يذكرنا برجل الأحزان الذي لأجلنا كان دامي الرأس والظهر واليدين والرجلين والجنب، وذلك من آثار الشوك والسياط والمسامير والحربة. أما سحق تلك الديدان فكان يعطي أفخر الصبغات الحمراء الزاهية، والتي يشار إليها في نبوة إشعياء باسم «الدودي»، أو «القرمز» (إش 1: 18). ولقد كانت هذه الصبغة مكلفة وغالية، وكان يصنع منها ثياب الملوك والأمراء. وهكذا سحق ربنا يسوع تبارك اسمه حتى نلبس نحن المجد والبهاء !

عندما مات شاول الملك، رثاه داود بالقول «يا بنات أورشليم ابكين شاول الذي ألبسكن قرمزاً بالتنعم» (2صم1: 24). لكن الواقع إنه ليس شاول هو الذي عزى بنات أورشليم (قارن 1 صم8: 13)، بل إن الذي كسانا بالعز حقاً هو المسيح.

لقد قبل الرب يسوع الذي تتعبد له الملائكة أن يتألم وأن يهان من أجلنا حتى ما نرتدي نحن الحلة الأولى. قبل أن يسحق من أجل آثامنا. وهل هناك ثمة صعوبة في سحق دودة؟! أيحتاج ذلك إلى قوة أو جبروت؟ في الواقع ما أسهل أن تسحق دودة. وماذا تستطيع تلك الدودة أن تفعل سوى أن تتألم وأن تعاني ؟! والرب يسوع  ارتضى أن يكون كذلك. ومع أن بيلاطس قال عنه في المحاكمة «هوذا الإنسان» ( يو 19 / 6)، لكنه الآن وهو معلق فوق عود الصليب يقول عن نفسه «أما أنا فدودة لا إنسان»!

لقد سبق أن رأينا كيف سحق الله المسيح وهو فوق الصليب، والسبب لذلك هو خطايانا. يقول الوحي «وهو مجروح من أجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا .. أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن» (إش53: 5،10). لكننا الآن سنرى كيف استخدم الشيطان البشر جميعهم في سحق رجل الأحزان ربنا يسوع المسيح، فتمت الكلمات التي كان الرب الإله قد قالها في الجنة للحية «أضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تك3: 15).

وعبارة أنت تسحقين عقِبه تعني أن الشيطان سحق ناسوت المسيح فقط وليس لاهوته. في هذا قال أحد اللاهوتيين "الله لم يمت، ولكن الذي مات هو الله". وهذا التعبير قد يبدو صعباً، لكن هذا ما حدث حقاً. فالله لا يموت، لأن له وحده عدم الموت، لكن هل الذي مات كان مجرد إنسان عادي؟ لو كان إنساناً عادياً لما استطاع أن يخلصنا. ومع ذلك يجب أن نميز بين اللاهوت والناسوت.. الله لم يمت، الناسوت هو الذي مات، فالشيطان لم يسحق رأس المسيح، لأن «رأسه ذهب إبريز»
(نش5: 11) – إشارة إلى لاهوته – بل ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك، إنما كل ما فعله الشيطان هو أنه سحق عقبه؛ أي ناسوته.

ونحن لا نهون مطلقاً من تلك الآلام. فعندما نتأمل المسيح يقول هنا «أما أنا فدودة لا إنسان»، مجرد دودة تحتقر من الناس، وبالأقدام تداس! يستهزئ به، يضرب بالقصبة على وجهه؛ من يصدق هذا الخبر، أن الخالق العظيم المجيد، الذي لا تستطيع الملائكة أن تنظر إليه، يهان مـن البشر!!

