انفتاح الشخص البشري على الحب

بقلم روبير شعيب

روما، الجمعة 3 سبتمبر 2010 (Zenit.org).

لعل إحدى أسباب الرفض التي يلاقيها العرض المسيحي لله تنتج عن السهولة التي نتحدث فيها عن الله، بحيث أصبح مفهوم الله حفنة من المفاهيم البالية غير الاختبارية. لا بد للاهوت المسيحي أن يستعيد العنصر السلبي والصوفي في حديثه عن الله. هذا الإرث الذي يتجلى انطلاقًا من العهد القديم، بحيث لا يجوز التلفظ باسم الله الرباعي، وحيث يوقن المؤمنون بأنهم لا يستطيعون أن يروا الله دون أن يموتوا، وجل ما يستطيعون أن يروه هو، رمزيًا، الله من الخلف (راجع خر 33). أشعيا يتحدث عن الرب كإله خفي وغامض – Deus Absconditus – (راجع أش 45، 15). العلاقة بالله تفرض على المؤمن أن يعانق وجه الله الغامض والخفي هذا، وأن يرى إشعاعه في وجوده المخلوق على صورة الله. فرسالة بطرس الأولى تتحدث، بإزائية مع آية أشعيا عن "إنسان القلب الخفي" – absconditus cordis homo – (راجع 1 بط 3، 4). الإنسان، كما تبين لنا مختلف العلوم الإنسانية هو مثل أيسبرغ نرى منه فقط القمة، بينما يختفي أكثر من 90 % منه في المياه الداكنة. ولذا فالمسيرة اللاهوتية هي كما حدسها القديس أغسطينوس (Noverim me, noverim te) مسيرة اكتشاف لله واكتشاف للذات في الخبرة الصوفية حيث ينادي غمرنا غمر الله (Abyssus abyssum invocat)، والخبرة الدينية تتجسد في الجو الإلهي القائم بين هذين الغمرين.

معرفة الله لا يمكن أن تكون إلا صوفية، حيث يكون الكشف عن الله في الوقت عينه نوعًا من التستر والحياء.

هذا العنصر الصوفي نجده أيضًا في العهد الجديد الذي يصل إلى مستويات تتخطى العهد القديم. يظن البعض أن التصوف المسيحي نشأ في مرحلة لاحقة على الزمن الرسولي، مع القديس غريغوريوس النيصصي. فألبرت شفايتر (A. Schweiter) يعتبر أن التصوف البولسي هي فقط صوفية اسكاتولوجية (أخيرية)، إذ في هذا العالم نرى فقط كما في مرآة (راجع 1 كور 13، 12). بالطبع التصوف البولسي هو أخيري، يتوق إلى الاكتمال مع مجيء المسيح بالمجد، ولكن كما يشرح لويي بوييه: "هناك استباق حقيقي لحياة القيامة في الحياة الروحية التي تفتتحها المعمودية والتي يعتنقها الإيمان. وعليه، هناك تصوف بولسي آنيّ ويمكننا أن نسميه على حد سواء: تصوف الرح أو تصوف القيامة" (L. Bouyer,  La Spiritualité du Nouveau Testament et des Pères, Paris 1960, 98-9). فعندما يقول بولس في أعمال الرسل (17، 28): "فيه نعيش، نتحرك ونكون"، لا يعبر عن مجرد تصوف اسكاتولوجي للعالم الآتي، بل عن تصوف الحاضر. ويصرح رسول الأمم أيضًا: "لست أنا من أحيا بل المسيح حي فيّ، وهذه الحياة التي أعيشها في الجسد، أعيشها في إيمان ابن الله الذي أحبني ووهب ذاته لأجلي" (غل 2، 20): هذه الآية هي تعبير عن تصوف بات حاضرًا وليس مجرد انتظار لحالة مستقبلية. ففي المعمودية نحن نلبس المسيح في آنيتنا (راجع غل 3، 28).

إلى جانب اللاهوت البولسي، الذي يشكل باكورة كتابات العهد الجديد، لا يمكننا أن نغفل اللاهوت الصوفي المتين الذي نجده في الكتابات اليوحنوية. فكل حديث يوحنا عن الحقيقة-المسيح، وعلاقة المؤمن بهذه الحقيقة ما هي إلا تعبير عن كينونية وصيرورة صوفية للمسيح في الله-الحقيقة، وإقامة في وصاياه وحبه لعيش الوحدة الصوفية معه. جميع اللقاءات التي يعيشها يسوع في إنجيل يوحنا تحمل من يلتقي بيسوع إلى مستوى أعمق وأحقّ في العلاقة الدينية، مستوى الاتحاد بالله. الكتابات اليوحنوية لا تتضمن برنامجًا أخلاقيًا أو عقائديًا، بل لاهوتًا صوفيًا، وفي قلب هذا اللاهوت الصوفي نجد كل المكنونات العقائدية والأدبية (Cf  I. De La Potterie, La vérité dans saint Jean, II, 662-3).

فقط من خلال "كينونتنا في الحق" (ek tes aletheias einai)، وفي إقامتنا في الحق (menein)، وفي عبادة الله في الروح والحق (راجع يو 4، 23 – 24؛ 18، 37؛ 1 يو 2، 21؛ 3، 19)، نتلقى الدعوة لكي "نفعل الحق" و "نسير في الحق" (peripatein en te aletheia) وأن "نحب الإخوة في الحق" (راجع 2 يو 1 . 4؛ 3 يو 1. 3. 4).

الإيمان واللامعرفة: نظرة لاهوتية

إنطلاقًا من النظرة البيبلية السريعة التي قدمناها في المقطع السابق، يمكننا أن نستخلص أن التصوف ليس أمرًا مضافًا على المسيحية، بل هو جزء طبيعي من خبرة الإله المسيحي. لا بل إن الكاردينال هنري دو لوباك يشرح أن خبرة الله لا يمكن أن تكون إلا صوفية ويقول: "وحدها الخبرة المسيحية هي صوفية بالمعنى الحصري!" لأن التصوف (mystica) يرتبط بخبرة سر (Mysterium) حب الله الذي يكشف عن ذاته في يسوع المسيح، في الحب الذي يفرغ ذاته ويهب ذاته في تواضع الخليقة وصولاً إلى الموت، موت الصليب (راجع فيل 2، 8)، ويبلغ ملئه في القيامة التي هي انقطاع سردي في التاريخ البشري، لا يصفه أحد من الإنجيليين الأربعة كحدث يجري في تفاصيله، بل كواقع يتجلة بشكل غير مباشر من خلال الحجر المزال والقبر الفارغ. وعليه فالانفعالية البشرية هي واضحة في هذه الخبرة، وتشكل جزءًا متكاملاً مع فعل الله الذي يُقبل من خلال الإصغاء والعيش. التصوف في جوهره العميق هو عيش لاتحاد الحب مع الإله المثلث الأقانيم، اتحاد يتم في يسوع المسيح بفضل نعمة الروح القدس (H. De Lubac, Mistica e mistero cristiano, Milano 1979, 7-8). الخبرة الصوفية، والخبرة الروحية تأخذ معناها الكامل في المسيحية، إذ هي في العمق عمل أقنوم الروح القدس في الخليقة (Cf. T. Špidlík,  Manuale fondamentale di spiritualità, Casale Monferrato 1993, 12: “La vita spirituale è la vita nello Spirito e con lo Spirito Santo”. M.I. Rupnik, Nel fuoco del roveto ardente.  Iniziazione alla vita spirituale, Roma 20002, 37).

