مقابلة مع المطران إبراهيم مخايل إبراهيم أسقف الروم الملكيِّين الكاثوليك في كندا
حاوره روبير شعيب
الفاتيكان، الثلاثاء 26 أكتوبر 2010 (ZENIT.org).
الهجرة حلم بالنسبة للكثيرين، يجذبهم إليها طابع المجهول-المرغوب، والنزعة البشرية إلى رؤية العشب أكثر نضارة في جانب الطريق الآخر. ولكن الهجرة، وبشكل خاص هجرة المسيحيين من الشرق هي واقع معقد، جدي وخطير، يستلزم وقفة تأمل وتفكير، ليس فقط لكي لا يُفرغ الشرق من مسيحييه، ولكن أيضًا لكي لا يُفرَغ الشرقيون المتغربون من إيمانهم ولكي لا يهجروا حالة صعبة فيقعوا في أحضان حالة أصعب.
في هذه المقابلة مع المطران إبراهيم مخايل إبراهيم أسقف الروم الملكيِّين الكاثوليك في كندا نتطرق بشكل خاص إلى مداخلاته في شأن موضوع الهجرة وإلى اقتراحه في سبيل العمل الجدي لحل القضية الفلسطينية التي هي قنبلة موقوتة في قلب الشرق الأوسط ضحاياها الأوائل هم أجيال الفلسطينيين الذين يعيشون بعيدين عن أرضهم وحقوقهم.
* * *
في خطابكم في السينودس لمستم نقطة لم ينبه إليها غيركم وهي التالية: "إذا كان مسيحيّو الشرق يواجهون صعوبات للبقاء في العديد من بلدانهم، فإنّ الوافدين الشرقيّين إلى أبرشيّتي لا يواجهون صعوبات أقل منهم، لكن صعوباتهم مختلفة". ما هي الصعوبات الأساسية التي يواجهها المهاجرون المسيحيون في المهجر؟ وهل هناك الكثير من المؤمنين الذين يقعوا ضحايا "الهجرة الثانية" التي تحدثتهم عنها، أي هجرة هَجر الإيمان؟
من الممكن أن يبقى الإنسان في وطنه ويبقى متألمًا فيه عائشًا دون مستوى العيش الكريم الذي يعيشه الآخرون في بلاد أخرى. من الممكن أن يتألم من نقص مادي لا يسمح له بأن يؤسس بيت، أن يتزوج أن يُعلم أولاده ويحصل على كل المساعدة التي يستحقها لينال العيش الكريم. كل هذه الأشياء لا تبدو سهلة، لكن الهجرة تبقى أحيانًا كثيرة أصعب منها بكثير. فمن يهاجر قد يتعرض لهجرة ثانية هي أصعب وقد تكون نهائية. من يبقى في وطنه يحافظ على إيمانه بالرغم من كل الصعوبات ويعيش الشهادة التي يتطلبها هذا الإيمان خدمة للإنسان وإكرامًا ومجدًا لله. أما الإنسان الذي يختار الهجرة فإنه قد يتعرض للهجرة الثانية: الهجرة من الإيمان، والتاريخ والعادات ومن القيم التي تربى عليها في وطنه الأم والتي لن يجدها في البلد الجديد الذي اختاره.
أرى أن الهجرة الأولى صعبة ولكن الثانية أصعب. الأولى تقطع الإنسان من أرضه، تقتلعه وتخلق هوّة عظيمة بينه وبين الارض التي فيها ولد وترعرع وتربى. أما الهجرة الثانية فإنها هوّة تفصل بينه وبين إيمانه إذا ما تعرض للذوبان في الأكثرية المطلقة في البلد الجديد الذي اختاره.
يحافظ بعض المهاجرين، بمساعدة الكنيسة المهاجرة التي هي في خدمة المهاجرين، على إيمانهم حتى الممات ويحاولون بكل قواهم أن ينقلوا هذا الإيمان إلى أبنائهم من بعدهم ولكن هؤلاء لم ينجحوا دائمًا في نقل هذا الإيمان إلى أبنائهم وهم يتألمون لرؤية أبنائهم يبتعدون شيئًا فشيئًا عن الكنيسة، وعن الإيمان بالله ويضيعون في غياهب الإلحاد العملي الذي يسيطر على مجتمعهم الجديد.