2 . المهان النفس

إننا في تعجب نتساءل: ما هذه المحبة التي جعلت المسيح يهان من صنعة يديه ؟! لكننا في نفس الوقت ندرك شيئاً من معنى قول المسيح عن ساعة الصليب «الآن دينونة هذا العالم» (يو12: 31). ليس لحظة توقيع الحكم على العالم، فهذه لم تتم بعد، بل إن العالم في الصليب فُضحت سماته الحقيقية، وتعرى من الورقة الأنيقة التي تخفي عيوبه. ففي صليب المسيح اتضح كم العالم واقع بالتمام في قبضة الشيطان الذي جنده بالكامل ليصلب ابن الله. لقد ظهر فساد خطته، وخبث طرقه. بل اتضح أيضاً بشاعة قلبي وقلبك. فهل رأيت صورتي وصورتك هناك يسأل المرنم قائلاً: هل رأيت نفسك فيمن صلبوه؛ نفسك بين الذين قد عذبوه ؟!

إنها قصة مأساوية حقا! وإن كنا نندهش عجباً من شر الإنسان فإننا نندهش أكثر جداً من محبة الفادي. ترى من أي شيء نتعجب أكثر؛ قساوة الإنسان من نحو المسيح، أم محبة الفادي الجريح؟!

يقول المسيح  «كل الذين يرونني يستهزئون بي» من يصدق هذا؛ الأغنياء والفقراء، علية القوم والأدنياء، اليهود والأمم، الواقفون والعابرون، كل من يرى مسيح الله يستهـزئ به!

«يفغرون الشفاه وينغضون الرأس» أي يظهرون حركات استنكار وتهكم « قائلين: اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُـرّ به».

يا لقساوتكم أيها الرومان! يا لبغيكم أيها اليهود! أما كفاكم قتله مصلوباً، حتى تضيفون إلى جريمتكم الكبرى جريمة أخرى هي الاستهزاء به؟! بل ويا للعجب فحتى اللصان اللذان صلبا معه كانا يعيرانه!

والعبارات التي استخدمها أولئك المستهزئون هي نفس العبارات التي سجلها البشير متى ( 27 / 27 – 44 ). كأن الأشرار كانوا يتممون ما ورد في مزمور22. لقد كانوا يرددون عبارات السخرية القاسية وهم لا يدرون أنهم وإن كانوا بأيدي أثمة صلبوه وقتلوه، لكنهم كانوا يفعلون مشورة الله المحتومة وعلمه السابق (أع2: 23)، نعم فعلوا كل ما سبقت فعينت يد الله ومشورته أن يكون (أع4: 28).

3 . الرب يسوع يسترجع قصة حياته من البداية

ولنتحول الآن إلى القصة العجيبة بدءاً من بيت لحم والناصرة كما يرويها المسيح هنا بروح النبوة:

 عدد 10 «لأنك جذبتني من البطن. جعلتني مطمئنا على ثديي أمي. عليك ألقيت من الرحم. من بطن أمي أنت إلهي».

ربما لم يكن القديسة العذراء مريم، نظراً لفقرها الشديد، وتغربها في بيت لحم، بعيداً عن مدينتها الناصرة، حيث لا صديقات لها أو معارف، نقول ربما لم يكن لها قابلة تساعدها في الولادة، وتتلقى المولود عندما يخرج من البطن. لكن ها المسيح يقول لله «لأنك أنت جذبتني من البطن .. عليك ألقيت من الرحم».

والمسيح وهو يذكر هذا هنا، ويتذكره وهو في ساعات الألم، كأنه يقول لإلهه: في البداية لم يكن لي سواك، وإلى النهاية ليس لي سواك. فلماذا تركتني؟

وما أعجب ما يضيفه المسيح بعد ذلك؛ فبعد أن قال «لأنك أنت جذبتني من البطن» يضيف قائلاً «جعلتني مطمئناً على ثديي أمي». ولعل الصبي الصغير يسوع أحس بشعور الفزع الذي انتاب كل من يوسف النجار والعذراء القديسة مريم عند هروبهما به إلى مصر. أما هو فكان له في أثناء ذلك شعور مختلف، فيقول هنا «جعلتني مطمئناً على ثديي أمي»!

