مقابلة الأربعاء العامة: جوليان النورويتشية

 

روما، الخميس 02 ديسمبر 2010 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه البابا بندكتس السادس عشر نهار الأربعاء خلال المقابلة العامة في قاعة بولس السادس.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

ما زلت أتذكر بفرح عظيم الرحلة الرسولية التي قمت بها إلى المملكة المتحدة خلال شهر سبتمبر الأخير. إنكلترا هي بلاد قدمت العديد من الشخصيات البارزة التي تجمّل تاريخ الكنيسة بشهاداتها وتعاليمها. من بين هذه الشخصيات، أذكر المتصوفة جوليان النورويتشية المكرمة من قبل الكنيسة الكاثوليكية والشركة الأنغليكانية، والتي أرغب في التحدث عنها في هذا الصباح.

إن المعلومات المتوفرة لنا عن حياتها – والضئيلة – مأخوذة بشكل رئيسي من الكتاب الذي جمعت فيه هذه المرأة النبيلة والتقية محتوى رؤاها تحت عنوان رؤى المحبة الإلهية. من المعروف أنها عاشت تقريباً بين 1342 و1430، وقد كانت تلك السنوات مؤلمة للكنيسة التي مزقها الانشقاق عقب عودة البابا من أفينيون إلى روما، ولحياة الشعوب التي كانت تتحمل تبعات حرب طويلة بين مملكة انكلترا ومملكة فرنسا. الله، مع ذلك وحتى في هذه الأزمنة المتسمة بالمحن، استمر في إظهار شخصيات مثل جوليان النورويتشية ليعيد البشر إلى السلام والمحبة والفرح.

في مايو 1373، ربما في الثالث عشر من هذا الشهر، أصيبت فجأة، كما تروي بنفسها، بمرض خطير جداً يبدو أنه كان سيؤدي بها إلى الموت في غضون ثلاثة أيام. بعد أن سارع الكاهن إلى سريرها وأظهر لها الصليب، لم تستعد جوليان صحتها بسرعة وحسب، بل انكشفت لها أيضاً هذه الرؤى الست عشرة التي دونتها لاحقاً وعلقت عليها في كتابها "رؤى المحبة الإلهية". وفي الواقع أن الرب هو الذي كشف لها معنى هذه الرؤى بعد خمس عشرة سنة من هذه الأحداث الاستثنائية. "هل تريدين معرفة ما يقصد ربك وفهم معنى هذا الوحي؟ اعلمي جيداً أن المحبة هي التي يقصدها. من الذي يوحيها لك؟ المحبة. لم يوحيها لك؟ بدافع المحبة… هكذا أدركت أن ربنا يعني محبة" (جوليان النورويتشية، كتاب الرؤى، الفصل 86، النسخة الإيطالية: ميلانو 1997، ص. 320).

بإلهام من المحبة الإلهية، اتخذت جوليان خياراً حاسماً. وعلى غرار الحبساء القدامى، اختارت أن تعيش داخل صومعة كائنة قرب الكنيسة المكرسة للقديس جوليان في مدينة نورويتش التي كانت آنذاك مركزاً مدينياً مهماً، وقريباً من لندن. ولربما استلهمت اسم جوليان تحديداً من اسم القديس الذي كانت الكنيسة مكرسة له، هذه الكنيسة التي عاشت فيها خلال سنوات عديدة حتى وفاتها. قد نتفاجأ ونشعر بالحيرة أمام خيار العيش "منعزلة"، كما كان يقال في تلك الحقبة. وإنما ليست هي وحدها التي اتخذت هذا الخيار. على مر تلك القرون، آثرت نساء كثيرات نمط العيش هذا، واعتمدن على قوانين معدة بوضوح لهن، كالقانون الذي وضعه القديس آلريد من ريفو. كانت الحبيسات أو "المنعزلات" تكرسن أنفسهن للصلاة والتأمل والدراسة. وهكذا كن ينمين إحساساً إنسانياً ودينياً مرهفاً جعلهن محترمات من قبل الناس. وكان الرجال والنساء من كافة الأعمار والظروف يلتجئون إليهن بورع لطلب النصيحة أو التعزية. إذاً، لم يكن الخيار فردياً؛ فمن خلال هذا القرب من الرب، كانت تنمو لديهن أيضاً القدرة على تقديم المشورة لكثيرين، ومساعدة من كان يعيش حياة عسيرة.

نعلم أن جوليان أيضاً كانت تستقبل زواراً كثيرين، حسبما تؤكد السيرة الذاتية لمارغري كامب، وهي مسيحية تقية أخرى عاشت في زمانها وقصدت نورويتش سنة 1413 لتلقي بعض الاقتراحات حول حياتها الروحية. لهذا السبب، دعيت جوليان في حياتها "الأم جوليان"، كما هو مكتوب على الضريح الذي يحتضن رفاتها. فقد أصبحت أماً لكثيرين.