ننتقل الآن إلى التقليد الآبائي، وبشكل خاص إلى التقليد الشرقي الذي يقدم لاهوتًا سلبيًا متينًا وجذابًا. التراث الصوفي في هذا اللاهوت لا يشكل وجهًا من وجوهه أو خيارًا بين خيارات عدة، بل هو قلب اللاهوت العقائدي. اللاهوت والتصوف يتكاملان، ولا يمكن الفصل بينهما. يصرح اللاهوتي الأرثوذكسي فلاديمير لوسكي في هذا الصدد قائلاً: "إذا كانت الخبرة الصوفية تعني التجسيد الشخصي لمكنون الإيمان المشترك، اللاهوت هو بدوره تعبير، لأجل الخير المشترك، عما قد اختبره الفرد شخصيًا" (V. Loosky, La teologia mistica della Chiesa d’oriente, Bologna 1990, 4). من هذا المنطلق، يترتب على اللاهوت أن يستعيد العنصر الصوفي لحياة الإنسان أمام الله وفي مسيرته نحو وفي الله. فموضوعية اللاهوت تتطلب إشراك الفاعل اللاهوتي البشري، في دراماتيكية مسيرته نحو الفاعل الإلهي. الموضوعية، بالواقع، ليست مرادفًا للتجرد اللامبالي والبارد، بل هي وقوف صادق أمام الواقع الإلهي والجو الإلهي الذي يدخل فيه الإنسان من خلال الخبرة الروحية. اللاهوتي ليس متفرجًا، بل هو عنصر فاعل في عملية اللاهوت التي تصبو إلى قبول حب الله في الروح القدس الذي أفيض في قلوبنا (روم 5، 5)، هو – كما يشرح اللاهوتي الكندي برنارد لونرغان –  تَتَيُّم، وقيام-في-الحب، (being-in-love) (Cf. B. Lonergan, Method in Theology, op. cit., 105ss).

يحتل اللاهوت السلبي مكانه لأن موضوع اللاهوت يتسامى على الأوصاف والتحديدات، وعليه فاللاهوت الإيجابي-الظاهر (katafatica) يكتمل في قبوله لبعد اللاهوت السلبي-الخفي (apofatica). وقد حدس ذلك اللاهوتي الكبير هنري دو لوباك عندما صرح: "لا يمكن التفكير حقًا بالله، إذا لم نعترف به كإله متسامي، دون أن نرفع قلوبنا وأفكارنا إلى العلاء، فما من برهان يستطيع أن يتجاوز خبرة الله" (H. De Lubac, Sur les Chemins de Dieu, 183-4). البعد السلبي في الخبرة المسيحية ليس رفضًا للخبرة، فـ "النعم" يستمر في صلب "اللا"، كمقابل ضروري له، يوجهه، يحدده ويشكّله. البعد السلبي والنافي، ما هو بالواقع إلا ثمرة الفيض (excessus): تمامًا كما يحدث لنا عندما ننظر إلى الشمس فلا نرى إلا ظلمة بسبب فيض النور الذي يفوق طاقتنا على قبوله. بهذا الشكل تضحي الظلمة برهانًا قاطعًا على نقاوة وقوة النور.

السلبية والنفي في اللاهوت المسيحي ليست موقفًا مسبقًا مثل ذلك الذي نراه في قصيدة ألكساندر بوب (Alexander Pope) المعنونة مقالة في الإنسان، حيث يقول الشاعر: "اعرف نفسك، ولا تزعم معرفة الله، فموضوع درس البشرية هو ابن البشر". بوب يعتبر أن البحث بشأن الله ما هو إلا مضيعة للوقت، ما هو إلا سعي الفراشة إلى الطيران نحو القمر، وعليه ينصح بعدم ضياع الوقت في هذا البحث غير المجدي. نجد نفيًا مماثلاً، نفيًا هو موقف مسبق بدل أن يكون خبرة، في أديان وروحانيات الشرق الأقصى (الصين، الهند…). هذه الأديان تنطلق من فكرة النفي كقاعدة. أما اللاهوت المسيحي، فلا ينطلق من هذه الخبرة بل يمر بها ويصل إليها دامجًا إياها مع خبرة الله الإيجابية في جدلية لا تسجن الله لا في النفي ولا في التصريح. بكلمة، اللاهوت المسيحي يقبل بالتصريح الإيجابي في الله، ويبين من خلال الخبرة أن أكثر ما نعرفه عن الله هو بالواقع ليس وصفًا له بل وصفًا لما ليس الله، يقول أغسطينوس في هذا الصدد: "الله نعرفه أفضل من خلال ما لا نعرفه عنه" (Agostino, De ordine, II, 16; PL 32, 1015)، وتوما الأكويني يقول ما يماثل هذا: "عن الله لا يمكننا أن نعرف ما هو، بل ما ليس هو، وما هي الأشياء بالنسبة له" (Summa Contra Gentiles, 1, 30). وعليه فالنفي ليس واقعًا في الله، بل هو نتيجة لضعفنا فنور الله هو مشع لدرجة أننا نجدنا كعميان أمامه، هو – كما يسميه ديونيسيوس المنحول – "ظلمة نيرة".

الإيمان والمعرفة: نظرة صوفية

الظلمة النيرة التي تحدثنا عنها في الجزء السابق تنتج عن كون الله الكائن الشخصاني. فالله هو الكائن الخفي بامتياز، لأنه بامتياز الكائن الشخصاني، ذاك الذي يأخذ منه كل الأشخاص اسمهم" (H. De Lubac, Sur les Chemins de Dieu, 168). ومعرفة الله الحقة، هي رؤية في عدم الرؤية، لأنه، في حضرة كيان الله الشخصاني، "الجهل أكثر تقوى من المعرفة المتعجرفة"، كما يقول القديس أغسطينوس (magis pia est ignorantia, quam praesumpta scientia). فأب الكنيسة العظيم هذا، الذي طبع تفكيره اللاهوتي بخبرته الصوفية كان يقول: "إنما نحن نتحدث عن الله، فما العجب إذا لم تفهم؟ بل إذا فهمت، فما فهمته ليس الله" (Si enim comprehendis, non est Deus) (Agostino, Sermo 117, 3. 5). يقصد القديس بقوله أن الله يسمو دومًا على قدرة معرفتنا، وإذا ما ظننا أن إحدى أفكارنا هي الله، فنحن في ضلال، لأننا إنما جعلنا من فكرة بشرية فقيرة إلهًا ممجدًا.

