سينودس الشرق الأوسط والبحث عن نقطة المركز

 

تعريب الأب غسان السهوي والأخ ميشال داود اليسوعيين

انعقد السينودس من أجل الشرق الأوسط، ونصب عينيه السعي الدؤوب لإيجاد أفضل السبل التي يمكنها تجسيد شعاره الرائع للغاية: "الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط: شركة وشهادة؛ "وكان جماعة الذين آمنوا قلبًا واحدا وروحًا واحدة" (أع 4: 32). ومع كثرة الكلمات والمداولات المجمعية، والبعثرة المعقدة لكنائس الشرق وثقافاته المتنوعة حسب الطقوس والبلدان ولعبة السياسات، لا بدّ وأن يتبادر لأذهاننا التساؤل الجوهري التالي: تُرى أين هي نقطة المركز التي من خلالها يمكننا بلوغ سائر الأبعاد المبعثرة والمتنوعة للغاية، بحيث يمكنها أن تجتمع في كيان واحد له قلب واحد وروح واحدة، مما يجعل الشعار حقيقة واقعية وحدثا مُعاشا؟ في الواقع ولئن بدا الجواب في منتهى الصعوبة على مستوى العقل، فهو بالعكس في غاية البداهة على مستوى القلب المستنير. ومع أن علينا أن نسعى دوما لنجد الصلة بين العقل والقلب، لكن عيون القلب ترى ما لا يمكن لعيون العقل رؤيته. هذا ما تؤكّده لنا خصوصا "أنشودة المحبة" (1كور 13) التي فاضت من ذاك الذي استنارت عيون قلبه، تمامًا في الوقت الذي عميت فيه عيون عقله الجسدية. فشاول العاقل بحسب الجسد تحوّل بولس صاحب القلب الحكيم فوق كل حكمة، وهناك من أرض الشرق انطلق، تحثّه بشكل لا يُقاوَم محبة المسيح المائت والقائم لأجلنا، والشهادة له في محبة عاملة ومؤثّرة. حقا، أترى هناك سبيل أفضل وطريق أمثل من المحبة لتحقيق الهدف المنشود؟

في المقالة التي كتبتها المعالجة النفسية السيدة نيكول كاريه، والتي ننشرها هنا معرّبة مع بعض التصرف[1]، تحاول الكاتبة انطلاقًا من وحي أنشودة المحبة، أن تقدم لنا بأسلوب واقعي وروحي معا، الشيء الوحيد الضروري، أعني المحبة بعينها. فعبرها يكتشف الإنسان معنى حياته ككائن علائقي لا يوجد إلا في تلك الشركة الكيانية الأصلية مع الله- المحبة الثالوثية الخالقة ينبوع كل محبة وشراكة حقّة، ومع أخيه الإنسان. نعم، وحدها المحبة الطاهرة المجانية، تلك النازلة من عَلُ (يع 3: 17) لا تلك العاطفية أو الغريزية أو المنفعية، وحدها هذه المحبة تحول الإنسان لتجعله مع جميع من آمنوا بالله- المحبة وقبلوه قلبا وقالبا، "قلبا واحدا وروحا واحدة".

إن لم تكن فيّ المحبة فلست بشيء (1كور13: 2)

ماذا لو لم أحب أو أُحَب؟ وهل الفرق بين الاثنين كبير جداً؟ عندما لا أشعر بحبٍّ تجاه أحد، أو يتصحَّر قلبي وينطوي على ذاته، عندها أنا لست بشيء لأنني غائب عن العالم، والعالم غائب بالنسبة لي. فإن لم أشعر بأنني محبوبٌ فما أنا بشيء، لأني وحيد في هذا العالم. فما من أحدٍ يمكنه أن يحيا بذاته ولأجلها (رو 14: 7). ما من أحد يُختَزَل بذاته، سواء أكان متزوجاً أم لا، حسب ظروف حياته أو في علاقته بإلهه الذي به يؤمن؛ إنه والحق يُقال: لا أحد يوجد بدون الآخرين.

