عيد ارتفاع الصليب المجيد في التقليد الكنسي

خاص بالموقع –

تحتفل كنيستنا بالصليب المقدس مرتين، الأولى في 17 توت الموافق 27 سبتمبر ويسمى عيد اكتشاف الصليب على يد الملكة هيلانة في القرن الرابع، والثاني في 19 مارس الموافق10 برمهات بتذكار عيد ارتفاع الصليب المجيد على يد الإمبراطور هيراكليوس وبدأ الاحتفال بهذا العيد في كل سنة منذ ذلك الوقت، وسبب ذلك أن في القرن السابع في عهد الإمبراطور هيراكليوس الذي استطاع أن يطرد الفرس من مصر، وفي ربيع 614 هم عائدون مرّوا على كنيسة القيامة بالقدس وأحرقوها وسرق أميرهم (خسرو الثاني) الصليب المقدس كرهينة فاهتزت أركان مملكة الروم لهذا الحدث، وذهب به إلى بلاد فارس، ودفنه في فناء قصره الملكي الكائن في مدينة هيرابوليس لكي يخفيه، وعندما سمع هيراكليوس بذلك ذهب بجيشه إلى بلاد فارس وهزم الفرس مرة أخرى، وذهب يبحث عن الصليب، وعلى حسب ما دونه التاريخ أن فتاة شابة أخبرت الإمبراطور هيراكليوس عن المكان الذي دفن فيه خسرو الثاني ملك الفرس الصليب المقدس إلى أن وجده، فحمله وسار به إلى مدينة ببرية حلب، ثمّ إلى حمص فدمشق، ومنها إلى طبرية فالقدس التي دخلها من الأرجح في 21 مارس 630، وبعد إنهاء الترميمات في كنيسة القيامة التي سببها هجوم الفرس هذا، عاد الصليب المقدس إلى موضعه في المكان الذي رُفع عليه لأول مرة على يد الملكة هيلانة، فارتدى الإمبراطور هيراكليوس الملابس الملوكية وتاجه وحلله العظيمة، وأراد أن يرفعه بنفسه كنوع من أنواع تكريم الصليب المقدس، فحدث أمر غريب أنه لم يستطع الدخول به إلى الكنيسة، لأنه شعر بثقل الصليب المقدس عليه، فتعجب جمهور الحاضرين من هذا المشهد العظيم، ومن بين الحاضرين انتبه زكريا بطريرك أورشليم للأمر والتفت إلى الإمبراطور قائلاً له: "يا صاحب الجلالة، إن السيد المسيح لما صعد هذا الجبل لم يكن لابساً ثياباً فاخرة مثلك بل ثياباً فقيرة وكان يحمل الصليب متألماً، وكان على رأسه إكليل الشوك، فيا جلالة الإمبراطور تجرد من ذلك. تأثر الإمبراطور بكلام البطريرك وخلع ثيابه الملكية وتاجه ولبس ثياباً اعتيادية كعامة الناس وحمل الصليب ومشى حافياً فاستطاع أن يدخل الكنيسة ويضع الصليب في مكانه. .(ومن هنا جاء التقليد الكنسي عند قراءة الإنجيل المقدس في القداس الإلهي يتجرد الأسقف أو البطريرك من تاجه)،  وبدأ الاحتفال بهذا العيد في كل سنة منذ ذلك الوقت، فأصبح يوجد عيدان للصليب المقدس في العالم كلّه وهما: 17 توت هو ذكري اكتشاف الصليب المقدس على يد القديسة هيلانة في القرن الرابع، والثاني عيد ارتفاع الصليب المجيد على يد الإمبراطور هيراكليوس في القرن السابع، وفي هذه الفترة كان الصوم الأربعيني فنذر مسيحيو أورشليم أن لا يأكلوا السمك في الصوم الأربعيني من أجل هذه النية، ولكن مسيحيو الإسكندرية قد نذروا أسبوعًا كصوم قبل الصوم الأربعيني ويدعي أسبوع هرقل، وبسبب حج الأقباط للأماكن المقدسة في أورشليم أخذوا عنهم امتناع أكل السمك في الصوم الأربعيني، وفي القرون الوسطي في زمن الصوم الأربعيني في الكنيسة القبطية أوشك السمك في الاندثار من مصر فأصد البطريرك منشورًا بعدم أكل السمك في الصوم الأربعيني تضامنًا مع الحالة الغذائية والاقتصادية في الديار المصرية، وحاليا يصوم الشعب القبطي الأسبوع المضاف لأسابيع الصوم الأربعيني، علاوة على الامتناع عن أكل السمك في هذا الصوم الأربعيني.  وكنيستنا تحتفل في 17 توت بعيد اكتشاف الصليب المقدس ويستمر هذا الاحتفال به لمدة ثلاثة أيام لأنه يجمع ثلاث حوادث مرتبطة مع بعضها: الأول في 16 توت ذكري تدشين كنيسة القيامة، والثاني في 17 توت ذكرى اكتشاف الصليب المقدس، والثالث في 18 توت ذكري ظهور الصليب المقدس في السماء للإمبراطور قسطنطين الكبير قبل البدء في الحرب ليشجعه.