الطمأنينة المثلثة

طفولته- حياته – موته

وهنا نجد طابع الطمأنينة المثلثة التي ميزت كل مسيرة ذلك المتكل الأعظم، من بدايتها وحتى نهايتها، كما ورد في المزامير4، 16، 22

في البداية (كما نقرأ هنا)، وهو صبي صغير مطارد من ملك شرير ودموي؛ كان مطمئناً على ثديي أمه. ثم على طول الرحلة، أمام تقلبات الحياة وظروفها الصعبة كما نقرأ في مزمور4: 8 (بسلامة اضجع وانام لانك انت يارب. لانك انت يارب منفردا في طمأنينة تسكننني) نجد نوم الطمأنينة في وسط الخوف العظيم، وهو ما نرى عينة له في نوم المسيح وسط البحر الهائج في السفينة الصغيرة (مر4: 38). وأخيراً في مزمور16/ 9 ( لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي . جسدي ايضا يسكن مطمئنا )  نجده أمام مشهد الموت يمضي بثقة بل وبفرح، وحتى جسده كان سيسكن مطمئناً، لأن الرب لن يترك نفسه في الهاوية ولن يدع قدوسه يرى فساداً.

4 . فرادة المسيح في الالم

والمسيح فريد في كل شيء وليس له نظير. فهو ليس مثل البشر ولا حتى مثل أبطال الإيمان، إنه رئيس الإيمان ومكمله. فلقد كان موسى مثلاً أحلم جميع الناس الذين كانوا على وجه الأرض (عد12: 3)، لكنه في يوم بليته طلب الموت ( لا اقدر انا وحدي ان اجمل جميع هذا الشعب لانه ثقيل على . فأن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتلا ان  وجدت في عنيك فلا ارى بليتي. عد11: 15). ومكتوب أنهم «أمرّوا روحه حتى فرط بشفتيه» (مز106: 33). ونفس الشيء حصل من أيوب رغم قول الوحي «سمعتم بصبر أيوب» (يع 5: 11). لكن عندما اشتدت عليه التجربة فتح فمه وسب يومه. وقال «ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه. لمَ لمْ أمت من الرحم، عندما خرجت من البطن لمَ لمْ أسلم الروح» (أي3: 1-9)، وهكذا فعل إرميا أيضاً (إر20: 14-18). أما المسيح ففي يوم الجلجثة يقول للرب من بطن أمي أنت إلهي. فما أروعه!!

وعندما يقول المسيح «من بطن أمي أنت إلهي» فواضح أنه يشير إلى ناسوته. ولو أنه في نفس الوقت من بطن أمه هـو الرب.

نتذكر عندما ذهبت القديسة  مريم لتزور نسيبتها أليصابات، فإن الجنين الذي في بطن أليصابات ارتكض بابتهاج وقالت «من أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلىّ؟» (لو1: 43). فأليصابات تقول عنه وهو ما زال في البطن «ربي»؛ من بطن أمه هو رب، ومن بطن أمه الرب هو إلهه!! أليس هذا هو السر العظيم «بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16). فباعتباره الله تستطيع أليصابات أن تقول عنه «ربي»، ومن جهة ناسوته يقول عن الرب إنه إلهه، وهذا ما كان يحير وما زال يحير الكثيرين. «ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له ابن داود . قال فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً : قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئاً لقدميك. فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه» (مت22: 42 – 45).

فقبل أن يولد المسيح بألف عام قال عنه داود «ربي»، وقبل أن يولد بشهور قالت عنه أليصابات «ربي»، وفي القيامة قال عنه توما «ربي وإلهي» (يو20: 28)، وبعد أن صعد إلى المجد قال عنه الرسول بولس «يسوع المسيح ربي» (في3: 8). واليوم «كل من يدعو باسم الرب يخلص» (رو10: 13)، وغداً سيعترف كل لسان أن يسوع رب (في2: 11). لكن في هذه الأعداد التي تُحدثنا عن سحق الشيطان لناسوت المسيح بقول لابيه «من بطن أمي أنت إلهي».

تفصيلات الألم

ثم يلجأ المسيح في الأقوال التالية إلى التفصيلات:

ففي الأعداد من 12-15 يشير إلى شعب اليهود. (ثيران واسود)

وفي الأعداد من 16-20 يشير إلى الأمم. (كلاب اشرار)

ثم في ع21 يشير إلى زعيمهم، الذي يعمل فيهم ويعمل من خلفهم جميعاً؛ أعني الشيطان. (فم الاسد- قرن الوحش).