إن الرجال والنساء الذين يزهدون في الدنيا للعيش برفقة الله، يكتسبون بفضل خيارهم إحساساً عظيماً بالرأفة على أحزان الآخرين ونقاط ضعفهم. لكونهم أصدقاء وصديقات الله، يتمتعون بحكمة لا يملكها العالم الذي يبتعدون عنه، فيتقاسمونها بطيبة مع الذين يطرقون أبوابهم. لهذا أفكر بإعجاب وامتنان بأديار الحبساء والحبيسات التي تشكل اليوم وأكثر من أي وقت مضى واحات سلام ورجاء، وكنزاً ثميناً للكنيسة جمعاء، بخاصة من خلال تذكيرها بأولية الله وبأهمية الصلاة الدائمة والمكثفة لدرب الإيمان.

في الوحدة التي سكنها الله، ألفت جوليان النورويتشية رؤى المحبة الإلهية التي وصلتنا نسختين عنها، إحداهما مختصرة وهي الأقدم على الأرجح، والأخرى الأطول منها. هذا الكتاب يحتوي على رسالة تفاؤل مبني على الثقة بأن الله يحبنا وأن عنايته تحمينا. في هذا الكتاب، نقرأ الكلمات المذهلة التالية: "رأيت بثقة تامة… أن الله أحبنا، حتى قبل أن يخلقنا، بمحبة لم تنقطع أبداً ولن تزول أبداً. في هذه المحبة، أنجز كافة أعماله، وفي هذه المحبة، عمل لكي تكون كل الأمور مفيدة لنا، وفي هذه المحبة، تدوم حياتنا إلى الأبد… في هذه المحبة يكمن مبدأنا، وكل هذا نراه في الله بشكل لامتناه" (كتاب الرؤى، الفصل 86).

كثيراً ما يعود موضوع المحبة الإلهية إلى رؤى جوليان النورويتشية التي تظهر جريئة في عدم ترددها في تشبيهها أيضاً بالمحبة الأمومية. هذه هي إحدى الرسائل التي يتميز بها لاهوتها الصوفي. فحنان صلاح الله وعطفه وعذوبته تجاهنا هي كبيرة جداً لدرجة أنها تذكرنا نحن الحجاج على الأرض بمحبة أم لأبنائها. وفي الواقع أن الأنبياء البيبليين بدورهم استخدموا أحياناً هذا التعبير الذي يذكر بحنان وقوة وشمولية محبة الله المتجلية في الخلق وفي كل تاريخ الخلاص، والتي تبلغ ذروتها في تجسد الابن. لكن الله يتخطى دوماً كل محبة بشرية، كما يقول النبي أشعيا: "أتنسى المرأة مُرضَعَها فلا ترحم ابن بطنها لكن ولو أن هؤلاء نسين لا أنساك أنا" (أش 49، 15). لقد فهمت جوليان النورويتشية الرسالة الأساسية للحياة الروحية: الله محبة، وفقط عندما ننفتح على هذه المحبة بالكامل وبثقة تامة، ونسمح لها بأن تضحي المرشد الوحيد لوجودنا، يتغير كل شيء ونجد السلام والفرح الحقيقيين ونتمكن من نشرهما حولنا.

أرغب في التشديد على نقطة أخرى. ينقل تعليم الكنيسة الكاثوليكية كلمات جوليان النورويتشية عندما تعرض وجهة نظر الإيمان الكاثوليكي في موضوع يشكل دوماً موضع شك وتفكير لجميع المؤمنين (303 – 314). إن كان الله في غاية الصلاح والحكمة، لم يوجد الشر وألم الأبرياء؟ حتى القديسون، وتحديداً القديسون، طرحوا هذا التساؤل. بالاستنارة من الإيمان، يقدمون لنا جواباً يفتح قلبنا على الثقة والرجاء: في تدابير العناية السرية، يعرف الله أيضاً كيف يغرف من الشر خيراً أعظم، كما كتبت جوليان النورويتشية: "تعلمت من نعمة الله أنه كان ينبغي علي الحفاظ بثبات على الإيمان، وأنه كان ينبغي علي الإيمان بشكل راسخ ومطلق بأن كل الأمور تنتهي على خير ما يرام…" (كتاب الرؤى، الفصل 32).

أجل، أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن وعود الله هي دوماً أعظم من آمالنا. إن سلمنا لله، لمحبته الكبيرة، أنقى وأعمق رغبات قلبنا، لن يخيب أملنا أبداً. و"كل شيء سيجري على ما يرام"، و"كل الأمور ستتجه نحو الخير": هذه هي الرسالة الختامية التي تنقلها لنا جوليان النورويتشية والتي أقترحها عليكم اليوم بدوري. شكراً.

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2010