فبدون الرغبة في الانجذاب، أتُراني أخرج من ذاتي؟ أفلا أُحسب عندها في عداد الأموات! فالرغبة هي الحياة التي تتفتّح؛ والله بذاته هو رغبة. لوحدي، أنا لست مكتملاً، ولكن أتراني عندها أكون لاشيء؟ "أأكون وحشاً يا ترى، طالما أنه ما من أحدٍ على الإطلاق يقول لي: أحبّك؟" هذا ما قالته بتوجع امرأة في الأربعين من عمرها؛ فعلى الرغم من علمها بأنها كانت تروق لكثيرين لم يكن ذلك يرضيها، لأنها كانت ترغب بكل جوارحها أن تكون "شخصاً" لأجل شخصٍ آخر.

فالحب يقول: "أنت شخصٌ"؛ كلا! لا يقول ذلك! بل يعيشه. ولذا فهو اندهاش وكل ما يلمسه يصبح فريداً؛ وحينما يلمس رجلاً أو امرأة يجعل كلاً منهما "إلهاً". أقول "إلهاً" لا صنماً! فالله هو الذي نجثو أمامه وننحني بكل احترام، فهو الأوحد، أما الصنم فهو الإله المزيّف الذي لأجله يضحّي الإنسان بذاته أو بما يملكه. إنّ من اختبر الحب يعرف أن الحبّ إلهي ولئن غاب ذلك عن باله، فالحب في اللقاء هو هذه المجانيّة التي تتجاوزنا، هو الاندهاش بأن ثمة آخر وآخرين!

الحب هو كياننا العميق؛ إنه هويتنا وغايتنا. فبدون حبّ لا نستطيع أن نحيا. لذلك فالأهل والأصدقاء والإخوة والأخوات كما الشيخ والطفل، جميعهم، ضروريون لنا؛ والحياة لا تنسج خيوطها إلا متى كنا مع بعضٍ ومن خلال بعض. فنحن بأجمعنا لا نحيا إلا بالحب. ولكن إذ نجهل بأننا قد ولدنا من الحب ترانا نجري في إثره معتقدين بأنه ينقصنا. هذا ما يجعلنا نجد صعوبةً كبيرة في أن نحب.

علامة عدم اكتمالنا:

ثمة فينا شيء لا يمكن قط إرواؤه في بحثنا عن الحب. ولقد وجد القديس أوغسطينوس جوابًا على هذا الألم حينما هتف بتعجب: "كنت أبحث عنك في الخارج وكنت أنت في داخلي!" لقد كان يجري من امرأة لأخرى، ومن نجاح لآخر، ومن خبرة فلسفية لأخرى، بحثاً عن الجمال ولم يكن يرى أنه كان يبحث في الخارج عمّا كان في داخله. أيجب إذن أن نكتفي بالداخل بدل الخارج فنتعلّم الاكتفاء بذاتنا؟ لا، لم تكن هذه حالة أوغسطينوس، الذي بعد اهتدائه، راح يتعلّم كيف يحبّ بشكل مختلف. هل يجب علينا بالتالي هجر العالم؟ إن ذلك لمستحيل. فثمة فينا انجذابٌ نحو الآخر، ولكن سواء أكان هذا الانجذاب رغبةً في أن نجد في الآخر انعكاساً لنا، أو رغبة في معرفته، أو في اقتناء ما لا نملكه، فهو يشكّل، في الأحوال كافة، العلامة على عدم اكتمالنا، وعلى أننا أحياء بالتالي.