أولاً:- معني الصليب:

في الحقيقة توجد كلمتان مستعملتان للتعبير عن آلة التعذيب التي نُفّذ بها حكم الموت على مخلّصنا يسوع المسيح: اكسيلونxylon   ومعناها خشبة أو شجرة؛ استاوروس stauros ومعناها الصليب. واكسيلون وردت في العهد الجديد عادة للتعبير عن الشجرة كمادة. وهي الكلمة التي وردت في سفر التثنية " فلا تَبِتْ جُثَّتُه على الشَّجَرَة، بل في ذلك اليَومِ تَدفِنُه، لأَنَّ المُعَلَّقَ لَعنَةٌ مِنَ الله، فلا تُنَجِّسْ أَرضَكَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّبَّ إِلهُكَ إِيَّاها ميراثًا " (تث21/23)، وهي التي اقتبسها بولس الرسول إِنَّ المسيحَ افتَدانا مِن لَعنَةِ الشَّريعة إِذ صارَ لَعنَةً لأَجْلِنا، فقَد وَرَدَ في الكِتاب: مَلْعونٌ مَن عُلِّقَ على الخَشَبَة" (غل 3/13). وفي تلك الحالات فإن كلمة اكسيلون في العهد الجديد هي مرادفة لكلمة استاوروس، التي استخدمت في الأناجيل أثناء حكم الموت على مخلصنا الصالح، وفي رسائل بولس الرسول للتعبير عن آلام وموت المسيح.

ويقول القديس بطرس الرسول في المجلس أمام رئيس الكهنة: "إِنَّ إِلهَ آبائِنا أَقامَ يسوعَ الَّذي قَتَلتُموه إِذ علَّقتُموه على خَشَبَة"(أع 5/30)، وأيضًا في بيت كرنيليوس يقول: ونَحنُ شُهودٌ على جَميعِ أَعمالِهِ في بِلادِ اليَهودِ وفي أورَشَليم. والَّذي قَتَلوه إِذ عَلَّقوه على خَشَبة" (أع10/39). ففي الحقيقة كلمة اكسيلون تقودنا للتفكير في شجرة الحياة الكائنة في وسط الجنة: " وأَنبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرضِ كُلَّ شَجَرَةٍ حَسَنَةِ المَنظَر وطَيِّبَةِ المأكَل وشَجَرَةَ الحَياةِ في وَسَطِ الجَنَّة وشَجَرَةَ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ " (تك2/9)، وهذه الشجرة لها مفهوم آخر إذ سطر القديس يوحنّا الإنجيلي في سفر الرؤيا: " مَن كانَ لَه أُذُنان، فلْيَسمَعْ ما يَقولُ الرُّوحُ للكَنائِس: الغالِب سأُطعِمُه مِن شَجَرةِ الحَياةِ الَّتي في فِردَوسِ الله" (رؤ2/7)، ويسطر يوحنا الرائي عن أورشليم الجديدة" وفي وَسَطِ السَّاحَةِ وبَينَ شُعبَتَيِ النَّهرِ شَجَرَةُ حَياةٍ تُثمِرُ اثنَتَي عَشرَةَ مَرَّة، في كُلِّ شَهرٍ تُعْطي ثَمَرَها، ووَرَقُ الشَّجَرَةِ لِشِفاءِ الأمَم" (22/2) والأبرار وحدهم لهم سلطان على هذه الشجرة: " طوبى لِلَّذينَ يَغسِلونَ حُلَلَهم لِيَنالوا السُّلْطانَ على شَجَرَةِ الحَياة ويَدخُلوا المَدينَةَ مِنَ الأَبْواب" (22/14).

