"المرأة الألمانية الوحيدة التي تدعى "الكبيرة"
حاضرة الفاتيكان، الخميس 07 أكتوبر 2010 (Zenit.org)
ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر يوم أمس خلال المقابلة العامة في ساحة القديس بطرس.
***
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إن القديسة جيرترود الكبيرة التي أرغب اليوم في التحدث إليكم عنها تأخذنا هذا الأسبوع أيضاً إلى دير هيلفتا حيث كونت بعض روائع الأدب الديني النسائي اللاتيني الألماني. إلى هذا العالم كانت تنتمي جيرترود التي كانت إحدى أشهر المتصوفات، المرأة الألمانية الوحيدة التي تدعى "الكبيرة" بسبب مكانتها الثقافية والإنجيلية. من خلال حياتها وفكرها، أثرت في الروحانية المسيحية بطريقة فريدة من نوعها. فكانت امرأة استثنائية ذا مواهب طبيعية هامة ومواهب نعمة رائعة، امرأة متحلية بتواضع عميق واندفاع متقد لإنقاذ القريب، وباتحاد كبير مع الله في التأمل والاستعداد لمساعدة المحتاجين.
في هيلفتا، تتشبه بصورة مطلقة بمعلمتها ماتيلد من هاكبورن التي تحدثت عنها في مقابلة الأربعاء الفائت. ربطتها علاقة بماتيلد من ماغدبيرغ وهي متصوفة أخرى من القرون الوسطى، ونمت تحت الرعاية الوالدية والكريمة والمتطلبة التي قدمتها رئيسة الدير جيرترود. من أخواتها الثلاث هؤلاء، اكتسبت كنوز التجربة والحكمة؛ ونمّتها في خلاصة خاصة، متبعة دربها الرهبانية بثقة غير محدودة بالرب. وهي تعبر عن غنى الروحانية ليس فقط في عالمها الرهباني، وإنما أيضاً وبخاصة في العالم البيبلي، الليتورجي، الآبائي والبندكتي، بطابع شخصي وفعالية كبيرة.
ولدت في السادس من يناير عام 1256، التاريخ المصادف فيه عيد الظهور لكن لا شيء يعرف عن والديها أو مكان ولادتها. كتبت جيرترود أن الرب نفسه أظهر لها معنى هذا الاجتثاث الأول. فقالت أن الرب قال: "اخترتها لمسكني لأنني مسرور بأن كل ما يسر فيها هو عملي. […] لذلك تحديداً، أبعدتها عن كل أنسبائها لكي لا يحبها أحد لأسباب صلة القرابة فأكون الحافز الأوحد للمحبة التي تحركها" (الرؤى، I، 16، سيينا، 1994، ص. 76-77).
سنة 1261، عندما كانت في الخامسة من عمرها، دخلت الدير لتلقي التنشئة والدراسة، كما كانت تجري العادة في تلك الحقبة. أمضت هناك حياتها كلها، وتشير هي بنفسها إلى أهم مراحلها. في مذكراتها، تذكر بأن الرب حفظها بصبر سخي ورحمة لامتناهية، وتكتب متناسية سنوات الطفولة والمراهقة والشباب: "في جهل ذهني مماثل، لتمكنت […] من دون أي ندم من التفكير أو قول أو فعل كل ما تمنيت فعله وحيثما تمنيت، لو لم تحفظني، إما برعب ملازم من الشر وميل فطري إلى الخير، وإما بيقظة الآخرين. لكنت تصرفت كوثنية […] وذلك على الرغم من أنك اخترت منذ طفولتي، منذ الخامسة من عمري أن أسكن في حرم الدين المبارك لأحظى بالتنشئة بين أكثر أصدقائك تفانياً" (المرجع عينه، II، 23، 140).
كانت جيرترود طالبة استثنائية؛ تعلمت كل مل يمكن تعلمه من علوم الفنون الثلاثة والفنون الأربعة؛ كانت مفتتنة بالمعرفة، وكرست نفسها للدراسة الدنيوية بحماسة ومثابرة، محققة نجاحات علمية فاقت كل التوقعات. إن كنا لا نعرف شيئاً عن أصلها، فهي تطلعنا على أهوائها الشبابية: الأدب، الموسيقى والغناء، وفن رسم المصغرات الذي كان يأسرها؛ كانت تتميز بشخصية قوية ومصممة وحاسمة ومندفعة، وكثيراً ما تقول أنها متهاونة؛ تعترف بعيوبها وتطلب بتواضع أن تُغفر لها. وبتواضع أيضاً، تطلب المشورة والصلوات من أجل اهتدائها. وقد لازمتها بعض مميزات مزاجها وعيوبها حتى النهاية، لدرجة أنها أدهشت بعض الناس الذين تساؤلوا كيف فضلها الرب كثيراً.