هذا ما أردت أن أعبر عنه عندما قلت أن المهاجرين مصلوبون بين عالمين: عالم لا يستطيعون أن ينسوه، هو مزروع في أفكارهم وقلوبهم ويجري في عروقهم، والعالم الجديد الذي يدعوهم إلى الذوبان فيه حتى نكران الذات بالمعنى السلبي، أي نكران الاصل الذي إليه ينتمون. الهجرة ليست رحلة راحة.
إضافة إلى ذلك، هناك شكل جديد من أشكال الاضطهاد في الغرب ضد المسيحيين وضد الرموز المسيحية بشكل عام. ولذا من يهرب من اضطهاد ما قد يجد اضطهادًا من نوع آخر. من يهرب من التعددية سيجد تعددية أكبر، ومن يهرب من التعايش سيجد نفسه أمام ضرورة تعايش معقدة أكثر.
ما تقولونه صحيح ولكن ليس دائمًا فهناك مسيحيون هاجروا ولم يحافظوا فقط على إيمانهم، بل تقووا أيضًا في الإيمان لدى رؤيتهم الاستهتار السائد حولهم. إضافة إلى ذلك، فالتاريخ البيبلي بالذات يُدخل الهجرة في حياة آباء إيماننا: هجرة إبراهيم، هجرة يعقوب، هجرة موسى وشعب إسرائيل، هجرة المسيحيين الأوائل…
هذا صحيح ولكن وضعنا الحالي يختلف عن التاريخ البيبلي، حيث حافظ المؤمنون على إيمانهم ونشروه في عوالمهم الجديدة. نحن نعيش في عصر مختلف في كل الاتجاهات. والصراع بين الدين والعلمنة أقوى بكثير من الصراع الماضي، فالعلمنة تتسلح بوسائل الإعلام الحديثة وتخترق الإنسان وقلبه وتهجره من تقاليده وإيمانه وعوائده، بحيث أن المعركة ضد المجتمع الجديد أحيانًا تكون خاسرة.
تلتقون في تصريحكم بأن "الهجرة المبرّرة هي حقٌّ لا يمكن أن يُنتهك حسب مبادىء احترام حرّيّة الشخص البشريّ وكرامته: المبادىء التي تدافع عنها الكنيسة بثبات" مع الدكتور الأب سمير خليل الذي صرح في مقابلة أجريناها معه الأسبوع الماضي أنه لا يحق لأحد أن يقرر عما إذا كان على العائلات أن تبقى أو أن تهاجر. ولكنه يميّز بين خيار إيجابي للفرد وخيار سلبي للجماعة والكنيسة بشكل عام. ما رأيكم؟
الخيار الإيجابي أو السلبي هو هذا الخيار الحر الذي نتكلم عنه. الحكم على سلبيته أو إيجابيته لا يعني أن صاحبه صار مجردًا من اختياره. هكذا نعود إلى موضوع الحرية الذي منه انطلقنا، والذي قلنا فيه أن قرار الهجرة متعلق بحرية الشخص وبكرامته. فإذا كانت حياة الشخص في بلده الأم تحرمه من العيش الكريم ومن حريته فلأنه من دون شك يستطيع أن يختار خيارًا آخر. الحكم على هذا الخيار قد يتنوع ولكن الحكم الأهم هو حكم الشخص ذاته الذي اختاره. نحن لا نشجع الهجرة على الإطلاق ونتمنى أن يبقى كل في أرضه، ولكن علينا أن نتنبه بأن تاريخ البشر هو تاريخ الهجرة. إذا كانت الهجرة عيب لأن الإنسان قد هرب من خطر ما بدل أن يستشهد في أرضه فإننا بذلك نوجه الشكوك للعائلة المقدسة التي هاجرت إلى مصر للحفاظ على حياة ابن الله المتجسد وهنا ربما علينا أن نذكر أنه إذا أردنا أن نحافظ على المسيحيين في أرضهم لا بد علينا أن نؤمّن لهم أسباب العيش الحر، الكريم والآمن وهذا ما سعت إليه العائلة للمقدسة لدى عودتها إلى أرضها.
لذا فإننا نشجع العودة، ولكننا قبل التشجيع على العودة نشجع القيمين على بلادنا في الشرق بأن يؤمّنوا السلام العادل والشامل والعيش الكريم الذي يجذب المهاجرين إلى العودة إلى الأرض التي يحبونها.