 

ثانيًّا: الصليب في الكتاب المقدس:

على حسب نص الكتاب المقدس الطبعة البيروتية وردت كلمة "صليب" لأول مرة  في سفر حزقيال النبي: "أُقتُلوا الشَّيخَ والشَّابَّ والعَذراءَ والطِّفلَ والنساءَ حَتَّى الفَناء، ولكن كُلُّ مَن عَليه الصَّليبُ لا تَدْنوا مِنه. إِبتَدِئوا مِن مَقدِسي. فابتَدَأَوا مِنَ الرِّجالِ الشُّيوخِ الَّذينَ أَمامَ البَيت" (9/6). ثم توالت على صفحات العهد الجديد مرتين لدي بشارة القديس متى(27/40 و42)، ثلاث مرات لدي بشارة مرقس (15/ 30 و 32 و46)، وثلاث مرات لدي بشارة لوقا (23/ 26، 39، 53)، ومرتين لدي بشارة يوحنا(19/ 19 و31)، وست مرات في رسائل بولس الرسول( 1 كو 1/ 18، غل 5/ 11، أفسس 2/ 11، فيلبي 2/ 16، كولوسي 2/ 14، عب 12/2).  

 

ثالثًا: ظهور الصليب المقدّس:

على حسب ما سطّره يوسابيوس القيصري أبو التاريخ الكنسي أن الملك قسطنطين الكبير كان يحارب في مدينة روما، وفي سنة 312 انطلق الإمبراطور مكسانس وسأل الله النصر. وعند ظلمة أول الليل، ظهر فوق النجم الأول صليب من نور وعبارة: "بهذه العلامة تنتصر" فاستولى الدهش على قسطنطين وجنوده، ولكنهم لم يفهموا معنى ذلك. وفي الليل، ظهر المسيح للإمبراطور في الحلم مع العلامة نفسها، وأمره بأن يجعلها شعاره العسكري، وأن يحملها في معاركه فينال منها الحماية. وفي 27 أكتوبر312، انتصر قسطنطين على عدوّه ودخل روما ظافرًا. وأمر بأن يوضع الصليب في كلّ مكان، وتحته عبارة تذكر الرومانيين بأنهم تحرروا من نير الطغيان بهذه العلامة. ولمّا عَمَّ السلام في المسكونة كلّها، ينقل لنا التقليد الكنسي أن الملك قسطنطين اتفق مع والدته الملكة هيلانة، أن تذهب إلى الأراضي المقدسة، وتبني هناك كنائس لعبادة يسوع المسيح. وقد وهب الأموال الوفيرة لهذا العمل. وعندما وصلت إلى القدس، هدمت الهياكل الوثنية. ثم أخذت تسأل عن مكان صليب يسوع المسيح، وأين هو؟ فأرشدها مكاريوس أسقف أورشليم يومذاك، بمساعدة شيخ يهودي اسمه يهوذا، إلى مكان الصليب، وكان مكانه مقلب مزبلة هائلة، ويشهد بذلك المؤرخ الكنسي سقراط(380-450)  إذ يسطر: أنّ اليهود تعمدوا إخفاء معالم هذا المكان بعد أن كان يحج إليه مسيحيون كثيرون، فكانوا يلقون الأتربة والقاذورات حتى تكون فوقه ما يشبه الهضبة المرتفعة، وأقيم فوقها معبد للإله فينوس إمعانا في إخفاء مصدر إيمان وعزاء المسيحيين. وعلاوة على ذلك يسطر غريغوريوس أسقف لاطور(+594) أن الذي دلّ على مكان الصّليب هو يهوذا الذي سُميّ بعد المعمودية كرياكوس. وأيضًا يضيف المؤرخ الكنسي روفينوس(345-410): أن تمّ اكتشاف خشبة الصليب المقدس عن يد الملكة هيلانة في البطريرك مكاريوس الأورشليمي(313-334)   فأمرت الملكة هيلانة برفع  هذه المزبلة والأتربة، فوجدوا ثلاثة صلبان، ولوح الكتابة:« هذا ملك اليهود»وأدوات الصلب، فاحتار الرئيس والمرؤوس لا بل كل الحاضرين قائلين:« أيّ  خشبة لمخلصنا الصالح في الثلاثة صلبان» وفيما هم محتارون قدموا أشخاص يحملون ميتًا فقال مكاريوس بطريرك أورشليم:« لنضع جثة هذا الميت على أيّ صليب والصليب الذي يُقيم الميت هو صليب الرب يسوع!»