بعد أن كانت طالبة، انتقلت إلى تكريس ذاتها بالكامل لله في الحياة الرهبانية وخلال 20 عاماً لم يحصل أمر استثنائي، فكانت الدراسة والصلاة نشاطها الأساسي. بسبب مواهبها، تفوقت بين أخواتها؛ لأنها كانت مثابرة في تنمية معرفتها في مختلف المجالات. مع ذلك، وخلال زمن المجيء سنة 1280، بدأت تشعر بالاستياء من كل ذلك؛ وأدركت زهوها، وفي 27 يناير 1281، أي قبل أيام من عيد تطهر العذراء، وقرابة ساعة صلاة النوم، أنار الرب ظلامها الحالك. بطيبة وحنان، هدأ الاضطراب الذي كان يؤلمها، الاضطراب الذي اعتبرته جيرترود هبة من عند الله "لهدم برج الزهو والفضول الذي أشيده بكبرياء مع الأسف على الرغم من حمل اسم راهبة، وبالتالي لإيجاد الدرب لتدلني على خلاصك" (المرجع عينه، II، 1، ص. 87).
شاهدت في رؤيا شاباً يأخذها بيده ويرشدها لتخطي كومة الشوك التي كانت تحزن روحها. في تلك اليد، ميزت جيرترود "الآثار الثمينة لتلك الجراح التي أبطلت كل أعمال اتهام أعدائنا" (المرجع عينه، II، 1، ص. 89)، وميزت من خلصنا على الصليب بدمائه، أي يسوع.
منذ تلك اللحظة، تعززت حياة شركتها مع الرب، بخاصة في أهم الأزمنة الليتورجية – زمن المجيء، الميلاد، الصوم – الفصح، أعياد العذراء – حتى عندما منعها المرض من الانضمام لجوقة المرنمين. هذه هي الحيوية الليتورجية عينها لدى ماتيلد معلمتها التي تصفها جيرترود بصور ورموز ومصطلحات أكثر بساطة وواقعية وبالمزيد من الإشارات المباشرة إلى الكتاب المقدس والآباء والعالم البندكتي.
تدلنا سيرة حياتها على اتجاهين يمكننا أن نحدد من خلالهما اهتداءها: في دراستها، في الخطوة الجذرية من الدراسات الإنسانية الدنيوية إلى الدراسات اللاهوتية، وفي التقيد بالقانون الرهباني مع التحول من حياة تصفها كمهمِلة إلى حياة متسمة بالصلاة المكثفة والسرية وبحماسة تبشيرية استثنائية. إن الرب الذي اختارها من أحشاء أمها والذي سمح لها منذ طفولتها بالمشاركة في وليمة الحياة الرهبانية، دعاها مجدداً بنعمته "من الأمور الخارجية إلى الحياة الروحية، ومن الاهتمامات الدنيوية إلى محبة الأمور الروحية".
فهمت جيرترود أنها كانت بعيدة عنه، في منطقة الاختلاف، كما يقول القديس اغسطينوس: من تكريس ذاتها بتوق كبير للدراسات المتحررة وللحكمة البشرية، مع إهمال العلوم الروحية وحرمان نفسها من لذة الحكمة الحقيقية، تسير الآن إلى جبل التأمل حيث تسمح للإنسان القديم أن يلبس الجديد. "من عالمة بالنحو أصبحت عالمة باللاهوت، مع القراءة المتواصلة والدقيقة لكافة الكتب المقدسة التي استطاعت الحصول عليها، فملأت قلبها بأكثر جمل الكتاب المقدس إفادة وعذوبة. لهذا، لطالما كانت تحمل كلمة ملهمة أو منورة ترضي بها من كان يأتي إليها طالباً المشورة، والنصوص الكتابية الملائمة لتدحض الآراء الخاطئة وتسكت أخصامها" (المرجع عينه، I، 1، ص. 25).
