بقلم الأب فرنسوا عقل المريمي
الفاتيكان، الجمعة 17 ديسمبر 2010 (ZENIT.org).
في البدء كانت الموسيقى إيقاع حُبّ مطلق يَخفق في قلب الله.
عزف الخالقُ أنشودة الحبّ فكان الخلق والوجود والجمال!
وإذْ رأى اللهُ أنّ ذلك حسناً نَفَخ في ناي الخلق مرّة أخرى، فكان بَاخْ(Bach) ومُوزارْ (Mozart) وبِتْهُوفِنْ (Beethoven) وشُوبانْ (Chopin) وفِرْدِي (Verdi) وشْتراوسْ (Straus)ورافِيلْ (Ravel) وغيرهم الكثير.
إنَّها الموسيقى! تنقلك إلى علُ…
تحملك على جناحيها النَّاعمين إلى عالم الحلم البعيد، فتفصلك عن دوّامة واقعٍ ربَّما أنساكَ جمال الورود، ودغدغات النَّسيم، وسعة الفضاء، ورفرفات الأجنحة، وسحر النّجوم، وأَحاديث القمر…
تُرَحِّلك الموسيقى إلى كوكب النّغم السّيار الذي يبشِّر بالتَّجديد، والصَّيرُورة، والأمل، والرّجاء…
يُبْعِدُك لحنُها الشّفّاف عن عالم الكذب والرّياء والمخادعة والتَّذاكي والمصالح والوصوليّة الجامحة…
تَنْشُلك مُساوَقَتُها الرّائعة، من أودية الرّجاءات الكاذبة، والطُّموحات الفاسدة، والطُّرق المُتعَرِّجة…
تسلبك الموسيقَى أوقاتك التَّائهة، وفراغاتك القاتلة، ورتابتك المزعجة…
إنَّها الكلمة الضّائعة المحلّقة فوق الغيوم، تبحث عن "الكلمة"! فهي لها بمثابة نصفها الآخر التّائه في آفاق النَّغم الخلاّب…
إنَّها كلمة ونغم ولحن ومساوقة وغناء وأداء وسحر وبهاء.
إنَّها حلم وحبّ وجمال وعذوبة ونشوة وانخطاف وقداسة…
كلّ ذلك، بل أكثر وأكبر وأعمق… ينطبق على الموسيقى الكنسيّة، الرّائعة بترانيمها وصلواتها وكلماتها وألحانها…
إنّها الموسيقى المقدّسة! دعتها الكنيسة بهذا الاسم، كي تميّزها عن سائر أنواع الموسيقى.
فمن جوقة فتيات الرُّها التي أنشأها مار أفرام السّريانيّ في الشّرق وقد رنّمت أشعاره المنظومة على الألحان السّريانيّة الشّعبيّة آنذاك؛ إلى أناشيد القدّيس أمبروسيوس في الغرب، وتنظيمات البابا غريغوريوس الكبير لمجموعة التّرانيم الكنسيّة اللاتينيّة والنّمط الموسيقيّ الكنسيّ الجديد الذي وضعه فيما بعد وعُرف بالإنشاد الغريغوريّ، ناهيك عن الألحان الكنسيّة المتنّوعة المنبثقة من روائع الطّقوس المختلفة وتراثاتها القديمة-الجديدة؛ فمن الأنغام البيزنطيّة الملكيّة، والمدارش السّريانيّة الأنطاكيّة، إلى الألحان المارونيّة البسيطة العذبة، فالتّرانيم الأرمنيّة الجميلة، والتّراتيل القبطيّة والحبشيّة العريقة…
ألمْ يَدْعُ القدّيسُ بولس المسيحيّين إلى إنشاد المزامير والتّرانيم للرّبّ الإله وتسبيحه وتمجيده؟ "ليكن حديثكم تلاوة مزامير وتسابيح وأناشيد روحيّة، رتِّلوا وسبّحوا للرّبّ من صميم القلب" (اف5/19). فالغاية من الموسيقى الكنسيّة أوّلا تسبيح الله، واستخدام مواهبه وعطاياه لتمجيد اسمه على قاعدة ممّا له يُعطى له، ثمّ مساعدة المؤمنين على اللقاء به بطريقة مفرحة. كمّا أنّ الموسيقى تزيّن الصّلاة، وتضفي عليها رونقا جماليّا عذبا. لذا شجّعت الكنيسة منذ البداية، التّراتيل والتّرانيم والأناشيد الكنسيّة لاستحثاث إشتراك المؤمنين الفعّال في الاحتفالات الطّقسيّة، لأنّ "من رتّل صلّى مرّتين" كما يقول القدّيس أغوسطينوس؛ وقد خصّص المجمع الفاتيكانيّ الثّاني، فصلا كاملا للموسيقى الكنسيّة في الوثيقة المجمعيّة "دستور في الليتورجيّة المقدّسة"، معتبرا أنّ الّتقليد الموسيقيّ للكنيسة الجامعة هو كنز لا يقدّر بثمن وهو يسمو على سائر الفنون، لأنّه يقوم على "التّرتيل المقدّس"، وهو جزء لا يتجزّأ من الطّقوس الاحتفاليّة نظرا لأهمّيّته وضرورته. وعليه، تتّسم الموسيقى الكنسيّة بمزيد من القداسة بقدر ما تتوطّد علاقتها بالعمل الطقسيّ (ل م 112)[1].