وقبل التأمل في هذه الآيات الثمينة التي تشرح لنا تفصيلات الألم آية آية، والتي فيها نرى ما صار لمعبود القلب على أيدي خبثاء القلب القساة، نتذكر يوسف عندما ذهب ليفتقد سلامة اخوته، فإنهم عندما رأوه من بعيد قالوا «هوذا هذا صاحب الأحلام قادم. فالآن هلم نقتله». وكم كان قاسياً علي يوسف أن يعامل من إخوته بمثل هذه المعاملة القاسية؛ ينزعون عنه القميص الملون ويطرحونه في البئر ويبيعونه بعشرين من الفضة، ويرون ضيقة نفسه ولا يرحمونه. كان هذا مؤلماً على نفسية يوسف. لكن يوسف هو أولاً وأخيراً إنسان، مقرص من الطين نظيرنا. أما المسيح فليس كذلك، إنه ابن محبة الآب، وموضوع تعبد الملائكة. إنه «الصانع ملائكته رياحاً وخدامه لهيب نار» (عب1: 7). وهو لم يأت فقط ليفتقد بل ليفتدي. جاء ليساعد الإنسان ويخلصه. فماذا فعلوا به؟

أحياناً يقول الواحد منا: ماذا فعلت كي أعامل بمثل هذه المعاملة؟ وقد تكون الإجابة إنك لم تفعل شيئاً تستحق بسببه أن يفعلوا بك ما فعلوا. أما المسيح فليس كذلك، فهو ليس فقط لم يفعل ما يستحق من أجله المعاملة القاسية، بل عمل كل ما يستحق من أجله الإكرام والحب. قال مرة لليهود «أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي بسبب أي عمل منها ترجمونني» (يو10: 32). وقال عنه بطرس «الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه.. صلبوه معلقين إياه على خشبه» (أع10: 38). حقاً تمت فيه كلمات المزمور «بدل محبتي يخاصمونني .. وضعوا على شراً بدل خير وبغضاً بدل حبي» (مز 109: 4،5). فما أبشع قلب الإنسان الذي تعامل هكذا مع الذي جاء إليه ويده مملوءة بالخير والبركة.

يقول المسيح هنا في وصف آلامه:

«أحاطت بي ثيران كثيرة أقوياء باشان اكتنفتني، فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر» (ع12،13)

تشتهر منطقة باشان بخصوبة مراعيها، والبقرات بها سمينة وتنطح. وثيران باشان صورة لقادة الأمة اليهودية كما نفهم من قول عاموس النبي «اسمعي هذا القول يا بقرات باشان التي في جبل السامرة» (عا1:4). وهم في هذا صورة للقوة الجامحة والكبرياء المتمردة!

هذا عن قوتهم، أما عن سلوكهم فيقال إن الثيران عندما تشاهد أي جسم غريب فإنها تحيط به في دائرة، ثم تهجم عليه مع أول إثارة، وتعمل فيه نطحاً وتنكيلاً. هكذا كان رؤساء أمة اليهود. لقد أحاطوا بالمسيح لاسيما في المحاكمة طالبين صلبه، مفضلين عليه رجلاً قاتلاً. لقد «فغروا (عليه) أفواههم كأسد مفترس مزمجر».

سيتحدث الرب بعد ذلك عن الجند الرومان قائلاً «أحاطت بي كلاب»، وهناك فارق بين الكلاب والأسد، فالكلاب تمزق بأنيابها، أما الأسد فإنه يفترس. فقد يلذ للجنود الرومان قساة القلب أن يجلدوا الرب يسوع، أما قادة الأمة اليهود فلم يكن يكفيهم أقل من قتله. وهؤلاء الذين كانوا كالنعامة الجبانة أمام بطش الرومان استأسدوا على حمل الله الوديع!