، وبهذه الطريقة عُرفت خشبة الصليب المجيد!، فكان ذلك اليوم عيدًا، ويشهد بذلك الأحداث المؤرخ الكنسي سوزمين في إرهاصات القرن الخامس. وما زالت الكنيسة القبطية تُعيِّد في كل سنة بعيد ظهور صليب مخلصنا يسوع المسيح في يوم 17 توت. وعلى حسب ما سطرته الراهبة إيجيريا الأسبانية في القرن الرابع أثناء زيارتها للأراضي المقدسة في زمن أسبوع البسخة المقدسة قالت الآتي:« أن في الساعة الثامنة صباحًا كل مؤمن يلمس خشبة الصليب المقدّسة، لأنها نافعة للخلاص، وكانت تُوضع خشبة الصليب واللافتة المنقوش عليها: " هذا هو ملك اليهود" في صندوق فضيًّا مطليًّا من الذهب، ويوضع على منضدة لكي كل الحاضرين يأخذون منه البركة المقدسة، وخلفه أسقف مدينة أورشليم، وهو ممسك بأطراف الخشبة المقدسة، ومن حوله الشمامسة حارسين حراسة مشددة على الخشبة المقدسة، وسبب ذلك أن أحد الأشخاص وهو يأخذ البركة من الخشبة قطع قطعة من الخشبة وسرقها، فكان طقس البركة من الخشبة المقدسة أن المؤمن يحنى برأسه ويلمس الخشبة المقدسة واللافتة أولاً بجبهته، ثم بعينيه، ثم يُقبّل خشبة الصليب، ثم يجدون بجواره شمّاسًا ممسك بخاتم سليمان والقرن الذي كان يُمسح به الملوك فيُقبِّلون الخاتم والقرن، فكان الدخول من باب والخروج من باب آخر». وبدأ الآباء الكنسيون يشيرون في عظاتهم عن اكتشاف خشبة الصليب وفي مقدمتهم القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو (339-397) الذي ألقى هذه العظة في سنة 395، ويعتبر أول من ربط بين البحث عن الصليب وبين الملكة هيلانة، والقديس يوحنّا ذهبي الفم(347-407)، وبولينوس الأسقف من نولا بفرنسا(353-431)، كما أخذت نصيب الأسد في عظات الصليب المقدس القديس كيرلس الأورشليمي (315-386) عن اكتشاف خشبة الصليب، بالإضافة إلى ما سطر من المؤرخين سقراط(380-450)، وتيودوريت(393-458) والذي ذكر أن هيلانة وجدت في القبر المقدس المسامير التي سمرت بها يدا المخلّص ورجلاه وأرسلتهما إلى قسطنطين الذي ثبت مسمارًا منها على الخوذة الملكية التي كان يلبسها وهو خارج لخوض المعارك الحربية. وألغى قسطنطين الإعدام بالصلب، ولن يُعِده ملك آخر بعده.  وحاليًا خشبة الصليب في روما وذلك على حسب الخطابيين المحررين عام 599 من الطيب الذكر الحبر الروماني غريغوريوس الكبير(540-604)، الأول: إلى ريتشارد ملك أسبانيا، والثاني: للملكة ثيئودوليندا ملكة لمباردز. وقطعتان من خشب عود الصليب المقدس الذي صلب عليه يسوع المسيح، داخل ذخيرتين كبيرتين من الفضة، صنعهما آية في الإبداع  في بطريركية الإسكندرية للأقباط الكاثوليك بكوبري القبة بالقاهرة  أهداها الطيب الذكر الحبر الروماني بيوس السابع (1800-1823)  في15يوليولسنة 1807 للمعلم غالي سرجيوس فلثاؤوس، ثم أخذهم الطيب الذكر البطريرك الكاردينال الأنبا إسطفانوس الأول اللعازري من عائلته الكريمة ووضعهما في مقر البطريركية المذكورة.