في رسالتكم بمناسبة عيد الفصح المجيد صرحتم: "إنَّ فرح القيامة لا يكتمل إلاَّ إذا عشناه مع الآخر الذي شاركه المسيح قيامته المجيدة أيضًا. فكيف أستطيع أنا إذًا أن أعيش القيامة وفرح القيامة إذا كنت منقسمًا على أخي الذي من أجله مات المسيح وقام؟". كان للكلام عن البعد المسكوني حيّز هام في أداة العمل وفي تقرير ما بعد المناقشة. ماذا سيفعل الكاثوليك عمليًا لتدعيم العمل المسكوني لكي يتم توق المسيح إلى أن يكونوا جميعهم واحدًا؟
لقد عبّر كثيرون من آباء السينودس عن رغبتهم العميقة في تنمية ليس فقط العمل المسكوني بل الحصول على نتائج من هذا العمل بأسرع وقت ممكن وشددوا على ضرورة البدء بالجهود التي ترمي إلى توحيد عيد الفصح بين سائر المسيحيين. هذه رغبة آباء السينودس، ولكنها لا تعكس رغبة كل المسيحيين من كل الطوائف. ربما هناك عقبات أخرى وعوائق أخرى ما زالت تقف في الطريق. أتمنى أن يكون تفكير كل الكنائس متطابقًا فإذا كان هذا هو الحال، فعيد الفصح سيتوحد في أسرع وقت ممكن. ربما العوائق قد تتعلق بهوية كل كنيسة، او بقناعتها الروحية المتعلقة بتاريخ هذه الكنيسة والأسس التي عليها تم اختيار التاريخ الذي يعيدون فيه عيد الفصح.
هل توحيد عيد الفصح هو وحدة االكنيسة؟ لا، هي خطوة مهمة ولكنها ليست الوحيدة. ولكننا مصرون على أن هذه الخطوة ضرورية جدًا ونتمنى أن تخطو سائر الكنائس خطوة مصيرية في سبيل تنفيذ هذه الوحدة. العمل المسكوني والنتائج المرجوة منه تتعرض لعوائق من نوع آخر وهي التركيبة الهرمية لمعظم هذه الكنائس والتدبير الكنسي.
إذا كان الكهنوت النسائي عائقًا أمام الوحدة بين روما والكنائس الأنغليكانية. ألا تظنون أن الكهنة المتزوج سيقدم زخمًا، ليس فقط رسوليًا، بل أيضًا كنسيًا، إذ يسمح للكنائس الشرقية أن تعيش تقاليدها في الغرب، إلى جانب المنافع المسكونية في العلاقات بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية؟
هناك تدبير قديم يعود ربما إلى حوالي مائة عام أقرّت فيه الكنيسة الرومانية عدم السماح للكهنة المتزوجين بالعمل في الغرب لأسباب كثيرة ربما أحدها هو عدم خلق الشك للكهنة اللاتين في الغرب. على مر السنين حاول الشرقيون أن يقنعوا الدوائر الرومانية بتغيير هذا التدبير. لكن هذا التدبير لا يتعلق فقط بالدوائر الرومانية، بل بالكثير من الأساقفة في الغرب، وقد حاول الشرقيون أن يغيّروا هذه الحال أو أن يتخطوها وقد بدأوا بالسماح شيئًا فشيئًا لكهنة متزوجين للعمل في أبرشياتهم وفي رعاياهم حتى قام البعض في ما بعد بسيامة كهنة متزوجين للخدمة الرعوية وازداد شيئًا فشيئًا عدد الكهنة المتزوجين في الغرب. اليوم يُطرح هذا الموضوع من جديد، وقد طُرح في السينودس كمطلب بنوي أمام قداسة البابا ليعيد النظر في هذا القرار الذي منع الكهنة المتزوجين من العمل في الغرب. في الوقت الحاضر أصبحنا قادرين على سيامة كهنة متزوجين في الغرب بعد الحصول على سماح خاص من الكرسي الرسولي. لكننا طبعًا نرغب في أن نرى هذه السيامة للمتزوجين حرة بالتمام من أية قيود، لأننا بذلك نعيش تقليدنا في الشرق وفي الغرب على حد سواء. فالكهنة المتزوجون على مر الأجيال شاركوا في تقديس الكنيسة وذواتهم والآخرين. واليوم مع صعوبة وجود الدعوات الكافية للقيام بالخدمات الملحة والمتزايدة في الكنيسة نجد أنفسنا مدفوعين إلى زيادة عدد الكهنة المتزوجين في أبرشياتنا. وأرى أنه يجب أن ندرس جديًا إمكانية سيامة كهنة متزوجين عاملين يحافظون في نفس الوقت على وظائفهم التي تسمح لهم بإعالة عائلاتهم ويقومون بالخدمات ككهنة مساعدين في الرعايا. وأنا لا أرى تناقضًا بين أسرار الكنيسة.