تحضرني الآن ذكرى امرأة كانت تتعالج وتذرف الدموع باكية على كل الحب الذي نقصها. كانت تعاني كما لو أنها مبتورة الأعضاء. وفجأة بدا وكأنّها استفاقت من نوم طويل وقالت بصوت جلي: إن الذي كانت تحتاج اليه هو أن تحبّ. ولدى إصغائي إليها كنت أزداد إدراكاً بأن الحبّ هو هويتنا العميقة. ولقد كان أمرًا مذهلاً أن نرى كم أصبحت تفيض بالحياة، وكيف صار الحبّ يشع منها حتى من غير علمها، ما إن راحت تخرج من عزلتها التي ما برحت تتوق لآخر.

الحب هو تحريرٌ لكيان الحبيب والمحبوب معاً. إنه تلك العلاقة التى تتيح لكل إنسان، المُحبّ كما المحبوب، أن يكون ذاته. إنه تدفّقٌ؛ فما هو الأول في الحب ليس الأنا أو الأنت بل الـ"نحن". إنّ لدينا حنينًا إلى "الواحد"، وما علينا تعلّمه هو أنه لا يمكن تحقيق هذا الواحد إلا في الاختلاف، فالاختلاف هو شرط الهبة اللامحدودة: اختلافٌ في صميم الله بالذات، اختلافٌ بين الله والإنسان، بين الرجل والمرأة. فالحب هو فيضان الكيان وهو فرح.

هذا ما يقوله يسوع: "ليكونوا واحداً، كما أنت وأنا واحد" (يو 17). إذا أعوزني الحب، وأعني هذا الارتباط الأساسي مع الآخر، فلست بشيء. لأن فعل المحبة هو هذا الارتباط نفسه، هذا الفرح بأن نكون كلانا: أنت وأنا واحداً، أنت فيّ وأنا فيك (يو 17). فالمحبوب والمحبّ وفعل المحبّة ليست جميعها إلا حقيقة واحدة. والله هو المحبة التي يكمن فرحها في أن يكون الآخر آخراً ليس إلا.

سرّ اللقاء:

"إني مستعدٌ لترك كل شيء في سبيل أن أعود فأجد امرأتي…" هذا ما كان يقوله رجلٌ عجوز بعد سنواتٍ عاشها وحيداً في الترمّل. كان يعلمني أن أستقبل الحب؛ فأنا لا أهبه لنفسي. فما هو خارجٌ عني يُظهر لي في الوقت عينه ما هو في باطني، ويوحي لي بأن الحبّ هو في البداية؛ ومهما كان ماضيَّ فأنا مولود من الحب ولأجل الحبّ.

ليس ثمة حب ما لم يكن هناك تبادل. وذلك صحيح حتى وإن علمنا بأنه يمكن للكراهية أو اللامبالاة أن تكون جوابًا على المحبة. هذا صحيح، ليس على الصعيد الملموس بل كيانيًا، لأن الأنا هو علاقة، والجنس الآخر هو وجه ذاك الآخر المطلق الذي هو حضورٌ لكل ذي نسمة. الجنس الآخر هو تذكيرٌ لي بأنني مكوّن لأجل العلاقة، علاقة لا تنتهي أبدًا لأنها تشكّل كياني.

غالباّ ما أظن نفسي وحيداً، في حين أنني لا أوجَد إلا متجهاً نحو الآخر، لا في القدرة على العطاء أو الاستقبال بقدر ما في التوق عينه وإن يكن صغيراً للغاية. ففيه لا أعطي بل أتواصل في حميميتي وأستقبل فيها. وإذا ما شكّل الاثنان جسداً واحداً، فما ذلك بفضل عملنا، بل هو هبة محض. والآخر هو الحماية التي وُهِبتُها حتى لا تحيد بي قدرتي الكليّة عن الحياة. فالحياة أودعت بين يديّ حبنا، ونحن وعدٌ؛ لأنه لمحدوديتنا قد أُودِع من هو غير محدود. إنّ ما علينا استقباله هو هذا النداء إلى الـ"نحن" الذي يجعلنا قادرين على تجريد أنفسنا من "أنانيتنا"، فنحن نجرد ذواتنا بفضل ما قد استقبلناه قبلاً.