 

رابعًا: الصليب ورشمه في فكر آباء الكنيسة:

1- القديس ترتليانوس (155-220):

"في جميع أعمالنا، حين ندخل أو نخرج، حين نلبس، أو نذهب إلى الحمّامات، أو نجلس إلى المائدة، أو نستلقي على السرير، أو نأخذ كرسيًّا أو مصباحًا، نرسم إشارة الصليب على جباهنا. لم تأمر الكتب المقدسة بممارسة هذه العادة، لكن التقليد يعلّمها، والعادة تثبتها، والإيمان يحفظها".

2- العلاّمة أوريجانوس لونيدس السكندري (185-245):

"إنها العلامة التي يصنعها المسيحيون على جباههم سواء قبل الصلاة أو قبل قراءة الأسفار المقدسة".

3- القديس أنطونيوس الكبير(251-356):

" إن الشياطين توجه هجماتها المنظورة إلى الجبناء. فارسموا أنفسكم بعلامة الصليب بشجاعة ودعوا هؤلاء يسخرون من ذواتهم. أما أنتم فتحصّنوا بعلامة الصليب".

4- القديس أثناسيوس الرسول( 279- 358):

"بعلامة الصليب يقف كل سحر، وكل عرافة تفقد قوتها… وكل شهوة باطلة تنصد، وعلامة الصليب تذكار الانتصار فوق الموت وفوق فساده"

5- القديس أفرام السرياني:( 306-373)

"بدلاً من أن تحمل سلاحًا أو شيئًا يحميك، احمل صليبك وأطبع صورته على أعضائك وقلبك، وارسم به ذاتك لا بتحريك اليد فقط بل ليكن برسم الذهن والفكر أيضًا. ارسمه في كل مناسبة: في دخولك وخروجك، في جلوسك وقيامك، في نومك وفي عملك، ارسمه باسم الآب والابن والروح القدس".

6- القديس كيرلس الأورشليمي (315-386):

"لا نخز إذًا أن نعترف بالمسيح مصلوبًا بل ليت إشارة الصليب تكون ختماً نصنعه بشجاعة بأصابعنا على جبهتنا، وعلى كل شيء، وعلى الخبز وعلى كأس الشرب،  وفى البيت، لا تحتقروا الختم من أجل مجانية العطية، بل بالحري كرّموا صاحب الفضل".

7- القديس باسيليوس الكبير(330- 379):

"تعلمنا من التقليد أن نرسم الصليب على جبهتنا وعلى سائر الأمكنة"

8- القديس أمبروسيوس (339 – 397):

 "نرسم الصليب على جبهتنا، ثم على قلبنا نرسمه على جبهتنا حتى نعترف علناً بالمسيح، وعلى قلبنا حتى نظل نحبه، ونرسمه على ذراعنا حتى يكون عملنا له"

9- القديس يوحنا ذهبيّ الفم(354-407):

"… والنظام الأصيل القديم المتبع في رشم الصليب كان بالإبهام على الجبهة فقط باليد اليمنى، وعلى أيّ موضع آخر إما مرة واحدة أو ثلاث مرات"

 

خامسًا: روحانية رشم الصليب في التقليد القبطي:

نستعمل أصابع اليد اليمنى، فنضعها على جبهتنا ونقول: « باسم الآب» وهذا إشارة إلى الله فوق كلّ شيء. ثُمّ نتجه لأسفل فنضعها على آخر الصدر، وأول البطن ونقول: «والابن»إشارة إلى نزول يسوع المسيح وتجسده في بطن أمُّنا مريم العذراء. ثم ننقلها من على الكتف الأيسر إلى الكتف الأيمن ونقول: «والروح القدس» وهذا يعني أن الله نقلنا من الظلمة إلى النور. وفي نهاية رشمنا للصليب نقول: « الإله الواحد آمين» وهذا يعنى إقرارًا منَّا بوحدانية الله في ثلاثة أقانيم، رغم أن هناك تقليد قديم يقول: قد أضيفت العبارة الأخيرة"الإله الواحد"، إلى إشارة الصليب في اللغة العربية لكي لا يظن المسلمون أن المسيحيين مشركون. واستقر رشم الصليب على الجبهة فالقلب فالكتف الشّمال ثم اليمين منذ القرن السادس تقريباً .ومن أبدع الشروحات في رشم علامة الصليب بهذا الشكل هو ما يذكره القس سمعان بن كليل في القرن الثاني عشر فيقول: «كل من يضع يده على جبهته إنما يلمس أول موضع رُشم به بدهن الموعوظين، وهو بذاته الذي رُشم عليه بدهن السماويين أيّ مسحة الميرون. والرأس هو الذي ينحدر من الآب ولذلك يحمل ختم البنوة والذي منه كل الأبناء ….. وإذا نقل يده اليمنى إلى أسفل يقول: والابن معترفاً بأنّه نزل إلى مياه المعمودية ، وصُلب مع ربنا له المجد. ثم يضع يده على كتفه الشمال معترفاً بأنه جحد الشيطان وكل قواته المرذولة، وفك العهد القديم معه بعدم السلوك في خطايا الأمم . ثم ينقل يده إلى الكتف الأيمن عندما يقول الروح القدس لأنه واقف منذ لحظه خروجه من جرن المعمودية عن يمين الآب ، بل هو جالس مع الرب عن يمين الآب كقول المزمور: «الرب عن يميني» ولذلك لا أتقلقل وكقول بولس: « أجلسنا معه في المواضع السماوية  أيّ البيعة المقدسة» وفي القرن الرابع عشر نجد أن العالم الكبير ابن كبر (+1324) يورد فصلا عن رشم الصليب بإصبع واحد يقول فيه: «أما الصليب بأصبع واحد فقد ورد في التوراة، أن الله تعالى أمر موسى عبده وبنيه أن ينضح بأصبعه من دم الذبائح التي يُصعدها الشعب قرباناً على قبة الزمان وأواني الخدمة وعلى الشعب تطهيراً لهم، ولم يقل له أن ينضح بإصبعيه».ثم أن سيدنا له المجد قال مخاطباً اليهود على ما شهد به إنجيل لوقا: فان كنت أنا اخرج الشياطين بأصبع الله فقد اقترب منكم ملكوت الله . ولم يقل بأصبعي الله. ويشير به إلى توحيد ذات الباري وتثليث الأقانيم، والى شخص يسوع المسيح في طبيعتين الإلهية والناسوتية وأن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين، وابتداءنا من اليسار إلى اليمين أيّ أنّه باعتمادنا بالثالوث المقدس الموحد، انتقلنا من حزب اليسار إلى حزب اليمين وقد ذكر مثل ذلك القديس كيرلس معلّم البيعة بقوله في قداسه: من مشارق الشمس إلى مغاربها، ومن الشمال إلى اليمين، ولم يقل من اليمين إلى الشمال. وعلى الجملة، فان قبط مصر أهل الخمس مدن والنوبة والحبشة …. لم يصلبوا ويرشموا إلا بإصبع واحدة، ونحن على هذه العادة جارون، وعلى هذه القاعدة مستمرون. ونختم هذا الجزء بالتنويه إلى أن "دق" إشارة الصليب التي يرسمها القبطي على معصم يده اليمنى – كعلامة لا تُمحى – هي رد فعل تمسكه بالصليب حتى الموت إزاء الاضطهاد الذي كان يلاقيه الأقباط، والذي بدأ باضطهاد الأقباط اضطهاداً شديداً ، ولكنهم ثبتوا أمامه ثباتاً مدهشاً. ولكي يعلنوا أن الاضطهاد لا يقوى على زعزعة إيمانهم، صاروا يرسمون إشارة الصليب المقدس على أيديهم. ومن ذلك الحين صارت هذه العادة مرعية حتى الآن.