فالموسيقى المقدّسة هي كنز كبير تجب المحافظة عليه والاهتمام به من قِبل المسؤولين المعنيّين عبر دعم مدارس التّرتيل الكنسيّ وتعليمه وممارسته خصوصا في الكنائس الكاتدرائيّة (ل م 114) وفي المعاهد الإكليريكيّة، وأديرة الابتداء ومراكز التّعليم الخاصّة بالرّهبان والرّاهبات، وفي سائر المعاهد والمدارس الكاثوليكيّة أيضاً، إذ ينبغي للموسيقى الكنسيّة أن تُدرج في البرنامج الثّقافيّ الإكليركيّ المتكامل[2]. لأجل ذلك يجب إعداد معلّمين أكفّاء لتعليم الموسيقى المقدّسة. كما توصي الكنيسة بإنشاء معاهد عليا للموسيقى الكنسيّة، وتلزم المرتّلين لا سيّما الأولاد بثقافة موسيقيّة مبنيّة على القواعد الليتورجيّة الصّحيحة (ل م 115).
تعتبر الكنيسة الكاثوليكيّة الإنشاد الغريغوريّ تقليدا طقسيّا عريقا بالنّسبة إلى الكنيسة اللاتينيّة كما أسلفنا؛ فهو يحتلّ المكانة الأولى في الأعمال الطقسيّة لتلك الكنيسة، إذ يتقدّم على سائر أنواع الموسيقى المقدّسة، ومن الواضح جدّا أنّ الوثيقة المجمعيّة التي نحن في صددها، تردّد بصراحة كلام البابا القدّيس بيوس العاشر في هذا السّياق[3]. ثمّ تتوالى الأنواع الأخرى من الموسيقى المقدّسة، كالموسيقى المتعدّدة الأصوات Polyphonie (ل م 116)، فالتّرتيل الشّعبيّ (ل م 118)، مع الأخذ بالاعتبار سائر التّقاليد الموسيقيّة الخاصّة في الكنائس المشرقيّة الكاثوليكيّة، لو لم تأتِ على ذكرها الوثيقة المجمعيّة بصراحة.
أمّا من حيث الآلات الموسيقيّة فيحظى الأرغن بتقدير عظيم في الكنيسة اللاتينيّة ولدى بعض الكنائس الكاثوليكيّة الأخرى، كونه الآلة الموسيقيّة التّقليديّة التي يمكنها أن تضفي على الاحتفالات الكنسيّة روعة وجمالا وأن ترفع قلوب المؤمنين إلى الله. كما يمكن القبول بآلات أخرى غير الأرغن بعد موافقة السّلطة الكنسيّة المحليّة شرط أن تكون ملائمة للاستعمال المقدّس ولائقة بكرامة الكنيسة وتساعد المؤمنين على الصّلاة (ل م 120)، دون أن يحدّد المجمع الفاتيكانيّ نوع هذه الآلات، بالرّغم من أنّ البابا بيوس العاشر كان قد حددّها ومنع استخدامها في الكنيسة وهي: البيانو والطبّل على مختلف أنواعه والصّنوج والأجراس الصّغيرة وما شابهها، مع العلم أنّ بعض الكنائس المشرقيّة كانت تستخدم الصّنوج والنّواقيس… كما منع البابا المذكور الفِرَق الموسيقيّة العامّيّة من العزف داخل الكنيسة إلاّ بإذن خاصّ من المسؤول الكنسيّ المحلّيّ وفي حالات خاصّة[4].
وعليه يجدر بالموسيقيّين الكنسيّين كي يُعنَوا فعليّا بالموسيقى المقدّسة وبإنماء كنوزها، أن يكونوا مفعمين أوّلا بالرّوح المسيحيّة، حتّى تتّسم ألحانهم ومؤلّفاتهم الكنسيّة بطابع مقدّس، بطريقة لا تقتصر إمكانيّة ترتيلها على الجوقات الكبرى فحسب، بل تناسب أيضا جماعة المؤمنين كلّها وتشجّعها على المشاركة الفعليّة. إذ ينبغي للموسيقى المقدّسة بحسب البابا الآنف الذّكر، أن تكون فنّا حقيقيّا[5].
إنّ الموسيقى الكنسيّة باختصار، تُسمَعُ في القلب، وتذاق في العقل، حيث يَعْلَق رَجْعُ صداها في أودية نفوسنا، فيروِي أرواحنا في لحظات ظمئها، يواسيها في قفر وحدتها، يُعزّيها في أيّام شِدّتها. إنّها كالدّمعة تنساب حنانا، وكالبسمة تتفجّر دفئاً، وكالصّلاة تذوب إيمانا. هذا ما استوحاه القدّيس أغوسطينوس مبتهلا:
"رَبّاهُ كَمْ بِكِيتُ لِسَماعِ تَسابِيحِكَ وَأناشِيدِك!
وَكَمْ حَرَّكَتِ الأنْغامُ العَذْبَةُ فِي كَنيسِتِكَ نَفْسِي الوَلْهانة!
كانَتْ تَدْخُلُ مَسامِعِي، وَمَعَها تَنْسابُ حَقِيقَتُكَ إلَى قَلْبِي، فَتَنْتابُنِي انْطِلاقاتُ حُبٍّ مُحْرِقَة…"[6]
الأب فرنسوا عقل.
[1] سوف نستعمل في سياق هذا الموضوع المصطلحَ (ل م) للدّلالة على الوثيقة المجمعيّة )دستور في الليتورجيّة المقدّسة (.
[2] PIO X, Motu proprio, Sulla Musica Sacra, , 22 novembre 1903, n° 26.
[3] Cf. Ibid., n° 3.
[4] Cf. Ibid., nn° 19-20.
[5] Cf. Ibid., n° 2.
[6] Cf. St. August. Confessiones, IX, VI.