نفهم في هذا الإطار لم كان ديونيسيوس الأريوباجي المنحول يتحدث عن الله كـ "هوية خفية" وكـ مجهول" (باليونانية: anonymia)، وحرفيًا دون اسم أو كلا شيء. الله ليس كائنًا لأنه يتسامى كل الكائنات. مايستر إيكارت (Meister Eckhart) يصف خبرة الله في الألمانية القديمة بـ " nihtes Niht " أي بـ "فراغ العدم"، والقديس يوحنا الصليب يستعمل تعبيرًا ممائلاً فيتحدث عن "الليل المظلم" (noche oscura).

جميع هذه المحاولات هدفها واحد، وهو تبيان طبيعة الإيمان في حضرة الإله المتسامي: المؤمن يعيش في الإيمان ما وراء المعرفة واللامعرفة، في إطار اتحاد الحب. وقد حدست الطوباوية أليصابات الثالوث الكرملية طابع الإيمان الخاص هذا بصورة جميلة، إذ كتبت يومًا: "الإيمان هو لقاء وجهًا لوجه في الظلمة" (La foi c’est la face à face dans les ténèbres).

هذا ونجد في أحد كبار فلاسفة القرن العشرين نوعًا من تردد فلسفي يقارب شعور الصوفيين؛ ففيتغينشتاين (Wittgenstien) يعبر عن تقديره للرمزية المسيحية، ويثور ضد محاولات حصرها وتحجيمها قائلاً: "في رمزية المسيحية روعة تفوق الوصف، وأشعر بالتقزز نحو من يسعة إلى تحويلها إلى بنية" (M. O’C. Drury, “Some notes on conversations with Wittgenstein”, in R. Rhees (ed.), Ludwig Wittgenstein. Personal recollections, Totowa – N.J. 1981, 101) وذلك لأن هناك أمور "لا يمكن تحديدها في كلمات. هذه الأمور تتجلى. إنها الوقائع الصوفية" (L. Wittgenstein, Tractatus Logico-Philosophicus, 6. 522).

بالعودة إذًا إلى المعرفة الصوفية، يمكننا أن نقول أنها معرفة حدسية لله، ولكن دومًا في نوع من الظلمة (in umbris). لأن الله هو ذاك الذي نجده في بحثنا عنه دومًا وفي متابعتنا دومًا لهذا البحث، وهو يبقى دومًا بطبيعته "المطلوب" ho Zetoumenos  كما يصفه القديس غريغوريوس النيصصي في عظاته في نشيد الأناشيد، أي ذاك الذي لا يمكننا أبدًا أن نتملكه، بل ذال الذي يتملك دومًا قلبنا من خلال جذبنا إليه في التوق.

مع إله يتجاوز قدرة الإنسان على الإدراك تتحول المفاهيم إلى فرص لحمل الله في كيان الإنسان، فيتم تجاوز المفهوم في حضور الله في المؤمن واتحاده بكيانه بطريقة تفوق الكلمة.

المعرفة الحقة هي أن يخلع المرء نعليه من قدميه وأن يسير بدهشة وانذهال نحو العليقة المشتعلة، لأن مصير كل كائن بشري هو أن يكون عليقة تقيم فيها نار الله (راجع خر 3، 1 – 6).

يقول النيصصي واصفًا خبرة اللاهوت الصوفي: "تتحول المعرفة إلى محبة واتحاد". معرفة الله الحقة هي اتحاد الحب معه لأن الله هو كائن شخصاني، ولذا معرفته تتم بالمعنى البيبلي، في تسامٍ يمر من خلال العقل ويسمو به. يجب على اللاهوت أن يتبنى دينامية الخروج إذا أراد أن يلتقي بالله الحي. فغاية الحياة المسيحية ما هي إلا الولوج في عناق الآب والابن الأبدي في الروح القدس.

إيمان الثقة

في قصيدة مؤثرة في اللغة المحكية في روما يكتب الشاعر تريلوسا عن "عجوز عمياء" فيقول:

"تلك العجوز العمياء، التي التقيتها في الليلة التي تهت فيها في الغابة

قالت لي: – إذا كنت لا تعرف الطريق،

أرافقك أنا، لأني أعرفها.

إذا كنت تملك الحول للسير معي.

من حين إلى آخر سأخاطبك

وصولاً إلى هناك، حيث يرتفع السرو

إلى العلاء، حيث ينتصب الصليب…

فأجابتها: فليكن… ولكني أعجب مِن أنّ مَن لا يرى

يريد أن يقودني…

عندها أمسكت العجوز بيدي وتنهدنت: امش!

كانت الإيمان!".

إذا كان ملء معرفةَ الله يكمن في الإيمان، وإذا كان ملء الإيمان هو الاتحاد بالله الذي لا يمكن معرفته وعيش الله في الشخص البشري والشخص البشري في الله (راجع يو 5، 56)، يضحي الإيمان إذًا أمرًا مستحيلاً إذا لم يكن الإنسان يستطيع أن يثق بالله ويستسلم له في "الليل المظلم المقدس". من ناحية أخرى، الاستسلام لله هو مستحيل من دون معرفة تعترف بمصداقية الله وبأمانته. لا يمكن الدخول في رقصة (pericoresi) الحياة الثالوثية إذا لم نسمح لله أن يدجننا! الإيمان بالله يتطلب بالضرورة الثقة بالله  والتتيم بالله. يقول الكاردينال دو لوباك: "الإيمان هو استسلام. لا يجب على المؤمن أن يثقل نفسه بالنظريات. إذا أراد أن يفكر بإيمانه فحسنًا يفعل، النظريات لا بد منها، بشرط أن تكون صلبة وأصيلة. ولكن فليحرص على ألا يبقى متعلقًا بها، كما ولو كانت من خيرات فكره. لا بد للإيمان من أن يشترك في امتياز المحبة: فالمحبة لا تسعى أبدًا إلى تملك موضوعها، أو إلى احتكاره؛ بل تغوص فيه" (H. De Lubac, Paradoxes, Paris 1999, 9-10).

لا يمكننا أن نغوص في الله إذا كنا لا نثق به، ولهذا لا بد للاهوت وللفكر المسيحي أن يسترجع بعد اللاهوت الصوفي والروحي الذي يركز على مصداقية وأمانة الله.

في القرن الماضي، قام الفيلسوف موريس بلوندل بانتقاد الاستعمال العقلاني والموضوعي جدًا الذي كانت تستعمل به كلمة "إيمان"، بحيث أضحى الإيمان مجرد إيمان معتقدات (foi-croyance) تعليمي وعقائدي، على حساب إيمان الثقة العاطفي والاتحادي (foi-confiance affective et unitive).