الحب هو خروجٌ من الذات؛ لأنني محدود وفي الوقت نفسه غير محدود في كياني العميق، بيد أنه لا يمكنني أن أعرف أن غير المحدود هذا، هو الطريق إلى كياني، إلا إن اكتشفت أولاً أنني محدود. كما لا أستطيع النمو في الحب إلا إذا عرفت محدوديتي.

لا يحدث الحب بسبب هذا "الرجل" أو تلك "المرأة"، فإن ذلك لَيُعبّر بالأحرى عن السرّ، سرّ فرادة كل كائن، سرّ اللقاء. فحينما يتمّ اللقاء بالآخر في حميميته، فعندئذٍ ترانا وَلجنا في سرّ الكيان. الحبّ مُغمَّس في سرّ اللامتناهي. وهذا ما يجذبنا ويخيفنا. إنه لَباستطاعتنا أن نشعر بالارتياح مع أحدهم بفضل التواصل بين تاريخينا وطباعنا، بيد أن الحب هو شيء مختلف تماماً عن الشعور معاً بالارتياح أو بالتعاسة.

 

ظهور الآخر بجماله:

نعتقد، أو علمونا أن نعتقد بأن الحبّ يكمن في العطاء. وهذا الاعتقاد يناسبنا جيداً فيعزّز كبرياءنا. هناك جيل من النساء، ومنهم أنا، بتضحيته بذاته شوّه الحب. فلو فرقت جميع أموالي لإطعام المساكين وأسلمت جسدي لأُحرق ولم تكن فيّ المحبة فلست بشيء (1كور 13: 3)؛ ذلك أن الحبّ لا يعرف العقلية الحسابية التي تقود – حتى بحجة مساعدة الآخر – إلى سحقه والسيطرة عليه؛ فهو لا يقوم بحسابات.

الحبّ لا يقوم في التضحية، ولا في العمل، ولا في تفريغ شيء نملكه من واحدٍ لآخر؛ كما لا يقوم في التبادل المعرَّض دوماً للحسابات؛ فحيث الحساب لا مجال للحبّ. الحب هو في نوعية الكيان الذي هو حياة، ويمكنه بالتالي أن يهب الحياة. فالحب إذن هو بلا حدود وما مَن يحدّه، إنه يمتدّ ليطال الجميع والحياة بكليتها، ويرى الرابط بين الكل. وإذا كان الحبّ يعذر كل شيء (1كور 13: 7)  فهذا لا يعني أنه أعمى، بل إنه يذهب نحو الجوهري وحسب.

كان شابٌ يقول: "أن نُحبّ ونُحَب، هو أمر رائع حتى أنه علينا – إن كان الله موجودا حقًّا – أن نرغب في ترك كل شيء لأجله"؛ فالله الذي كان هذا الشاب يتصوره، من خلال ما كان يختبره من الحب، ما هو إلا الإله الذي يجددّ كل شيء؛ ليس على أنه يجعلنا نذهب إلى الجوهري، بل على أنه يتيح لنا اختبار ما هو جوهري، وهذا الجوهري هو الـ"نحن" الذي فيه تصبّ كل "أنا". إن الآخر الذي يمكنني إدراكه على أنه علامة كيانية (أنطولوجية) لحدودي، وحاجزٌ أمام رغبتي في أن أكون كلّي القدرة، يصير موحياّ لكينونتي، "لما أكونه": فمقولة "اعرف ذاتك" غير ممكنة إلا عبر لقاء الآخر؛ فهكذا يمكنني أن أهب للآخر أن يكون ذاته، كما يمكن للآخر أن يهبني لذاتي. إن الحب هو تلك المسؤولية التي نضطلع بها، واحدنا تجاه الآخر، في الـ"نحن". إنه ليس في إفراغ أنفسنا لأجل الآخر، بل هو في فرح التخلي عما هو محدود، من أجل بلوغ الملء؛ ولذلك فالحب مرتبط دائماً بالعفة، لأنها احترامٌ وتخلٍّ عن إرادتي في امتلاك الآخر.