 

سادسًا: عيد الصليب والمقريزي:

يسرد لنا أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزى (1365-1442)، في مؤلفه «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار » عن الاحتفالات بعيد الصليب، ويكتب الآتي: "ويُعمل في اليوم السابع عشر من شهر توت وهو من الأعياد المحدثة، وسببه ظهر الصليب – بزعمهم – على يد هيلانة أم قسطنطين. وله خبر طويل عندهم. ملخصه ما أنت تراه. وقد كان لعيد الصليب بمصر، موسم عظيم، يخرج الناس فيه إلى "بني وائل" (بيت لهو) بظاهر فسطاط مصر، ويتظاهرون في ذلك اليوم بالمنكرات من أنواع المحرمات، ويمر لهم فيه ما يتجاوز الحدّ، فلمّا قدمت الدولة الفاطمية إلى ديار مصر، وبنو القاهرة واستوطنوها، وكانت خلافة أمير المؤمنين العزيز بالله. أمر في رابع شهر رجب، في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وهو يوم الصليب، فمنع الناس من الخروج إلى "بني وائل" وضبط الطرق والدروب. ثمّ لمّا كان عيد الصليب في اليوم الرابع عشر من شهر رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة خرج الناس فيه إلى " بني وائل" وجروا على عادتهم في الاجتماع، واللّهو، وفي صفر سنة اثنتين وأربعمائة قرئ في سابعه سجلٌّ بالجامع العتيق وفي الطرقات، كُتب عن الحاكم بأمر الله. يشتمل على منع النصارى من الاجتماع على عمل عيد الصليب، وألاّ يظهروا بزينتهم فيه، ولا يقربوا كنائسهم، وأن يُمنعوا منها. ثم بطل ذلك لم يكد يعرف اليوم بديار مصر البتة."  

 

سابعًا: ذكصولوجية تقال في عيديّ الصليب يوميّ 17 توت و10 برمهات:

"نحن أيضًا معشر الشعوب أبناء المسيحيين. نسجد لصليب ربنا يسوع المسيح. بولس الرسول ينطق بكرامة الصليب قائلا: ليس لنا أن نفتخر إلا بصليب المسيح. أيها المؤمنون فلنسبح ربنا يسوع المسيح. ونسجد لصليبه الخشبة المقدسة غير المائتة. نفتخر بك أيها الصليب. الذي صُلب عليك يسوع لأنه من قبل مثالك صرنا أحرارا. أفواه المسيحيين والسبع طغمات الملائكية يفتخرون بك أيها الصليب الذي لمخلصنا الصالح. نحملك على أعناقنا أيها الصليب. ناصر المسيحيين بشجاعة ونصرخ جهارًا: السلام لك أيها الصليب: فرح المسيحيين الغالب ضد المعاند وثباتنا نحن معشر المؤمنين. السلام لك أيها الصليب: عزاء المؤمنين. وثبات الشهداء حتى أكملوا عذاباتهم. السلام لك أيها الصليب: سلاح الغلبة، السلام لك أيها الصليب: عرش الملك، السلام لك أيها الصليب: علامة الخلاص، السلام لك أيها الصليب: النور المشرق، السلام لك أيها الصليب: سيف الروح، السلام لك أيها الصليب ينبوع النعم، السلام لك أيها الصليب كنز الخيرات، السلام لك أيها الصليب: كمال الدهور.  قائلين السلام لك أيها الصليب الذي حمله الملك قسطنطين معه الحرب وقتل البربر. مكرمة جدا علامة الصليب الذي ليسوع المسيح الملك إلهنا الحقيقي. الذي صلب على الصليب حتى خلص جنسنا ونحن أيضًا فلنكرمه صارخين قائلين: الصليب هو سلاحنا، الصليب هو رجاؤنا، الصليب هد ثباتنا في ضيقاتنا وشدائنا. لأنه مبارك المسيح إلهنا وصليبه المحيي الذي صلب عليه حتى خلصنا من خطايانا. نسبحه ونمجده ونزيده علوا كصالح ومحب البشر ارحمنا كعظيم رحمتك".

