عظة البابا في قداس ظهور الرب

"كلمة الله هي النجم الحقيقي"

الفاتيكان، الجمعة 07 يناير 2011 (Zenit.org)

ننشر في ما يلي العظة التي ألقاها بندكتس السادس عشر صباح الخميس بعد إعلان الإنجيل خلال القداس الذي ترأسه في عيد ظهور الرب في البازيليك الفاتيكانية.

***

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

خلال عيد الدنح، تواصل الكنيسة التأمل والاحتفال بسر ميلاد يسوع المخلص. ويشدد بخاصة عيد اليوم على قدر هذا الميلاد ومعناه الشامل. بتأنسه في أحشاء مريم، لم يأت ابن الله فقط لشعب إسرائيل الممثل برعاة بيت لحم، بل أيضاً للبشرية جمعاء الممثلة بالمجوس. وتحديداً حول المجوس ورحلة بحثهم عن المسيح (مت 2: 1، 12)، تدعونا الكنيسة اليوم إلى التأمل والصلاة. في الإنجيل، سمعنا أنهم سألوا لدى وصولهم إلى أورشليم من الشرق: "أين هو المولود ملك اليهود؟ فقد رأينا نجمه طالعاً في الشرق، فجئنا لنسجد له" (الآية 2). أي أشخاص كانوا وما كان ذلك النجم؟ لربما كانوا رجالاً حكماء أمعنوا النظر في الفلك وإنما ليس في سبيل "قراءة" المستقبل في النجوم، لتحقيق بعض الأرباح؛ على العكس، كانوا رجالاً "يبحثون" عن أمر إضافي، يبحثون عن النور الحقيقي القادر على الإشارة إلى الطريق التي يجب اتباعها في الحياة. كانوا أشخاصاً واثقين بأن هناك في الخليقة ما يمكن تعريفه بـ "توقيع" الله، توقيع يستطيع الإنسان وينبغي عليه أن يكتشفه ويحل رموزه. لربما يكمن السبيل لمعرفة المزيد عن هؤلاء المجوس وقبول رغبتهم في السماح لعلامات الله بهديهم، في التوقف للتأمل بما وجدوه في طريقهم في مدينة أورشليم العظيمة.

لقد وجدوا أولاً الملك هيرودس. كان بالتأكيد مهتماً بالطفل الذي تحدث عنه المجوس؛ وإنما ليس بهدف السجود له كما سعى كاذباً إلى إظهار ذلك، وإنما بهدف التخلص منه. كان هيرودس رجل سلطة لم يكن يرى في الآخر إلا منافساً لا بد من مواجهته. أساساً، وإن فكرنا جيداً، حتى الله بذاته يبدو منافساً له، منافساً خطيراً رغب في حرمان البشر من مجالهم الحيوي، من استقلاليتهم، من قوتهم؛ منافساً يحدد الطريق التي يجب اتباعها في الحياة، ويعوق بذلك فعل ما يتمناه المرء. يسمع هيرودس من خبرائه في الكتب المقدسة كلمات النبي ميخا (5، 1)، لكن تفكيره الوحيد متمحور حول العرش. لهذا، يجب التعتيم على الله، ويجب تقليص الأشخاص إلى مجرد بيادق تُحرك على رقعة شطرنج السلطة العظيمة. هيرودس ليس شخصية محبوبة، وهو شخص نحكم عليه بالغريزة بشكل سلبي بسبب وحشيته. ولكن، لا بد لنا من التساؤل: هل هناك أيضاً في داخلنا شيء من هيرودس؟ لربما نرى نحن أيضاً أن الله منافس في بعض الأحيان؟ ربما نحن أيضاً عميان أمام علاماته، وصم أمام كلماته، لأننا نعتقد أنه يضع قيوداً لحياتنا ولا يسمح لنا بالتحكم بوجودنا حسبما نشاء؟ أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، عندما نرى الله بهذا الشكل، ينتهي بنا الأمر إلى الشعور بالاستياء والحزن، لأننا لا نسمح لأنفسنا بالاهتداء به هو أساس كل شيء. ينبغي علينا أن نزيل من أذهاننا وقلوبنا فكرة التنافس، الفكرة القائمة على أن إفساح المجال لله يعني تقييد أنفسنا؛ ينبغي علينا الانفتاح على الثقة بأن الله هو المحبة الكلي القدرة الذي لا يأخذ شيئاً ولا يهدد، بل هو الوحيد القادر على إعطائنا إمكانية العيش بالكامل، واختبار الفرح الحقيقي.

