بقلم نيافة الانبا د/ يوحنا قلته
النائب البطريركى للاقباط الكاثوليك
وراعى كاتدرائية العذراء سيدة مصر بمدينة نصر
نقلا عن جريدة الاهرام الصادرة بتاريخ 9/12/2010
أعدها ناجى كامل مراسل الموقع من القاهرة
تناسلت في المسيرة الإنسانية علي مدي قرون طوال, لم تنج واحدة منها من شرور فئات ضالة أعماها التطرف وغلب عليها فكر مظلم فأثارت الفتن وأشعلت نيران الكراهية والتعصب,وسالت الدماء والدموع, ودفعت الإنسانية ثمنا باهظا لتحد من شرورها, وتطوير صفحاتها, إنها حقا مأساة الإنسان.
فالخير والتقدم والرقي يقابله الشر والتخلف والجمود, هذه طبيعة التاريخ والحياة, لقد أسهمت كل حضارة في دفع الحياة إلي الأفضل خطوات فتقدمت العلوم حتي وصلنا إلي مانحن عليه من رقي وترف ورفاهية لم يعرفها الأولون, وتوهجت الآداب والفنون, وتقارب البشر إلي حد كبير, وانتعش ما يمكن أن نسميه الضمير الإنساني الاجتماعي, الذي يتآخي ويتضامن مع المتألمين والفقراء والضعفاء, ذلك كله لم يمنع سريان قانون الوجود, الخير توأم للشر, تماما كطبيعة الشخص البشري الذي يحمل بذور الخير والفضيلة كما يحمل سموم الأنانية والفساد, أما الشر فيسقط وأما الخير فيبقي بحكمة وعبقرية كشفت الحضارة الفرعونية عن عقيدة وحدانية الخالق واضطر الفرعون إخناتون الفليسوف صاحب هذا الاكتشاف الرائع إلي الهروب من عاصمة مملكته طيبة ليقم مدينة جديدة في إقليم المنيا( ملوي ـ تل العمارنة) وبقايا معبده وقصره تنبئ عن عظمة بادت, وعن نهضة وئدت في مهدها, لم يسلم الفرعون من حقد آثار فتنة وأشعل نار حرب دينية من قبل كهنة آمون المسترزقين من الدين والغيب, الذين سجنوا ضمائر البشر في طقوس شكلية ورفضوا العقيدة الجديدة, ولكن, هل يموت الفكر الأصيل, وهل يدفن الحق بين الأطلال, مات الفرعون الفليسوف عن أربع وعشرين سنة, وعادت طيبة عاصمة الفرعون, واستعادت الآلهة وكهنتها السلطة والمال والجاه, وذلك كله لم يقتل الحقيقة المتوهجة, سرت عقيدة الإنسانية في كل أنحاء بلدان الشرق الأوسط, اعتنقها الصفوة, والمثقفون, والحكماء, وظلت في حيوية حتي تسلمها فلاسفة اليونان, سقراط وأفلاطون وأرسطو إلي حقيقة دينية وفلسفية وعلمية, ذهب صاحبها وبقيت الحقيقة, الوجه المشرق للحضارة ظل متألقا والوجه المظلم الكئيب للجهل والجمود ذهب في زبالة التاريخ
2 ـ علي نهر دجلة والفرات قامت حضارة أخري, قدمت للعالم أول دستور لحقوق الانسان وهو قانون حمورابي ذلك كله قبل مجئ الوحي الإلهي, والأديان الإبراهيمية الثلاثة, كتب علي حجر, مازالت بقاياه تحكي عطش الإنسان للعدل وجوعه للحرية والمساواة, ولكن شهوات الأباطرة والملوك وسعار الحكام ألقت بالقانون عرض الحائط, ومضوا إلي مصيرهم, وبقي القانون شاهدا علي أن الانسان إنما خلق لحياة أفضل ثم بسطت الثقافة اليونانية فلسفتها وفكرها علي عالم ذلك الزمان, بعد أن انتصر ذو القرنين الاسكندر