يقول الفيلسوف المسيحي: "إذا كان الإيمان يزيد معرفتنا، فهو لا يقوم بذلك في المقام الأول لأنه يعلمنا أمورًا جديدة، بل لأنه يجعلنا ندخل في حميمية حقيقية وعميقة مع الله، ويجعلنا نتحد بحياته، وينشئنا من خلال فكر محبّ على فكر الله وعلى حبه".

هذا لا يعني أن الإيمان يعارض المعرفة أو العقل، فالفيلسوف يتابع قائلاً: "الإيمان ليس عكس العقل أو انعدام العقل؛ هو لا يرفض المعرفة؛ ببساطة، الإيمان يرتكز على براهين هي ذات طبيعة خاصة، بحيث أنه بعد أن يراجع الإيمان البراهين والعقل يرتفع نحو فعل ثقة لا يجوز حصره في إطار فكر موضوعي. فنحن لا نستطيع أن نبرهن أنه يجب أن نُحبّ من خلال تقديم براهين الحب، فهذا أمر سخيف!" (M. Blondel, 1888-1913. La philosophie de l’action et la crise moderniste. Oeuvres complètes, II, Paris 1997, 582-3).

ما يقوله بلوندل يستبق ما سيقوله اللاهوتيون بعد عشرات السنين، في ما بينهم بيار أنجلو سيكويري (Sequeri) الذي يتحدث عن الفصل المأساوي بين فكر الإيمان (intellectus fidei) وعاطفة الإيمان (affectus fidei). اللاهوت الذي يتناسى القلب، لا يقوم فقط بعدم حفظ "أكبر الوصايا" (مت 22، 36 – 37): "أحبب الرب إلهك من كل قلبك، من كل نفسك ومن كل عقلك" (تث 10، 12)، بل يتوجه أيضًا إلى الإنسان ببشرى هي ليست بالحقيق بشرى سارة لأنها تبتر الإنسان ولا تفعل كل طاقاته، طالبة منه أن يقبل بعقله معطى إيمان (data)، بدل أن تشمل كل كيانه بقبول الله بالذات، جوهر البشرى الإنجيلية. يشدد سيكويري على أنه يترتب على اللاهوت العقائدي أن يعلن "البشرى السارة" المتمثلة بأن "الإيمان هو علاقة سعيدة مع الله (سعيدة حتى في وسط الصعاب)" (Cf. G. Ruggieri – P.A. Sequeri – G. Vattimo , Interrogazioni sul Cristianesimo. Cosa possiamo ancora attenderci dal vangelo?, Roma 2000, 69)، وإلا ما كانت تبشيرها قادرًا على الإجابة على سؤال المعنى الذي يطرحه الإنسان حول وجوده ووجود العالم. فالإنسان لا يطرح السؤال حول المعنى ما لم يحدس أن في صلب البحث هناك منبع للسعادة. ويشرح اللاهوتي الإيطالي أننا اليوم نعيش طلاقًا ليس بين الإيمان والعقل بقدر ما هو بين الإيمان والروحانية، أي بين اعتراف الإيمان الفكري وحياة العلاقة بالله (P.A. Sequeri, La qualità spirituale.  Esperienza della fede nel crocevia contemporaneo, Casale Monferrato 20012, 9).

الإيمان والعاطفة

إن الموضوع الذي تطرقنا إليه في القسم السابق، موضوع الإيمان والثقة يفتح الباب على موضوع العاطفة في الإيمان. للأسف، غالبًا ما تم تجاهل هذا البعد في علم اللاهوت باعتبار خطأً بعدًا طفوليًا وتعبيرًا عن عدم النضجو في الإيمان. وتم اعتبار الإيمان الناضج كإيمان الفكر القاسي والجاف. وقد ترك اللاهوتيون البعد العاطفي لدراسات وتحاليل العلوم الإنسانية الأخرى مثل الأنتروبولوجيا، علم النفس وعلم الاجتماع.

ولكن تجاهل هذا البعد يترك التحليل اللاهوتي منقوصًا لأنه يتجاهل بعدًا أساسيًا في الكائن البشري، بعدًا لا يمكن تجاهله دون دفع الثمن نظريًا وعمليًا. فكم من الأشخاص يشعرون بأن أحاديثنا الدينية مملة، نظرية وغير مهمة، بينما يصغون بحماسة واهتمام لمداخلات علماء النفس على الراديو والتلفزيون؟

لا يمكن فصل العاطفة عن الإيمان، تمامًا كما لا يمكن فصل العقل، أو فصل الحياة، أو فصل الأخلاق. الإيمان واقع يخص كل الإنسان ولا بد أن ننتبه إلى كل الإنسان في نقل البشرى السارة! الانتباه إلى الإنسان يعني الانتباه إلى حالته العاطفية، إلى خبراته الحاضرة والماضية. وهذا الأمر بشكل خاص في الإيمان المسيحي، انطلاقًا من معطيين: الأول هو البعد الموضوعي، بعد الوحي المسيحي. والثاني هو البعد الشخصي، بُعد المؤمن الفاعل.

علاوة على ذلك، إذا ما نظرنا إلى إله الكتاب المقدس، وإلى المقاربة الكتابية للإنسان، نرى أن الوحي الإلهي لا يستحيي ولا ينكر هذا البعد العاطفي في الله وفي الإنسان. اللاهوت الكتابي يتجرأ أن يصف الألوهة بـ "الغيرة"، "الحب"، "الرحمة"، "التأثر"… ولا بد لعلم اللاهوت أن يتعلم من جديد كيف ينقل هذه اللغة الكتابية في لغاتنا الحالية وبشكل نفهمها اليوم لاهوتيًا وحياتيًا. يجب على اللاهوت وعلى اللغة المسيحية أن تتحرر من صورة الله الأرسطوية التي تصور الله كمحرك لا يتحرك، وكعقل متسامٍ عن المشاعر. فهذا ليس إله الكتاب المقدس، هو فكرة اعتمدها فيلسوف لكي يسيّر نظرته الفلسفية (deus ex machina)، والتمسك بهذه الصورة وكأنها الصورة الأسمى لله يجعل منها صنمًا، كما سبق ورأينا عند آباء الكنيسة في قسم سابق. وقعت بعض البنى اللاهوتية، في محاولتها للحفاظ على تسامي الله، في فخ تحجير الله الحي وزجه في سجن وحشة قاتلة (Cf. J.-N. Bezançon, Dieu n’est pas solitaire.  La Trinité dans la vie des chrétiens, Paris 1999, 13).

يجب أن نطهر مفهومنا لله إنطلاقًا من عقيدة الثالوث الموحاة، التي لا يمكن للعقل البشري أن يبتكرها أو أن يحصرها (خلافًا لفكرة وحدانية الله التي يمكن للعقل أن يتوصل إليها من دون مساعدة النعمة والوحي).

