المعنى الوافي للملابس الليتورجية حسب نظرة قداسة البابا بندكتس

 

الموضوع الاول:

الحلل الكهنوتية الليتورجية وفقاً للكاردينال جوزيف راتزينجر

( قداسة البابا بندكتس السادس عشر )

Les ornements liturgiques selon le cardinal Joseph Ratzinger

 

بقلم :جوان مانوئيل دي برادا [1]:

Juan Manuel de Prada

 

ترجمة المونسنيور بيوس قاشا

 

 

 كتبت جريدة اوسرفاتوري رومانو ( الرقيب الروماني ) في عددها المرقم 27 في الثامن من تموز عام 2008 وفي صحيفة 6،7،من الطبعة الفرنسية عن ماذا تعني الحلل الكهنوتية وما قيمتها الكنسية والباليوم بين الاستمرارية والتـــطور وماذا يعني قماش ابيض اللون وكل هذه المواضيع حسب نــظرة قداسة البابا بندكتس السادس عشر ولما لهذه المواضيع المختلفة من فائدة روحية وايمانية وهدف واحد عملتُ جاهدا على ترجمتها من أجل أن ندرك جميعا كم هو عظيم ارتداؤنا للحلل الكهنوتية في احتفالاتنا الكنسية في الليتورجية المقدسة وكم هو واجب علينا أن نعطيها كرامتهاكما يليق وكما يجب.إنها ثلاثة مواضيع ولا أكثر ، وسأخصص موضوعا مستقلاً لكل عنوان للفائدة الجزيلة .

 

منذ زمن قريب، كانت المجلة الأمريكية المعنونة "السيد المحترم" قد صنّفت في جدولها السنوي لجائزة الأفضل والأكثر أناقة من شخصيات العالم، واضعةً بندكتس السادس عشر على رأس القائمة، كونه باختياره لواحق زيّه الكهنوتي بأفضل طريقة خلق نوعاً من الحيرة المسلّية في عالم الأزياء. إن هذا الإختيار ذات الطابع الباطل في عصر يميل إلى ابتذال كلّ ما لايُفهَم، حدث في وقت كان الپاپا قد حرّك انتباه مصمّمي الأزياء بطريقة لا سابقة لها بعودته إلى بعض الأزياء الليتورجية ذات التقاليد الپاپوية القديمة مثل "الكامورو" الذي هو عبارة عن غطاء للرأس شتائي مصنوع من قطيفة حمراء ذات حاشية من جلد السمّور، أو "الساتورن" الذي هو عبارة عن برنيطة ذات حافات عريضة كانت تستعمل غالباً من قِبَل بعض أسلافه الپاپوات مثل يوحنا الثالث والعشرين.

في نفس هذه الحقبة، انتشرت شائعة بين الناس مفادها أن الأحذية الجلدية الحمراء التي يلبسها الپاپا عادة كانت من تصميم شركة "پرادا" ذات العلامة الميلانية الشهيرة "نسبة إلى مدينة ميلانو الإيطالية". بالطبع، كان حق الإمتياز هذا غير صحيح، إن التفاهة العلمانية المعاصرة لم تأخذ بنظر الإعتبار حتى أن اللون الأحمر إنما يعكس بكل وضوح رمز الشهادة، ولم تفهم أكثر من هذا أنّ هذه الشائعات كانت متناقضة مع الرجل البسيط والزاهد الذي في يوم انتخابه للسدّة الپاپوية أظهر للمؤمنين المتجمعين في ساحة القديس بطرس وللعالم أجمع أكمامَ قميص بسيط أسود. مع ذلك، وكما يحدث هذا غالباً، كانت هذه التفاهات الباطلة وغيرالمناسبة تُخفي في ذاتها نواةً بديعة من الحقيقة، أحياناً، في الحقيقة، حتى الجلبة والبلادة تنجح في إظهار حقائق كبيرة ولو بطريقة جزئية مبهمة ومشوَّهة. والحقيقة هي أن بندكتس السادس عشر يحمل، في الواقع، عناية عميقة بملبسه واهتماماً خاصاً ولكن من طبيعة مختلفة جداً.

إن القديس "ايرينوس" كان يقول في نهاية حياته تقريباً إنه لم يصنع شيئاً في حياته سوى ترك ما تمّ زرعه في نفسه من قِبَل "بوليكارپوس" تلميذ القديس يوحنا، ينمو وينضج. في حادثة تستحق الذكر من تاريخ سيرته الذاتية الوفيرة التي كتبها بنفسه، يكشف لنا جوزيف راتزنجر كيف أنه عندما كان طفلاً، تعلّم أن يعيش الليتورجيا بفضل البذرة التي غرسها في نفسه ذووه الذين قدّموا له كتاب القداس المترجم إلى اللغة الألمانية من قِبَل الراهب البندكتاني "انسلم سكوت". هذه الحادثة يمكن مقارنتها بالحادثة التي أوردها الروائي الفرنسي "بروست" في قصته بعنوان "المادلين" حيث يقول:"بالطبع، وأنا طفل، لم أكن أفهم جميع التفاصيل ولكن تدرجي في الليتورجيا كان امتداداً في النمو المستمر داخل حقيقة كبيرة تتعدّى الأفراد والسلالات، والتي كانت تصبح سبباً للدهشة ولإكتشافات جديدة".