في الواقع، غالباً ما نخلط بين أمور ثلاثة: الانجذاب والتعلّق والحبّ، ولكن الحقيقة أن الانجذاب والتعلّق ليسا سوى معابر إلى الحب. فالانجذاب عند كل إنسان تحرّكه مجموعة من الحتميات، عددٌ كبيرٌ منها لا واعية، وكلّها مهمة، لكنها غير كافية، وما هي هنا إلا لتعلّمنا الحب .

فليس الآخر هو مَن يجعلني سعيداً وإنما علاقتنا نحن الاثنين؛ هذه التي هي أكثر من أنت وأنا، لأنها وحي الآخر المطلق فينا. تماماً كما حدث للرسل يوم التجلّي، فإننا لا ندرك إلا ما أُعطي لنا أن إدراكه؛ وهذا هو كشف "الآخر المطلق" في جماله. وبالنسبة للمؤمن، هو حجاب سر الله الذي يتمزّق في سرّ رجل أو امرأة. ففي الرجل أو المرأة اللذين يجذباننا، يهب الله ذاته على أنه الأكثر قرباً. ذاك الذي لا يكفّ عن أن يكون "الآخر المختلف على الإطلاق". فالرجل لا يمكنه أن ينكشف للمرأة، وكذا المرأة للرجل، إلا إذا كفّ كلاهما عن البحث عن كيفية امتلاك الآخر والسيطرة عليه.

جوهر المحبة

ليست المحبة في ما أُعطي؛ فهي مَن تسبقني، وهي التي تجعلني قادراً على أن أكون حاضراً هنا. إنها الينبوع الذي في أعماقي، ذاك الذي يجعلني أكون ذاتي، ويجعلني لا آتي إلى ذاتي إلا بانفتاحي على الآخر. فإن لم أحب ذاتي، أي إن لم أعترف بالينبوع فيّ، فلا أستطيع لقاء الآخر. وأن نحب ذواتنا بتواضع يعني أن نحبها ليس لأجل ما نعمل، بل لأجل هذا الينبوع الذي يذكّر كلاًّ منا بأن الحياة قد وُهبت له، ولهذا السبب بالضبط يمكنه أن يهبها. فإنّ كل واحد يمكنه أن يكون بدايةً للآخر بدون أن يكون على الإطلاق هو مصدره، وهذا الينبوع هو الروح الذي يأتي من لدن الآب، وما يهمّ هو اكتشاف أنه باستطاعتنا أن نشارك بعضنا بعضاً بهذه الحياة. فعمق أعماقنا هذا ليس في ما نملكه بل في ما نكونه.

إذا تقدمنا بالرغم من الليالي، فلأننا نعتقد بأن هناك مَن سبقنا، وبأننا أكثر مما نبدو عليه، وبالتالي أكثر من حدودنا ومخاوفنا. إذا ما استمرينا نؤمن بالمحبة، فليس بفضلنا ولا بفضل الآخر. فلطالما اختبرنا صغاراتنا – ولكن بفضل هذه العظَمة التي أوُدعت فينا.

المحبة هي هبة، وهذا بالضبط ما يسمح لنا بأن نلتزم. فإننا نلتزم بالمحبة متيقّنين من أن الـ"نحن" تسبقنا، فنحن لا نملك شيئًا إن لم يُعطَ لنا أولاً (1كور 4: 7)، كما لا نستند إلى ذواتنا بل إلى ما رأيناه ولمسناه، إلى ذاك الذي يشكّل لنا وعداً لكونه نداء.