حولت جيرترود كل هذا إلى رسالة: فكرست ذاتها لكتابة ونشر حقائق الإيمان بوضوح وبساطة، وعناية وإقناع، خادمة الكنيسة بمحبة وأمانة لدرجة أنها كانت مفيدة ومحبوبة لدى اللاهوتيين والأتقياء. من نشاطها هذا، بقي القليل بسبب الظروف التي أدت إلى تدمير دير هيلفتا. وإضافة إلى "بشير المحبة الإلهية" أو "الرؤى"، هناك "الممارسات الروحية" التي تعتبر جوهرة نادرة في الأدب الروحي الصوفي.
في الالتزام الديني، كانت قديستنا "ركيزة ثابتة […]، ومدافعة قوية عن العدالة والحقيقة"، حسبما يقول كاتب سيرة حياتها (المرجع عينه، I، 1، ص. 26). بكلماتها ومثالها، ألهبت حماسة كبيرة في الآخرين. وإلى الصلوات والأعمال التكفيرية الخاصة بالقانون الرهباني، أضافت أمور أخرى بتفان وبتسليم الذات بثقة إلى الله، حتى أيقظت في أنفس من التقوا بها إدراكاً بأنهم في حضور الله. وفي الواقع أن الله بنفسه جعلها تفهم أنه دعاها لتكون أداة نعمته. شعرت جيرترود بأنها لا تستحق هذا الكنز الإلهي العظيم؛ وتقر بأنها لم تحفظه وتقدره. فتهتف قائلة: "واأسفاه! لو كنت أعطيتني أنا غير المستحقة خيطاً من القطن كتذكار منك، لحفظه باحترام أكبر من احترامي لهذه المواهب خاصتك!" (المرجع عينه، II، 5، ص. 100). لكنها هي التي تدرك فقرها وعدم استحقاقها، تلتزم بمشيئة الله فتقول: "لم أستفد إلا قليلاً من نعمك فلا أستطيع أن أقرر الإيمان بأنها أعطيت لي لوحدي، إذ لا أحد يقدر أن يسبر غور حكمتك. يا مانح جميع الخيرات، الذي أعطيتني مجاناً هذه المواهب غير المستحقة، اجعل قلب واحد من أحبائك على الأقل يتأثر خلال قراءة هذا المؤلف بالتفكير بأن الحماسة للأنفس حثتك على ترك جوهرة نفيسة خلال وقت طويل وسط مستنقع قلبي البغيض" (الرمجع عينه، II، 5، ص. 100).
كانت جيرترود تحب حظوتين أكثر من غيرهما، فهي تكتب: "آثار جراحك المخلصة التي نقشتها فيّ كجواهر ثمينة في القلب، وجرح المحبة العميق والمخلص الذي وسمتني به. لقد غمرتني بفرح كبير بعطاياك هذه، ولو اضطررت للعيش ألف سنة من دون أي تعزية داخلية أو خارجية، فإن ذكرها سيكون كافياً ليعزيني وينيرني ويملأني بالامتنان. لقد أردت أيضاً أن تعرفني على الألفة النفيسة لصداقتك، فاتحاً لي بعلامات عديدة حرم ألوهيتك النبيل أي قلبك الإلهي […] إلى هذه المكاسب الكثيرة أضفت مكسباً آخراً عندما أعطيتني أمك مريم العذراء الكلية القداسة كمدافعة عني، وعهدت بي إلى محبتها، كما يعهد أكثر الأزواج إخلاصاً بزوجته الحبيبة إلى أمه" (المرجع عينه، II، 23، ص. 145).
وفي حضرة الشراكة الأزلية، أنهت حياتها الأرضية في 17 نوفمبر 1301 أو 1302، عن عمر يناهز الـ 46 عاماً. تكتب القديسة جيرترود في التأمل السابع المخصص للاستعداد للموت: " يا يسوع، أنت العزيز على قلبي، كن دائماً معي، لكي يبقى قلبي معك، ولينمو حبك في داخلي، وليكن انتقالي إليك مباركاً، لكيما تجد روحي الراحة فيك. آمين (رياضات روحية، ميلانو 2006). يبدو جلياً أن هذه الأمور ليست تاريخية من الماضي، بل إن حياة القديسة جيرترود تبقى مدرسة في الحياة المسيحية والطريق المستقيم، وتظهر لنا بأن محور الحياة السعيدة، الحياة الحقة، هي الصداقة مع يسوع الرب. وهذه الصداقة نتعلمها في محبة الكتاب المقدس، في محبة الليتورجيا، في الإيمان العميق، في محبة مريم، لنتعرف بواقعية أكبر على الله، السعادة الحقيقة، غاية حياتنا.
نقله الى العربية طوني عساف وغرة معيط – وكالة زينيت العالمية