هذا التصور إزاء الليتورجيا باعتبارها إرثاً موروثاً من التقليد الكنسي وقد أثرى بما أوتي إليه من الشراكات المتوالية التي تجعله ينمو بطريقة عضوية، مقاوماً لبعض الأوهام المعاصرة التي تنادي بمعرفة مجزّأة مفتقرة إلى الأسس والروابط المتينة، والسهلة التطابق مع الأوضاع الجامدة: هذه المعرفة التي هي في نهاية المطاف، "أصولية" في شكلها المسعور، وقد لوّثتْ بعض التوجهات الليتورجية، مفرغةً الطقوس الكنسية من معناها الحقيقي، كما لو أن التقليد الكنائسي ليس هو الصورة المثلى للأصالة في كونه يحقق لنا الإرتباط بالنبع الأصيل. إن البذرة التي غرسها ذوو هذا الطفل في نفسه، جاءت بعدئذٍ بثمرها في مؤلفاته اللاحقة كما في كتابه المعنون "الله والعالَم" حيث يسعى جوزيف راتزينجر إلى إظهار معنى التاريخية الليتورجية باعتبارها هبة المسيح للكنيسة، هذه الهبة التي تنمو مع الليتورجيا وتحثّ على ((اكتشافها باعتبارها خليقة حيّة)). ثم أهدى لهذه الخليقة مقدمة كتابه المعنون "روح الليتورجيا"، في هذا الكتاب، (استمراراً مع العنوان الكلاسيكي لغارديني)، ينادي جوزيف راتزينجر بفكرة التقليد غير السكوني، ((ولكن الذي لا يمكن بالتأكيد اختزاله إلى مجرد اختلاقية كيفية))، معمّقاً فكرته عن الليتورجيا باعتبارها مشاركةً في ملاقاة المسيح مع الآب ضمن شِركة الكنيسة الجامعة.

على غرار أستاذه "غارديني" يتمنى جوزيف راتزينجر أن يتم الإحتفال بالليتورجيا "بطريقة أكثر جوهرية". وهنا كلمة "جوهري" لا تعني (الفقر)، على الأقل بالمعنى الذي يتبناه بعض الأشخاص الذين أرادوا إمرار الحجم الإجتماعي قبل الإحتفالات الليتورجية، (هؤلاء الأشخاص الذين يجيبهم يسوع بوضوح في نص الأناجيل فيما يتعلّق بتطييب المسيح بدهن المجدلية في بيت عنيا)، إن كلمة (جوهري) تعني الضروري الخالص، والبحث عن الطهارة الداخلية التي لا يمكن تأويلها بأي شكل من الأشكال على أنها إفراط في التطهير الظاهري أو السكوني.

في اهتمامه بالليتورجيا، علينا أن نركّز خاصة على الأهمية التي يعزيها بندكتس السادس عشر للأشعرة الليتورجية ولاسيما للحلل الكهنوتية، هذه الأهمية التي لا تُخفى على أي شخص لم تُعمِه تماماً التفاهة الدنيوية الباطلة. الكاهن لا يختار حلّته الكهنوتية بدافع الغنج والجمالية، إنه يقوم بذلك من أجل أن يتّشح بالمسيح، "هذا الجمال القديم جداً والجديد جداً" الذي تكلم عنه القديس اغسطينوس، هذا الإتّشاح بالمسيح الذي يمثّل الفكرة المركزية في علم الإنسان البولسي، يتطلب تدرّجاً في التحوّل الباطني وتجديداً في صميم كيان الإنسان، يسمح له أن يكون مع المسيح عضواً في جسده. إن الحلل الليتورجية تمثّل (هذا الإتّشاح بالمسيح): الكاهن يسمو بجوهر كينونته ليصبح إنساناً آخر، والمؤمنون الذين يشاركون في الإحتفالات يتذكرون أن الطريق الذي ابتدأ في المعمودية وتغذّى بالأفخارستيا يقودنا إلى أخدار السماء حيث نصبح متّشحين بألبسة جديدة، مغسولة بدم الحمل. إن الحلل الليتورجية هي هكذا "الإتّشاح مسبقاً بالثوب الجديد، بجسد يسوع المسيح المنبعث من بين الأموات"، اتّشاح مسبق ورجاء لقيامتنا بالذات، تمثل المرحلة النهائية والمقر الدائم للوجود البشري.

الپاپا، بالتالي، لا يلبس الثياب على طريقة شركة "پرادا"، بل يتّشح بالمسيح. واهتماماته لا تخصّ الكماليات، بل الجوهر. هذا هو معنى الحلل الليتورجية التي يعيرها بندكتس السادس عشر اهتمامه الكبير لكي يجعل حقيقة الليتورجيا العميقة أكثر فهماً لدى أناس هذا العصر.

 

 


[1] Traduit de L’OSSERVATORE ROMANO N: 27 PAGE 6-7 DATE: 8 Juillet 2008