ثم يقول المسيح «كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي» (ع14)

وعندما يقول المسيح «كالماء انسكبت» فهذه صورة لمنتهى الضعف؛ لأنه هل توجد صعوبة في سكب الماء؟ إن أضعف شخص بوسعه أن يفعل ذلك. وعندما ينسكب الماء يتبعثر إلى جهات شتى ويستحيل جمعه، كما أن سرعة الماء تزداد مع سقوطه، ولا توجد لديه أية إمكانية للتماسك، ولا لأن يرجع إلى وضعه الأول. وهذا كله صورة للضعف المتناهي.

لكن الماء المهراق ليس فقط صورة للضعف بل أيضاً لاستحالة جمعه من جديد. لقد أهرق وتبعثر وانتهى الأمر. قالت المرأة التقوعية لداود «لأنه لابد أن نموت ونكون كالماء المهراق على الأرض الذي لا يجمع أيضاً» (2صم14:14). هكذا ظن الأعداء أنهم تخلصوا من المسيح إلى الأبد، وأن أمره انتهى كالماء المهراق.

أليس عجيباً أن ذاك الذي اسمه دهن مهراق (نش1: 3)، من أجلي ومن أجلك صار كالماء المهراق !

ثم يستطرد المسيح فيقول «انفصلت كل عظامي» ما أشد الآلام التي نحس بها عندما تنخلع عظمة واحدة من مكانها. لكن المسيح لم تكن هناك عظمة واحدة في مكانها، وذلك من عملية الصلب القاسية. فما أعظم الآلام التي كان المسيح يعانيها.

ثم إن العظام هي التي تعطي الهيئة العامة للإنسان. وأن تنفصل العظام كلها يعني أن الجسد لم يصبح له أي شكل على الإطلاق!
 لقد قال عنه النبي «كان منظره كذا مفسداً أكثر من الرجل وصورته أكثر من بني آدم» (إش52: 14). فالوجه الجميل فسد، والهيئة العامة تلفت تماماً.

ثـم يقـول:

«صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي»

أسد سبط يهوذا ذاب قلبه في يوم حمو غضب الله (نا1: 7). فماذا سيفعل الخاطئ في ذلك اليوم العصيب؟ «لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف؟» (رؤ15:6-17).

يتحدث المرنم عن يوم ظهور الرب فيقول «ذابت الجبال مثل الشمع قدام الرب قدام سيد الأرض كلها» (مز5:97). وليس فقط الجبال ستذوب في ذلك اليوم، بل تفكر في مصير الخطاة الآثمين الذين رفضوا محبته والإيمان بصليبه. يقول الكتاب «لحمهم يذوب وهم واقفون على أقدامهم، وعيونهم تذوب في أوقابها، ولسانهم يذوب في فمهم». (زك12:14). أما في يوم الصليب العصيب فقد ذاب قلب المسيح في داخله.

فإذا أضفنا الشمع الذائب إلى الماء المهراق والعظام المنفصلة نحصل على ثلاثية تؤكد نفس الفكرة؛ عدم وجود هيئة ولا كيان محدد للمسيح، ليس خارجياً فقط، بل وداخلياً كـذلك.

يواصل المسيح وصف آلامه فيقول «يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني» (ع15).

مرة أخرى ذاك الكلي القدرة «هو.. شديد القوة. من تصلب عليه فسلم. المزحزح الجبال ولا تعلم، الذي يقلبها في غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها. الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم. الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحر، صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب، فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد» (أي9: 4-10) ها هو يقول يبست مثل شقفة قوتي!! مجرد شقفة يابسة، يسهل كسـرها!!

في مزمور 102 نسمعه كالمسكين الذي أعيا يقول «ضعَّف في الطريق قوتي، قصَّر أيامي»، فيجيبه الله «من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك». فذاك الذي تعلن السماوات والأرض قدرته السرمدية ولاهوته، كان في بستان جثسيماني مسكيناً أعيا، يصلى إلى إلهه. وهناك في البستان ظهر له ملاك من السماء ليقويه! وأما الآن وهو فوق الصليب فإنه يصرخ إلى إلهه، وهو بدون قوة على الإطلاق.