الأكبر وامتلك مالم يمتلكه ملك من قبل, وحمل معه في كل البلدان التي خضعت له الفكر اليوناني, وما جوهر هذا الفكر, وما سر عظمة فلسفته, أن ينهض العقل, ملكا وحاكما, فالعقل, أو المنطق, أو الفكر, هو جوهر كيان الإنسان ومحرك الحضارات ومنقذ الشعوب, وانهارت الحضارة اليونانية أمام قوة ووحشية الرومان, ومن أعجب خبرات التاريخ, أن الحكم والسلطة والقوة أمور في يد الرومان, أما الثقافة السائدة فكانت ثقافة اليونان, فالغلبة دوما للنور لا للظلمة, للحياة لا للموت, ثم بزغ فجر المسيحية وتوهجت حضارتها من القرن الأول إلي القرن السادس الميلادي, وبشرت بالمحبة والصفح ووحدة بني البشر, فإذا بالشر يكشر عن أنيابه وتسيل أنهار الدماء وتتصدي قوي الظلام لينبوع النور, وتتكالب قوي البدع لتمزق وحدة المؤمنين, وعاشت المسيحية ودفنت قوي الشر في كهوف الظلام.
3 ـ لم يمض القرن السادس الميلادي ويطل القرنان السابع والثامن حتي تتوهج حضارة عربية إسلامية أخطت بناصية الحضارة, أنجبت الفلافسة والحكماء والشعراء, امتد سلطانها إلي أقصي الشرق, وإلي أقصي الغرب, وبسطت علمها وثقافتها علي شعوب العالم كافة, ولكن هل نجت من قوي الظلام والإرهاب؟ منذ البداية تربص بها الخوارج وهي بدايتها, ثم القرامطة في القرن الثاني الهجري الذين عاثوا في الأرض فسادا وعبثوا بكل المقدسات ونشروا القتل والرعب حتي انتهي أمرهم كما تنتهي كل القوي الشريرة, بدأ غروب شمس الحضارة العربية بعد أن تكالبت عليها قوي الفساد, والظلام, ثم أحاط بها من كل صوب الأعداء حروب في الداخل وغزو من الخارج, وكان لابد للتاريخ أن يمضي في دورته لتنشأ حضارة جديدة مستلهمة ثقافتها وفكرها من عقول الحضارة العربية, وحمل المشعل أهل الغرب في استيعلاء وجرأة, إذ بهم يستفيدون من كل الحضارات السابقة, أخذوا عن الرومان حدة القانون وسطوته, وعن اليونان سلطة العقل وهيمنته, وعن العرب شجاعة الرأي وصلابة الطموح, وإذ بنا نعيش حضارة جديدة لم تبرأ من عيوب كالحضارات القديمة, خرج منها إلحاد سافر يتنكر للقيم الروحية, وعنف لم تشهده البشرية من قبل, حرب عالمية ثانية تقضي علي ستين مليونا من البشر, أمدهم العلم واختراقهم لأسراره وتفوقهم في فروعه بحضارة جددت وجه الارض ووسعت أحلام البشر, وعمقت طموحاته في مزيد من التقدم علي الأصعدة كافة, الصناعية والزراعية, ووصلوا إلي مجتمع الوفرة والرفاهية بعد أن سلبوا ثروات الشعوب, فكان للحضارة المعاصرة الوجه المظلم حين أنجبت الشيوعية والنازية والأسلحة المدمرة وأصبحت القوة المادية هي التي تحكم العلاقات بين الشعوب..أريد أن أقول إن الارهاب الذي نشهده, والذي يزاول شره في بلادنا الآمنة المسالمة, ويحاول أن يشعل النار بين أبناء الوطن الواحد, وأن يصبغ وجه البشرية بالدماء والدموع, انه ليس بالأمر الجديد, كما أن نهايته وفشله أمر محتوم, حتي لو دفعت الإنسانية الثمن الباهظ.