حديثكم يبين عن بعد خبرة إيجابية لخدمة الكهنة المتزوجين. هل تنصح الكنيسة الغربية بإعادة السماح بزواج الكهنة، علمًا بأنه تقليد رسولي، وأن بتولية الكهنة هو تدبير سلوكي وليس عقائدي؟
الكنيسة اللاتينية هي صاحبة القرار في ما يخص تدبير شؤونها الداخلية ولست أنا بموضع أن أقدم أي نصيحة لهذه الكنيسة العريقة والقادرة على رسم طريقها بثبات ووضوح.
وردنا أنكم قمتم بالمداخلة الوحيدة التي تطرقت لوضع اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية وقضية توطينهم أمام الأب الأقدس بندكتس السادس عشر. ما كان مضمونها؟ وما كان هدفها؟
نعم لقد قمت بحضور قداسة البابا بعرض وضع اللاجئين الفلسطنيين في الدول العربية وقد قلت لقداسته بأن هناك قضية إنسانية هامة جدًا أعتقد أن السينودس يجب أن يعطيها كل الاهتمام الذي تستحقه وهي قضية اللاجئين الفلسطينيين الموجودين منذ عقود في مخيمات في بعض الدول العربية وبخاصة في لبنان. هؤلاء الإخوة والأخوات يعيشون وهم مئات الآلاف، أوضاعًا إنسانية متردية وصعبة للغاية. فإسرائيل ترفض رفضًا قاطعًا عودتهم إلى أرضهم والدول العربية التي يقيمون فيها ترفض أيضًا رفضًا قاطعًا إعطاءهم أية حقوق مدنية او مواطنية. في هذه المخيمات تنشأ أجيال من الأطفال الذين لا يحصلون على حقهم بالتعلم، والعيش الكريم، لا بل ينشأون في هم التدرب على استعمال السلاح والانضمام وهم بعد في سن الطفولة إلى التنظيمات المسلحة والمتصارعة في معظم الأحيان في ما بينها.
إن حل وضع اللاجئين الفلسطينيين هو مسؤولية يهودية، إسلامية ومسيحية على حد سواء. إنه أيضًا مسؤولية دولية تقتضي التحرك السريع لمنع من وُلدوا في التشرد أن يموتوا فيه قبل أن يشاهدوا حلاً عادلاً وشاملًا لوضعهم الإنساني الملحّ. إن خوفنا على اللاجئين الفلسطينيين يقابله خوفنا على مصير لبنان والاستقرار فيه لأن لبنان عاجز عن استيعاب هذه الأعداد الكبيرة من اللاجئين وهي أعداد قد تهدد التوازن الطائفي والديموغرافي الذي يقوم عليه لبنان.
وقد طالبت بدالة بنوية قداسة البابا بالعمل على حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وضمان حق عودتهم إلى أرضهم وضمان استقرار لبنان ودول الجوار والمنطقة لأن لا سلام في المنطقة والعالم قبل حل القضايا العالقة في الشرق.
ماذا ستغيرون في أبرشيتكم بعد هذا السينودس؟
عندما تكلمت امام قداسة البابا والسينودس شكرت قداسته على مبادرته في دعوة أساقفة الاغتراب للاشتراك في هذا السينودس المقدس لأن حضورهم يثبت أبناءهم المغتربين في علاقتهم مع كنائسهم الأم وفي إيمانهم المشرقي في أوطانهم الجديدة، ويساعدهم على التأكد بأن الكنيسة الجامعة لم تنسهم. نعم. من الآن وصاعدًا سيبقى هذا السينودس منبهًا دائمًا لذاكرة المسيحيين الشرقيين المقيمين في الشرق والغرب لأن الكنيسة تحتضنهم في قلبها، وتشاركهم همومهم، وتسعى دومًا لتسهيل عيشهم لإيمانهم والشهادة له بشكل منفتح على الآخر.
أنا كنت أيضًا وراء التوصية التي دعت المسيحيين في الشرق إلى احترام البيئة والأرض التي هي هدية من الخالق. الخليقة تربطنا في الخالق وبواسطتها نسير نحو الله.
عمليًا، لدى وصولي إلى كندا سأضع أبناء أبرشيتي في جو السينودس من انطلاقته وحتى نهايته، شارحًا التوصيات التي عملنا على تقديمها إلى قداسة البابا والتي سيتعمد عليها في صياغة الإرشاد الرسولي لأجل الشرق الأوسط.