الله أحد ولكنه ليس وحيدًا مستوحشًا. الله شركة حب، ولا بد لنا أن نعيد اكتشاف غنى عقيدة الثالوث الأقدس، التي تتخطى وحدانية وتسامي جوبيتر، وتفسح المجال لروعة الحياة الثالوثية التي يحوال اللاهوتي الروسي بافل فلورنسكي وصفها فيقول: "هي تأمل الذات في الآخر من خلال الثالث" (P. Florenskij, La colonna e il fondamento della verità, Milano 1974, 63). هذا الوصف يبين لنا أن الثالوث الأقدس هو في آن حياة، آخرية، وخروج من الذات (vie, alterité et exstase). كما وأنه لا بد من تجديد فهمنا للألوهة لكي نستطيع نظريًا أن نوقن إمكانية ومعنى التجسد: الكلمة الذي ينفتح على العدم فيضحي كلمة الخلق التي يتلفظ بها الآب في الروح القدس، خالقًا حريات (بشرية) قادرة أن تشارك في رقصة طوباوية الثالوث الأقدس، التي تنفتح في حميميتها على آخرية مخلوقة.

كيف يمكننا أن نفهم إلهًا كهذا إذا لم نر فيه توقًا؟ بالطبع، هذا التوق يختلف عن توقنا البشري، تمامًا كما يختلف فكر الله عن فكرنا، ولكنه موجود! توق الله هو تفجر حبه الذي نختبره في لحظات نتحرر فيها للحظات بفعل النعمة من عاطفتنا المستهلكة ونقوم بأفعال محبة مجانية لامشروطة.

إعادة إدخال العاطفة في فهم الإيمان هي أمر مهم أيضًا نظرًا للإنسان الذي يبني علاقته بالله ليس فقط انطلاقًا من العقل، بل أيضًا انطلاقًا من الحياة، الإرادة، الذاكرة، المخيلة والعواطف. ولقد أدرك دور العاطفة بشكل خاص القديس اغناطيوس دي لويولا الذي قدم فعل الروح القدس وفعل الشرير في حياة الإنسان تحت اسمين هما التعزية والاكتئاب. علمًا بأن كبار اللاهوتيين والصوفيين يرون تأثير الروح القدس الأكبر في خبرتنا العاطفية الروحية (. C.A. Bernard, Teologia affettiva, Cinisello Balsamo 1985, 9ss).

كل هذه الأمور تفرض علينا أن ننزل عن عرش لاهوت الرأس، نحو لاهوت القلب والحياة، فندمج اللاهوت العقائدي باللاهوت الرعوي. فاللاهوتي الحقيقي هو خادم يستهلك وجوده في الإصغاء إلى عطش الله (يو 19، 28) وعطش الإنسان (مز 41، 3؛ 62، 2) وأنين الخليقة (روم 8، 22) ويسعى إلى إيجاد آبار تفسح المجال للقاء الختني بين عطش الله وعطش الإنسان (راجع يو 4).

إيمان الثقة وحضور العاطفة هو أمر يشمل مختلف خبراتنا الحياتية. وقد بين ذلك عالم النفس أريك فروم في كتاب "فن الحب" (The art of loving). فأن نؤمن يعني أن نثق بمصداقية وأمانة الآخر. القيام بوثبة الثقة يتم فقط إذا ما شعر الإنسان بزخم نحو القيام بهذه الخطوة، وهنا يدخل البعد العاطفي. فالعاطفة تلعب دور الجاذب نحو الولوج في علاقة الثقة.

وحده الحب يستحق الإيمان والثقة

هناك آية في رسالة يوحنا الأولى نمر عليها عادة مرور الكرام، ولكنها جوهر مكنون إيماننا كمسيحيين. يتحدث الرسول عن موضوع إيماننا فيقول: "لقد عرفنا وآمنا بمحبة الله لنا" (1 يو 4، 16). هذه الآية هي إلى حد ما كنه عنوان كتاب اللاهوتي فون بالتازار "وحده الحب يستحق الإيمان" (Glaubhaft ist nur Liebe).

إن مصداقية الآخر وإمكانية الثقة به هما أمران يسيران سوية، ولكن خبرتنا الظواهرية تبين أن هناك نوع من أولية في مبادرة الآخر. فصورة (Gestalt) الآخر تسبقنا دومًا، وبمعزل عن مبادرته لا يستطيع توقنا أن يوجد، بل جل ما نعيشه هو شعور بعدم الرضى المكبوت، وكآبة وجودية غامضة وداكنة لا نتوصل إلى فهم أصلها ومعناها، لأننا بالحقيقة ننتظر ما يسميه بلوندل "المستحيل الضروري" (Impossible nécessaire) الذي لا نستطيع تصوره ما لم نلتق به في حياتنا لأن حقيقته هي نقطة جديدة في حياتنا لا يمكننا أن نسبق تصورها، بل ندركها فقط عندما نختبرها. يحدس توقنا الآخرَ دون أن يدرك كنهه، إلى أن يكشف الآخر عن حضوره بحد ذاته. وحدها مفاجئة حضور الآخر في أفقنا وحضوره الفعلي يوقظان في باطننا الإدراك الحسي لحاجتنا إليه، ويدفعاننا إلى الاعتراف بميلنا إلى الثقة.

لنا في هذا المجال مثال في علاقة الطفل بأمه. فالفعل الشخصاني الأول الذي يقوم به الإنسان – بحسب فون بالتازار – هو البسمة التي تعبر عن كيانه الشخصاني الذي يسمو الوجود النباتي والحيواني، وعليه يشبه اللاهوتي استيقاظنا إلى الثقة بالله وإلى دعوتنا الإلهية بـ "طفل يستيقظ على الوعي الذاتي في إصغائه للنداء الذي يوجهه إليه حب الأم. […] تأويل بسمة الأم وإخلاصها هو جواب الحب على الحب الذي تولده الأم بالذات لأن ‘الأنا‘ يتلقى النداء الذي يوجهه إليه ‘الأنت‘" (H.U. Von Balthasar, “Il movimento verso Dio” in Spiritus Creator, Brescia 1972, 13).

هذه الخبرة الظواهرية التي نعيشها في حياتنا البشرية لها مقابل في البعد اللاهوتي: فوجودنا يعكس بسمة الله التي تزرع في عدمنا رجاء الوجود وتدفعنا إلى ثقة الإيمان وإيمان الثقة. ولكن، عمليًا، هذا الأمر صعب – لا بل شبه مستحيل – إذا لم نسترجع قيمة "الجمال" في خطابنا اللاهوتي المتمحور عادة حول "الحقيقة" و "الخير" الأخلاقي. اختزال صورة الله في الأفق الأخلاقي يعقّم كيانه، ولا يولد فينا الاهتمام.