أما لسانه، فإنه من سعير النيران التي تحملها، فقد لصق بحنكه. وإننا مرة أخرى نتساءل؛ من هذا الذي نراه هنا بحنك يابس؟ إنه الذي كال بكفه المياه (إش40: 12)، الذي يروي أتلام الأرض وبالغيوث يحللها (مز65: 10). إنه المفجر عيوناً في الودية بين الجبال تجري، تسقي كل حيوان البر، تكسر الفراء ظمأها (مز104: 10،11). ولقد صار حنكه يابساً من هول ما احتمل من سعير رهيب. إن نار الله التي نزلت في أيام إيليا وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه (1مل18: 38)، هي التي احتملها بديلنا القدوس على الصليب. فهو خروف الفصح الحقيقي الذي لم يكن يطبخ بالماء بل يشوى بالنار (خر12: 8،9). وهذا هو فعل النار فيه. وهو إن كان أتى على كل نيران غضب الله وأمكنه أن يقول «قد أكمل»، لكن بعدها مباشرة أتت النهاية؛ حيث يقول «إلى تراب الموت تضعني»!

«لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني، ثقبوا يدي ورجلي» (ع16).

سبق في ع12 أن قال «أحاطت بي ثيران»، هذه تمثل قادة الأمة الإسرائيلية، أما في ع16 فيقول «أحاطت بي كلاب» وهؤلاء يمثلون الأمم (انظر متى 26:15). من أجل ذلك يقول بعدها مباشرة
«ثقبوا يدي ورجلي»، والذي فعل ذلك هم الجنود الرومان.

ولقد كان الصيادون يستخدمون الكلاب المدربة لتحيط بالفريسة التي يريدون الإيقاع بها. هذا ما فعله صياد البشر الأكبر (الشيطان) عند الصليب، إذ استخدم أعوانه الأشرار والقتلة نظيره. وإذا كانت الكلاب المدربة تمزق فرائسها بأنيابها، فإن هؤلاء مزقوا المسيح بسياطهم ومساميرهم وشـوكهم!

«ثقبوا يدي ورجلي»

ما أقسى عملية الصلب. فأن تثقب اليدان والرجلان، هذه المناطق الممتلئة بالأعصاب الحساسة، التي عندما تتهيج ينتج عنها آلام تفوق الوصف، يعبِّر عنها لا إرادياً تحرك كل عضلات الوجه، ناطقة بقسوة الألم وقد جاوز الحد.

هاتان اليدان اللتان لم تكلا مطلقاً من فعل الخير العميم وشفاء جرح المتعبين، والرجلان اللتان حملتاه عبر طرق العالم المتربة المتعبة وصولاً لكل بائس محتاج. ماذا فعل بهـا البشر؟

سمروها فوق الخشب؟! آه ما أقسى أيادي صنعت هذا العجـب!

الكنيسة لا تنسى مطلقا موت الصلب، ستظل كوصيته العزيزة عليها نصنع ذكراك في كل أول أسبوع في سر القربان المقدس، ونخبر بموتك إلى أن تجيء. ونحن نعرف أنك في عشية يوم القيامة ظهرت لتلاميذك وأريتهم يديك ورجليك (لو24: 39،40)، ولازلت ترينا نفس هذا المنظر الأثير. بل إننا عندما نصل إلى المجد سنراك كخروف قائم كأنك مذبوح، وهناك أيضا لن ننسى موت الصليب!

«أحصي كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ» (ع17).

والعبارة الأولى تدل على مقدار نحافته، فهو باللغة الدارجة "جلد على عظم"، ذاك الذي غيرة بيت الله أكلته والتهمته التهاماً.

أما العبارة الثانية فيعبر المسيح فيها عن آلام نفسه الحساسة عندما أطال الأشرار نظراتهم الوقحة لجسده الذي علق عارياً فوق الصليب. آه، لو عرفوا من هذا الذين يتفرسون فيه هكذا بلا خجل أو حياء، لو عرفوا أنه الذي تغطي الملائكة وجوهها أمام هيبته، لو عرفوا أنهم سيقفون يوماً أمامه ليدانوا، وفي ذلك اليوم الذي فيه سيجلس على العرش العظيم الأبيض ستهرب من وجهه السماوات والأرض! نعم، «لو عرفوا لما صلبوا رب المجد» (1كو2: 8)!