لا يمكن للمحبة أن تستمر إلا إذا حركت معها، في عمق حدودنا نفسها، ما فينا من لا محدود، على ما كتب الأب الشهير موريس زَندِل: "إنكم تعلمون أنكم تحبّون عبر تحوّلٍ يجعل من كيانكم علاقة بالمحبوب تحيونها على صعيدِ أعمق ما فيكم. وبالتالي ألا يكون التحرّر من الذات والسعي عبر ذلك لتحرير الشريك هو الحبّ الأعظم؟ أليس الحبّ هو تلك الإرادة الشغوفة بأن يكبر المحبوب؟ إلا أنّه لا يمكن بلوغ هذه العظمة إلا عبر أنسنة الغرائز (…) وبالتالي فالحب الكامل سيكون بكل بداهةٍ ذاك الذي يمكنه أن يربط الواحد بالآخر عبر التحرير المتبادل".

أليس الحبّ الكامل حاضرٌ هنا في الوقت نفسه بمثابة برعم؟ أليس هو حب ذاك الإله الذي اتخذ جسداً بشريًا؟ أليس هو ذلك الأنين الفائق الوصف الذي يُصدره الروح في أعماق القلوب (رو8: 26)؟ فالمحبة ليست غزوة نقوم بها؛ إنها مطلبنا وطريقنا كيما نُكوِّن بأجمعنا جسداً واحداً (رو 12)، كل واحد بمقدار: المكرّس لله، والمتزوج، ومن لم يزل بعد أعزبًا.

فلا يضطرب قلبنا؛ فنحن نعرف المحبّة، لأنّ الله هو الذي أحبّنا أولاً (1يو1: 10).

ختاما، أترانا نؤمن حقا بأن الله هو الذي أحبنا أولا؟ هل اختبرنا محبته المجانية ؟ أترانا نعرف معرفة اختبارية لا تنظيرية تلك المحبة النازلة من عَلُ فندعها تملك علينا وتقود توجهاتنا وأعمالنا؟ في الواقع، إننا نتكلم كثيرا عن المحبة، ولكن الخوف، كل الخوف، هو في أن يبقى الأمر كلاما وحسب، حتى ليفرغ المحبة من جوهرها الخلاق، والحال أن المحبة ليست بكثرة الكلام ولا هي كذلك بتمتمة الشفاه، ولكن بالعمل والحق (يو3: 18). ومن هنا السؤال الذي يراودنا بشكل بديهي: هل ينجح السينودس في إيجاد السبل الكفيلة حتى تصير المحبة عملا متجسدا، واقعيا، منظما ومخلصا لشعبنا في الشرق الأوسط على تنوعه العجيب وتعدديته الفريدة ؟

فلنصلّ أيها الأحباء من أجل آبائنا المجتمعين في السنيودس، ومن أجل بعضنا البعض. فما أحوجنا حقا لمثل تلك المحبة الطهور، وما أشد انتظارنا لنتعلم أكثر فأكثر كيف نكون "نعم" لإله ما هو إلا محبة في ذاته ولأجلنا؛ لإله نزل من السماء ليرفعنا إليها. فإذا ما كنا "نعم" كاملة له، فسنصير بالضرورة مثله: "نعم" للجميع؛ نعم لكل إنسان وأي إنسان بلا تميز أو تحيّز. أوليست هبة الذات الكاملة للرب هذه، هي في الواقع أهم وأكثر ما يحتاجه إنساننا الشرقي؟ هذا الإنسان الممزق والمطروح أرضا غالبا، والذي مع ذلك لم يفقد رجاءه الجريح بأن يترجّل، أخيرا، عن دابته الخاصة، ذاك الذي دُعي ليكون السامري- الغريب ولكن الصالح، فيصطحبه معه إلى بيت المشاركة وحاضرة المحبة؛ هناك حيث يلقى بعد طول عناء وجه العزاء، ويشعر بلمسة الحنان وفرح الحياة الجديدة التي ما برح عبثا يتوق إليها. تُرى، هل من نقطة مركزية أخرى نبحث عنها؟

 

عن موقع اذاعة الفاتيكان

——————————————————————————–

[1]  قام بالتعريب كلاً من الأخ ميشيل داود والأب غسان السهوي اليسوعيين