 

ثامنًا: المصادر والمراجع:

 

1- أثناسيوس المقاري (القس)، «الزمن الطقسي بين عيدي النيروز والصليب »، الكنيسة مبناها ومعناها = الكنائس الشرقية وأوطانها= الجزء الثاني، الدرة الطقسية للكنيسة القبطية بين الكنائس الشرقية، مقدمات في طقوس الكنيسة= 1/4، القاهرة، 2009.

2- أثناسيوس المقاري (القس)، «الصليب في الكنيسة»، الكنيسة مبناها ومعناها = الكنائس الشرقية وأوطانها= الجزء الثاني، الدرة الطقسية للكنيسة القبطية بين الكنائس الشرقية، مقدمات في طقوس الكنيسة= 5/2، القاهرة، الطبعة الثانية، 2003.

3- أحمد حامد إبراهيم القضاة (الدكتور)، «نصارى القدس دراسة في ضوء الوثائق العثمانية»، سلسلة أطروحات الدكتوراه = 67، مركز دراسات الوحدة العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2006. 

4- «إيجريا يوميات رحلة»، نقلها إلى العربية الأب نعمة الله الحلو، الراهب اللبناني، ودقق فيها ونسّقها وعلّق عليها الأب جورج باليكي البولسيّ،  أقدم النصوص المسيحية، سلسلة النصوص الليتورجية = 5، منشورات مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت، 1994.

5- جورج حبيب بباوي، (الدكتور)، «معاني رشم الصليب في الحياة الروحية»، القاهرة، 1984.

6- عبد المجيد دياب(الدكتور)، « تاريخ الأقباط المعروف بالقول الإبريزي للعلامة المقريزي لتقي الدين المقريزي»، دار الفضيلة، القاهرة، 1988.

7- عزيز سوريال عطية، «تاريخ المسيحية الشرقية»، ترجمة : إسحاق عبيد، المجلس الأعلى للثقافة = 892، القاهرة، 2005.

8- فيكتور بشير(الشماس)، «أقدم مخطوطة تحوي طقوس أسبوع البصخة»، سلسلة دراسات في البسخة المقدسة =1، الإسكندرية، 2000.

9- متى المسكين(الأب)، «إشارة الصليب»، حياة الصلاة الأرثوذكسية، دير القديس أنبا مقار، برية شيهيت، القاهرة، الطبعة التاسعة، 2006.

10- متى المسكين(الأب)، «الصليب المقدس»، دراسات في التقليد الكنسي= الكتاب الثالث، دير القديس أنبا مقار، برية شيهيت، القاهرة، الطبعة السادسة، 2007.

11- مخطوط، نعمان القساطلي، «الروضة النعمانية في سياحة فلسطين وبعض البلدان الشامية»، نسخة من ميكروفيلم في مكتبة الجامعة الأردنية، تحت رقم 1506، قاعة المصغرات الفلمية، الجزء الثاني، ص92-93.

12- ميشيل يتيم (المطران)، إغناطيوس ديك (الأرشمندريت)، «تاريخ الكنيسة الشرقية وأهم أحداث الكنيسة الغربية»، معهد القدّيس بولس للفلسفة واللاهوت – حريصا، منشورات المكتبة البولسية، بيروت، الطبعة الثانية، 1991.

13- نص الكتاب المقدّس، الطبعة السادسة، دار المشرق، بيروت، 2000.

14- يوأنس (الأنبا)، «المسيحية والصليب»، القاهرة، 1985.

 

بنعمة الله

أخوكم الأب إسطفانوس دانيال جرجس

مراسل الموقع بإيبارشية سوهاج

خادم مذبح الله بالقطنة والأغانة – طما

stfanos2@yahoo.com