والنظرات إلى الصليب والمصلوب أنواع كثيرة في الكتاب؛ فهناك النظرة المحيية ( الحية النجاسية.عد21: 8، يو3: 14،15)، المخلصة ( التفتوا الي واخلصوا ياجميع اقاصي الارض .إش45: 22. لكن هذه النظرة المذكورة هنا نظرة مهلكة ستجلب على أصحابها أشد الويلات.نتذكر قديما أن أهل بيت شمس تجاسروا في جهل عدم الإيمان ونظروا إلى التابوت، تلك القطعة المقدسة في بيت الله التي ترمز وتشير إلى المسيح، فمات منهم الآلاف الكثيرة (1صم6: 19). لكن لما جاء رب المجد نفسه، في يوم ضعفه، فقد علقوه على الصليب، وأخذوا ينظرون ويتفرسون فيه.

لكن حمدا لله، فكما تنبت الزنبقة البيضاء الطاهرة وسط الأوحال، هكذا أيضاً بين نظرات الأشرار الوقحة في يوم الصلب، كان هناك فريق آخر له النظرة المقدسة، فيخبرنا لوقا أن جميع معارفه ونساء كن قد تبعنه من الجليل كانوا واقفين من بعيد ينظرون ذلك (لو23: 49). ونحن أيضاً مع هذا الفريق ننظر ونتفرس خلال اسبوع الالام، لكن ما أبعد الفارق بين نظرات ونظرات؛ نظرات الشماتة والجحود، ونظرات التعبد والسجود لهذا المصلوب                                                                                 

ثم يقول المسيح: «يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون» (ع18).

ولقد أشير إلى هذا العمل في كل البشائر (مت27: 35، مر15: 24، لو23: 34، يو19: 24). لقد قدر هؤلاء العسكر اللباس ولم يقدروا صاحبه. عرفوا قيمة الثوب غير المخيط، المنسوج من فوق إلى أسفل، ولم يعرفوا ما كان يصنعه المصلوب إذ كان ينسج للإنسان العاري ثوب بر إلهي بغير خياطة بشرية.

ويا للمفارقة الكبيرة بين آدم الذي جلب على نفسه وعلى نسله العري والعار، بل الهلاك والدمار، وبين آدم الأخير الذي لأجلنا تعرى كيما يكسو عرينا برداء البر الثمين، ويمتعنا بالحلة الأولى‍، كيما نسعد معه في بيت الآب إلى أبد الآبـدين.

ثم يختم المسيح كلامه في هذا القسم الأول بالقول:

«أما أنت يا رب فلا تبعد، يا قوتي أسرع إلى نصرتي. أنقذ من السيف نفسي، من يد الكلب وحيدتي، خلصني من فم الأسد، ومن قرون بقر الوحش استجب لي» (ع19-21).

ولقد سبق أن أشرنا إلى أن القسم الأول من المزمور (ع1-21) يصور لنا آلام المسيح الثلاثية المصدر؛ من الله والإنسان والشيطان. وها المسيح في ختام زفرات الألم يلخص تلك الآلام طالباً من الرب إلهه أن ينقذه من ثلاثة أمـور.

1 . «أنقذ من السيف نفسي»: إنه سيف العدل الإلهي؛ سيف لهيب النار الذي نقرأ عنه في تكوين3: 24، وزكريا 13: 7.

2 . «من يد الكلب وحيدتي» : هنا نرى شراسة الإنسان، لا سيما الأمم وعلى رأسهم بيلاطس البنطي الدي يمثل الامة الرومانية.

3 . «خلصني من فم الأسد» : بطش الشيطان، الذي هو كأسـد زائر.

من هذه الثلاثية القاسية طلب المسيح من إلهه الإنقاذ؛ أن ينقذ من عدالة الله، وقساوة الإنسان، وبطش الشيطان. فسمع له الله من أجل تقواه
( عب 5 / 7 – 7).