عروس المتوسط غارقة في الدماء

الأب رفعت بدر – جريدة الرأي الاردنية

تقف البشرية من جديد ، أمام حمام دم مأساوي. ويقف المسيحيون العرب أمام تساؤلات باتت تؤثر ليس فقط على أعدادهم وإنّما كذلك على مصيرهم. هل  ضاقت الأرض  بهم ؟ هم الذين أخلصوا لها الودّ والعمل الصادق والإسهام الحضاري الذي لا يستطيع أحد نفيه أو نكرانه ، ألم يعد لهم متسع في هذا الفضاء العربي الحديث؟

فبعد بغداد الرشيد، يضرب الارهاب الاسكندرية ، عروس البحر المتوسط، و صاحبة المدرسة اللاهوتية الأولى حول تفسير الكتاب المقدس والعلوم الدينية، منذ القرن الأول للمسيحية ، وتخرّج منها العديد من العلماء وزارها كبار شرّاح الكتاب . وبرز منهم قديسون وعلماء مثل كيرلس الاسكندري وكليمنضس الاسكندري وأثناسيوس واوريجانوس وغيرهم. واشتهرت "مدرسة الاسكندرية" اللاهوتية بتوضيحها للمفاهيم الفلسفية والكتابية ، وبتصدّيها الفكري والعلمي للبدع والهرطقات التي نشأت في ذلك الحين. وفيما كانت روما تطيح بالمسيحيين وتنكل بهم، بأبشع أنواع الاضطهاد ، كانت الاسكندرية لهم عاصمة الثقافة والفكر الذي وزعته على كل الدنيا .

واليوم، وفي السنة الاولى من العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين،  تقف الاسكندرية أمام حمام دم يريد أن ينفي عن الوجود هذا التاريخ المسيحي الفكري والحضاري الحافل لهذه المدينة المتوسطية. هي التي ساعدت العالم على تفسير أقوى النصوص الكتابية ، تقف عاجزة اليوم عن إيجاد تفسير لما حدث معها . وصار على الاسكندرية اليوم أن تتصدّى ليس للهرطقات اللاهوتية وانما للإرهاب وأعماله الظلامية.

كان العالم في لحظات التفجير مبهورا بالاحتفالات وبانفجار صيحات الضحك والغناء والألعاب النارية التي تحولت بلمح البصر إلى العاب شيطانية ، في الاعتداء السافر وغير المبرّر على أشخاص أبرياء ، عزّل لا سلاح لهم سوى الإيمان بالله وباليوم الآخر. وحدث ذلك فيما كان المصلون في كنيسة القديسين يؤدّون أقدس ما يمكن للإنسان أن يقوم به ، ويمارسون حقهم الاساسي في التوجه الى بيت العبادة – الكنيسة – بكل حرية ويسر. وهذا ما تنص عليه الدساتير العربية جميعها . وهو ما يسمى بحرية العبادة ، ذلك أن الحرية الدينية غير متوفرة ، في مجمل الدول العربية . ويكتفي مواطنو هذه المنطقة بحرية العبادة، وهذه أيضا بدورها نسبية وتتفاوت درجاتها من دولة إلى أخرى . أمّا الحريّة الدينية بمعناها الأصلي ، فكانت عنوانا لرسالة السلام مع أول يوم من العام الجديد ، أي في صباح المجزرة الاسكندرانية الجديدة: الحرية الدينية درب للسلام . وقال فيها البابا بندكتس السادس عشر : "نلاحظ بألم كبير، أنّه من الصعب ممارسة الدين والتعبير عنه بحرية في بعض مناطق العالم إلا وتتعرّض الحياة والحرية الشخصية للخطر".

لم يجف الدم العراقي من على جدران كنيسة سيدة النجاة، فاذا بالأنظار تتحوّل الى كنيسة القديسين في الاسكندرية، وفي أشرطة التسجيل الحية ، ينادي الكاهن المصري العربي وباللغة العربية على المؤمنين الحائرين، في الكنيسة : لا تخافوا، لا تخافوا أيها المؤمنون. فيما كان بيده يمنح بسلطته الكهنوتية الحلة ومغفرة الخطايا، استعدادا للوقوف أمام ديان العالمين، إذ بات كل من أمامه شهيدا أو مشروع شهيد. وصوت الكاهن هنا هو صدى لصوت السيد المسيح: "لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، بل خافوا الذي يستطيع إهلاك الجسد والروح في جهنم".

"كفاية" … لم يعد العنف ، بكافة أشكاله وألوانه مقبولا ولا منطقيا ولا يحتوي أي بصمات إنسانية، لقد دخل العالم القرن الفائت العشرين بحروب كبيرة ، ذهب ضحيتها ملايين الناس، دفاعا عن أوطانهم وتحالفاتهم. أما القرن الحادي والعشرين، فلا يستطيع بشر أن يبرّر ما يحدث من اعتداءات سافرة على بيوت العبادة فوق رؤوس المصلين والعابدين فيها . وتبقى صورة "مريم" الشهيدة القبطية العربية المسيحية التي قضت في الكنيسة مع والدتها وشقيقتها، ببشرتها العربية ، وبطاقية التخرج الجامعي فوق رأسها، عنوانا لإسهام عربي مسيحي في الحضارة العربية ، وسخرية من الذين يريدون أن ينهوا الوجود المسيحي المشرق والحافل في الشرق والعالم. وها هم شهداء بغداد ينشدون مع شهداء الاسكندرية: " نيرون مات ولم تمت روما" .

 

لقراءة النص كما نشر في الراي الاردنية

http://www.alrai.com/frame.php?type=PDF&id=307028