في اللاهوت كما في الوجود لا يمكن الفصل بين "الجمال"، "الحق" و "الخير"، عليه على كلامنا عن الله أن يبين "الجمال" في وجهيه: جمال الله، وجمال أن نكون مع الله. فون بالتازار هو من هذا الرأي إذ يقول: "في التاريخ لا يمكن أن يكون هناك لاهوت عظيم وخصب تاريخيًا إذا لم يتم الحبل به وولادته تحت نجوم الجمال والنعمة" (H.U. Von Balthasar, La Gloire et la croix. Les aspects esthétiques de la Révélation, I, Apparition, Alençon 1990, 12).

لم هذا؟ لأن الغاية من اللاهوت هي أن يرتد الإنسان إلى حب الله في يسوع المسيح، وهذا الأمر لا يمكن إن يتم إلا في ظل النعمة التي تفتح عيون الإيمان لرؤية جمال الحب، توق الإنسان الأعمق. اللقاء بالجمال يتميز ببعدين: الحدس والانجذاب، وهذان الأمران مرتبطان: فنحن لا نحدس حقًا إذا لم ننجذب، ولا ننجذب إلا بعد أن نحدس. أن نحدس صورة الله يعني أن ندرك حقيقتها في تألق بهائها.

ولكن ما هو جوهر جمال الله، هذا الجمال الذي قال فيه دوستويفسكي: "الجمال سيخلص العالم"؟

جمال الله يتجلى تاريخيًا في اللوغوس الذي ينحني ويفرغ ذاته ويبين عن نفسه أنه حب، وكونه حب هو مجد "كافود" وتألق. لو لم يكن اللوغوس المسيحي الحب المطلق اللامشروط واللامحدود لكان ترتب عليه "أن يقف منتظرًا دوره في صف التعاليم والحكم الدينية التي تكشف (فلسفيًا، غنوصيًا وأسطوريًا) عن كنوز الحكمة المطلقة، وتقود إلى اكتمال المعارف المشرذمة" (H.U. Von Balthasar, Solo l’amore è credibile, Roma 2002, 44). ولكن، بما أن المسيح-اللوغوس قد أحب "حتى النهاية" (راجع يو 13، 1) مفرغًا ذاته حتى الموت، موت الصليب، وبما أنه ظهر كالراعي "الجميل" (ho poimen ho kalos) الذي يقدم ذاته لأجل خرافه (راجع يو 10، 11)، فإن تقدمة ذاته تضع الإنسان أمام خيار ضروري: إما أن يقبل فيض هبة الحب أو أن يرفضها. اللوغوس الإلهي ليس مفهومًا يمكن ضمه إلى الآخرين، إنه حضور يتطلب حبًا أمينًا، وإلا كل المواقف الأخرى هي زنى روحي.

نظرة إلى الجمال اللاهوتي

يقوم حب الله في موضوعيه ككلية صادقة وموثوقة ليس فقط لأن حب الله في المسيح "يحب حتى النهاية"، بل لأنه أيضًا قادر على الانتصار على الأعداء الحقيقيين: الخطيئة والموت. فالمسيح يتجلى كـ "أجمل بني البشر، الذي تفيض النعمة على شفتيه (راجع مز 44، 3) ويشرح الكاردينال راتسنغر (بندكتس السادس عشر) هذه الآية بالقول: "النعمة التي تفيض على شفتي المسيح هي دليل على البهاء الداخلي في كلمته، وعلى مجد بشراه. وعليه لا ينال المجد فقط الجمال الخارجي لظهور الفادي، بل ما يجذبنا إليه هو جمال حقيقة الله التي تجرحنا بجرح الحب، وتشعل فينا توق الإيروس المقدس إلى اللقاء به، مع الكنيسة العروس، في جو الحب الذي يدعونا" (J. Ratzinger, “La bellezza, nostalgia di Dio” in Avvenire, 20 aprile 2005).

وعليه فجمال المسيح هو جمال لاهوتي  يبقى حتى في أصعب اللحظات حيث يزول كل بهاء خارجي، إذ يقول فيه أشعيا متنبئًا: "لا صورة ولا بهاء له حتى ننظره" (أش 53، 2)، وذلك لأنه في صلب آلامه، وفي غياب المقياس والتناغم، اللذين هما مقياس الجمال في الفلسفة الإغريقية والوسيطية، يبقى المسيح "أجمل بني البشر"، لا بل يعيد إلى الخليقة جمالها إذ يغسلها بجرحه من أدناس الأنانية والانغلاق على الله في أتون حبه وغفرانه، ولذا نحن ننظر إلى المسيح المصلوب، ننظر إلى الذي طعنّاه لأنه هو وحده عنده كلام الحياة الأبدية.

من يؤمن بالمسيح يدرك أن "جمال الحقيقة يقبل الإهانة، الألم، وأيضًا سر الموت الغامض؛ الحقيقة يمكن إيجادها فقط في قبول الألم، لا في تجاهله" (راتسنغر، المرجع نفسه). يبين لنا يسوع أن الحقيقة جميلة وصالحة لأن الحقيقة الكبرى هي حب الله "الذي يعرف أن يحول سر الموت الغامض في نور القيامة المشع. يتخطى بريق مجد الله كل أشكال الجمال الأرضية. الجمال الحقيقي هو حب الله الذي ظهر لنا بشكل نهائي في السر الفصحي" (بندكتس السادس عشر، إرشاد رسولي ‘سر المحبة‘، عدد 35).

هذا هو الجمال الذي سيخلص العالم، جمال حقيقي وملموس، لا جمال جمالي رومنطيقي مبتذل. المسيح هو الجمال في المسيحية لأنه في المسيح نجد ملء وحقيقة الوجود البشري. في نور بهائه، الذي يعانق الأمل، الصمت وظلمة الصليب، يجد سر الإنسان نورًا كافيًا (راجع فرح ورجاء، 22).

المسيح لم يقدم أجوبة على كل تساؤلات البشرية، ولم يقدم حلولاً لكل مشاكل العالم، المسيح قدم ذاته طريقًا، حقًا، وحياةً (راجع يو 14، 6).

يقوم المسيح في تغيير معالم ومقاييس الجمال الدنيوي، فجماله هو انفجار حب وقداسة ونور حياة في قلب الكره، الخطيئة وظلام الموت.

جمال الله الجذاب

على ضوء القسم السابق من هذه المقالة يمكننا أن نستخلص أن الجاذبية هي من صفات أمانة الله. إله المسيحيين لا يجيب فقط على تساؤلات المؤمنين العقلية، بل الوجودية. إن أغنية جوان أوزبورن (Joan Osborne)، شقيقة مغني الروك الشهير أوزي أوزبورن، التي تتساءل: "ماذا لو كان الله واحدًا منا، مجرد بزاقة عارية مثل كل منا، مجرد غريب يستقل الباص يبغي فقط أن يرجع إلى بيته!". المسيح أجاب على هذا السؤال: الكلمة صار بشرًا، وشاركنا حالتنا البشرية في كل شيء ما عدا الخطيئة، لأنه رغم كونه في صورة الله لم يحسب مساواته لله غنيمة، بل أفرغ ذاته آخذًا صورة عبد، وصار مشابهًا للبشر. وإذ ظهر ي صورة بشرية واضع نفسه حتى الموت، موت صليب العار، لأنه العمانوئيل، الله معنا…

هذا الحب المجنون يجذب إلى الثقة لأنه يقترب منا كغريب ويمشي إلى جنب من يسير مسيرة الحياة قاتم الوجه وحزين، متقوقعًا تحت ثقل اللامعنى الظاهري للحياة والموت، وتحت نير الغروب المتواصل للآمال البشرية. ولكن مع تساؤلات هذا المسافر الغريب ينفتح قلب الإنسان على توقعاته الأعمق ويستطيع أن يلاقي الأجوبة التي لم يكن يتوقعها والتي تجعل قلبه يتقد في داخله. ينجذب الإنسان في غمرة هذا اللقاء فيحمل نور المسيح إلى أعمق أعماقه، فيكتشف أن جوهر وجود المسيح هو هبة الذات الكلية، الحب اللامشروط، قوت الحياة ونداء الشهادة (راجع لوقا 24: إنجيل تلميذي عماوس).

الإيمان والأمانة يتولدان من العجب الذي تولده مفاجئة حب الله التي هي قمة الخبرة الدينية. هذه المفاجئة تذهب أبعد من كل قدرات الخيار: يبدو أن خيار الإيمان هو خيارنا، ولكن إيماني بالحقيقة ليس أمرًا آخر إلا الاعتراف بحب آخر يسبق حبي، وإيمان آخر يسبق إيماني. أنا أؤمن لأن الله آمن به مسبقًا.

جمال الله الذي يستحق الثقة والإيمان يتجلى في الكلمة –دَبَر- وأيضًا في كل قطرة قداسة وخروج من الذات في الحب. في قلب ثقافة وصفها بعض أنبياء العصر بـ "حضارة الموت"، حضارة – وصفها نيتشه بأنها "محت الأفق بالاسفنجة"، حضارة "موت الله"، وحده القديس يستطيع أن يشهد لواقع أسمى وشهادته هي ذاكرة خطيرة تردد صدى الله حتى في قلوب مشتتة ابتعدت عن أحلامها العميقة. يقول دو لوباك: "في سور سجن كثيف مظلم، يكفي ثقبًا يسيرًا في السور لنشهد أن هناك شمس. وهكذا أيضًا في هذا العالم، الذي هو الآن داكن وثقيل، يكفي لقاء سريع بقديس لكي يشهد الله" (H. De Lubac, Sur les Chemins de Dieu, 184).

طوبى مرتين لأنقياء القلوب لأنهم، أولاً، يرون الله (مت 5، 8) وثانيًا لأنهم يجعلون الله مرئيًا. القديسون يجعلون الله مرئيًا أكثر من البراهين العقلية لأن بنيتنا الأنثروبولوجية هي روائية، وتحتاج إلى الصور والسرد أكثر منه إلى المفاهيم والنظريات. هل تساءلنا يومًا لما تؤثر فينا الأفلام أكثر من المعادلات الحسابية؟

لنا مَثَل في هذا الأمر في سيرة أديت شتاين التي، خلال زيارة إلى بيت صديقها هدفيغ كونراد مارتيوس تجد كتاب سيرة القديس تريزا الأفيلية، تقرأها في ليلة واحدة وعند انتهائها من القراءة تقول: "هذه هي الحقيقة، لقد وجدتها". هذا الاكتشاف ليس اكتشاف متحمسة دينية، بل هي ما يقوله باكلي: "هي اعتلان الإلهي في صلب سيرة بشرية معقدة جدًا، وقدرة إنسان على تفسيرها كما يجب".

ولكن جمال المسيح، وجمال القديسين على السواء يبقى خجولاً، عاجزًا أمام حريتنا البشرية عندما ترفض أن تثق. ولذا، إذا سبق وقلنا أن وحده الحب يستحق الإيمان والثقة، يجب أن نضيف، أن وحده الحب، ووحده من يُحِب يستطيع أن يؤمن ويثق.

 

وحده الحب يؤمن ويثق

 

إن المسيح المصلوب على الجلجثة هو ذاته، ومع ذلك فقد عنى حدث صلبه أمورًا مختلفة للفريسيين، الكتبة، لقائد المائة، للص اليمين وللص اليسار، بلمجدلية، ليوحنا وبمريم. كان هناك استعداد مختلف في كل منهم، وهذا الأمر أعطى كلاً منهم خبرته الخاصة للحب الآتي من الصليب. فقائد المائة، انطلاقًا من استعداده سمع كلمة الله الأخيرة في حياته الأرضية وهتف: "كان هذا حقًا ابن الله". صورة المسيح المائت على الصليب، المتروك من الله والذي يسلم روحه في يدي الآب بحب يؤمن ويثق، يولّد في قائد المائة الإيمان. ثقة المسيح تتولد من حبه للآب وبدوره تغذي الحب، الحب الواثق الذي يفتح عيون إيمان قائد المائة.

الإيمان قبل كل شيء هو ثقة. هو وثبة يدفعنا إليها الزخم الحيوي الذي لا يكتفي بحفنة من الأمان ليعيش بل يريد أن يغور في عباب اللقاء. توق يحثنا على تخطي نقصنا لننفتح على  ملء الآخر.

المسيح هو الإنسان الذي لا نتجرأ أن نكون، ولكن في الوقت عينه هو كل ما يتوق إليه كياننا وكل ما نبغي تحقيقه. نتوق للنظر إلى الحب المصلوب والاعتراف بأننا نجد فيه معنى وجودنا، والفداء من الوحدة، الموت والخطيئة. اعتناق "حالة القلب" هذه، كما يصفها جون هنري نيومان، هو قبول توقنا شبه الغرائزي إلى الحياة والشركة. بكلمة أسهل، هو أن نقبل أن نحب.

يعتبر القديس أغسطينوس الحب كـ "غريزة القلب"، وهو يتضمن عيون ودوافع الإيمان. يقول القديس أغسطينوس: "من يحب يرى الحب، ومن يرى الحب يرى الله، لأننا نرى ما يشابهنا".

ويتابع القديس قائلاً: "من يؤمن بالمسيح يؤمن بطريقة أن يحبه. هذا هو معنى الإيمان بالمسيح: أن نحبه". وتعليقًا على الآية: "ما من أحد يأتي إلي إن لم يجتذبه الآب" (يو 6، 44) يقول أغسطينوس أن الحب هو القوة التي تجذب النفس لأنه كما أن للحواس متعتها، كذلك للقلب متعته، وهذه المتعة هي الحب. فقط إذا ما أحببنا نستطيع أن نؤمن، ونستطيع أن نفهم معنى الإيمان.

الإيروس هو دليل على حاجتنا إلى الآخر. أن نقبل الإيروس يعني أن نقبل بتواضع حالتنا: أننا مخلوقات بحاجة إلى الآخر لكي نكون حقًا. من لا يعانق ضعفه وحاجته أمام الله، ويقبل أنه محبوب تمامًا كما هو، رغم ضعفه وفقره لا يستطيع أن يستسلم لحب الله له، ولا يستطيع أن يحب الله حقًا، وإذ لا يحب الله لا يستطيع أن يؤمن به أو أن يثق به.

جميلة في هذا الصدد ونبوية الكلمات التي يضعها برنانوس على لسان خوري من الأرياف: "أن نكره ذواتنا هو أمر أسهل بكثير مما نتصور. النعمة الحقة هي أن ننسى ذواتنا. ولكن إذا ما مات كل كبرياء فينا، النعمة تكون أن نحب ذواتنا بتواضع، وكأننا نحب أيًا كان من أعضاء يسوع المسيح المتألمة". أن نحب ذواتنا تحت نظر الله يعني أننا توصلنا إلى أن نؤمن بكلمة الإنجيلي يوحنا القائل: "إذا ما وبخنا قلبنا، فالله أكبر من قلبنا" (1 يو 3، 21).

في فقرنا المطلق، وإلى جانب الديك الذي يستنكر نكراننا، هناك دومًا يسوع الذي ينظر إلينا نظرة حب تقيمنا من لجة الخطيئة والنكران. يختبر الإنسان الحب إذ يختبر أن الله يحبه أولاً (راجع 1 يو 4، 10)، وأنه يبرهن عن حبه لنا إذ "عندما كنا خطأة، مات المسيح لأجل الخطأة" (روم 5، 8). من يقبل حب الله المجنون هذا تتدفق في قلبه ينابيع العطش إلى الله، الذي جاء إلى آبارنا عطشانًا لكي يوقظ عطشنا إليه.

خاتمة

في ختام مقالتنا، التي بدت سلسة ومباشرة حينًا ومعقدة وغامضة أحيانًا، لا بد لنا من الإشارة بوضوح إلى الثمار التي رمنا حصدها من تحليلنا. لقد أردنا الحديث عن الحب كجوهر حقيقة الله، وفي الوقت عينه كمبدأ معارفي هو وحده يستطيع أن يدخلنا في إطار المعرفة اللاهوتية التي هي معرفة اتحادية. ففي الحب يتم الاتحاد والتعرف الوجودي (لا النظري فقط) على الله في الإيمان. في الاتحاد، يبلغ الحب والمعرفة كمالهما ويزول الجدار الذي يفصل العارف عن موضوع معرفته. تتضمن المعرفة نوعًا من الولادة سويًا (اللغة الفرنسية تعبّر عن هذا الأمر في أثيمولوجية كلمة "معرفة": con-naissance)، وذلك عبر الخروج من المعايير الفردية الخاصة للدخول في فرادة الآخر والتعرف عليها باطنيًا.

ولكن في كل هذه المسيرة، لم يكن هدفنا عزل العقل أو نفيه، بل جل مرادنا كان السعي إلى إدخال العقل في إطار الإنسان المتكامل، كجزء من عناصر المعرفة البشرية. ففي الإيمان إن لتشامخ عنصر ما أو نقصانه النتيجةُ عينها: الهرطقة (تعريف الهرطقة هو أن نجعل من الجزء كلاً على حساب الأجزاء الأخرى). الهرطقة هي خطيئة ضد الجمال، جريمة ضد التناغم، هي اختلال في التوازن وخلط مغلوط لألوان لوحة الإيمان.

الإيمان الحق هو إيمان يوصل الإنسان إلى توازن متكامل يلج الإنسان من خلاله في فعل الإيمان كإنسان، لا كعقل معزول، ولا كعاطفة جياشة وعمياء. هذا الإيمان هو عيش للوصية الأولى: "أحبب الرب إلهك من كل قلبك، كل قوتك، وكل عقلك".

يمكننا أن نقول أن الإيمان يعتنق الغريزة المنطقية، والغريزة الميتولوجية والميتالوجية (ما بعد المنطقية) للاقتراب من عتبة الله. ولكن، لا بد من القول أنه فقط من خلال "غريزة الروح القدس" كما يسميها القديس توما الأكويني، يتحول فعل الإيمان البشري إلى فضيلة لاهوتية. فقط بالروح القدس الذي أفيض في قلوبنا يضحي توقنا فعل حب إلهي (راجع روم 5، 5).

معرفة الله الحقة تقوم في الأمانة للحج الروحي المتواصل نحو أمانته لنا. هو دومًا البادئ. نحن نحب لأنه أحبنا أولاً، وجوهر إيماننا هو أننا "تعرفنا وآمنا بحب الله لنا" (راجع 1 يو 4، 16).

وعليه، إذ نشدد على أهمية اللاهوت الاجتماعي (المعروف أيضًا باسم اللاهوت المدني)، لا بد لنا من أن نشدد على أولوية اللاهوت الصوفي الذي لا يشكل حصة بعض الأنفس المختارة، بل هو كنز يعطيه الله مجانًا لكل المسيحيين. خلاصة المقالة هي هذه: غاية كل حياة مسيحية هو الاتحاد الصوفي بالله في الحب؛ وبحق قال اللاهوتي كارل رانر (Karl Rahner): "مسيحية الغد إما تكون صوفية وإما لن تكون". والصوفية الحقة ليست ظواهر فائقة الطبيعة، بل هي بساطة الحياة المسيحية المعاشة في محبة الله الفائقة. أليس هذا تعليم بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (فصل 13)؟ وألم يقل "الملفان المتصوف" يوحنا الصليب أننا في نهاية المطاف سندان على المحبة وحدها؟ ما هذا إلا انعكاس لتعليم يسوع: عندما سأله أحد معلّمي الشريعة :"ما هي أعظم وصيّة في الشريعة؟" أجابه يسوع:  "أحبّ الرب إلهك بكل قلبك، وبكل نفسك، وبكل عقلك. هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى. والوصيّة الثانية مثلها: أحبّ قريبك مثلما تحب نفسك. على هاتين الوصيّتين تقوم الشريعة كلها وتعاليم الأنبياء". (راجع مت 22، 35 –  40).

* * *

روبير شعيب، خريج جامعة الغريغوريانا الحبرية في اللاهوت الأساسي، يعلم الكريستولوجيا واللاهوت الأساسي في الكلية العليا للعلوم الدينية "ألبرتو تروكي" التابعة لجامعة اللاتران الحبرية في مدينة نيبي الإيطالية، ويعلم الكريستولوجيا في مدرسة الرسالة في موتشانو (إيطاليا)، وهو صحفي لوكالة زينيت العالمية.