بعدها، يلتقي المجوس بالعلماء واللاهوتيين والخبراء الذين يعرفون كل شيء عن الكتب المقدسة، ويعرفون التفسيرات المحتملة، الذين يستطيعون أن يتلوا عن ظهر قلب كل مقطع، ويشكلون بذلك عوناً ثميناً للراغبين في اتباع درب الله. لكنهم، وحسبما يقول القديس أغسطينوس، يحبون أن يكونوا مرشدين للآخرين، ويدلوا على الطريق، لكنهم لا يسيرون بل يبقون بلا حراك. تصبح لهم الكتب المقدسة نوعاً من الأطلس الذي لا بد من قراءته بفضول، مجموعة من الكلمات والمفاهيم التي لا بد من دراستها ومناقشتها بحكمة. ولكن مجدداً نستطيع التساؤل: ألا نشعر نحن أيضاً بإغراء اعتبار الكتاب المقدس، هذا الكنز الغني والحيوي لإيمان الكنيسة، كمادة للدراسة ومناقشات المتخصصين، أكثر منه كالكتاب الذي يدلنا على الطريق لبلوغ الحياة؟ أعتقد، وكما ذكرت في الإرشاد الرسولي "كلام الرب" (Verbum Domini)، أنه ينبغي أن يولد فينا مجدداً وعلى الدوام الميل العميق إلى رؤية كلمة الكتاب المقدس المقروءة في تقليد الكنيسة الحي (رقم 18)، كالحقيقة التي تكشف لنا ماهية الإنسان وكيفية إدراكه لذاته بالكامل، الحقيقة التي تشكل الدرب التي يجب اتباعها يومياً، مع الآخرين، إن كنا نرغب في بناء حياتنا على صخرة لا على الرمل.

وهكذا نصل إلى النجم. ما هو النجم الذي رآه المجوس وتبعوه؟ هذا السؤال لطالما شكل على مر القرون موضوع نقاش بين علماء الفلك. اعتبر كيبلر مثلاً أن الأمر كان عبارة عن "انفجار نجمي" أو "انفجار نجمي كبير" أي عن إحدى النجوم التي تبعث عادة نوراً ضعيفاً، وإنما التي قد تشهد بشكل فجائي انفجاراً داخلياً عنيفاً يحدث نوراً استثنائياً. هذه الأمور هي بالتأكيد مثيرة للاهتمام، لكنها لا ترشدنا إلى ما هو أساسي لفهم ذلك النجم. لا بد لنا من العودة إلى فكرة أن أولئك الرجال كانوا يبحثون عن آثار الله؛ كانوا يسعون إلى ملاحظة "توقيعه" في الخليقة؛ لقد عرفوا أن "السماوات تنطق بمجد الله" (مز 19، 2)؛ كانوا متأكدين من إمكانية رؤية الله في الخلق. لكنهم كرجال حكماء كانوا يعلمون أيضاً أن إمكانية إيجاده، وأكثر من ذلك، إمكانية اقتراب الله منا، لا تتوفر من خلال أي تلسكوب، بل من خلال أعين العقل الباحث عن المعنى الأساسي للواقع، ومن خلال التوق إلى الله الذي يحركه الإيمان. الكون ليس نتيجة صدفة، كما يريدنا البعض أن نعتقد. بالتأمل به، نحن مدعوون إلى أن نرى فيه أمراً عميقاً: حكمة الخالق، خيال الله الذي لا ينضب، ومحبته اللامتناهية لنا. يجب ألا نسمح بأن تُقيد أذهاننا بنظريات تتوصل فقط إلى نقطة محددة، و – لو فكرنا جيداً – لا تتعارض مع الإيمان، لكنها لا تنجح في توضيح المعنى الأساسي للواقع. في جمال العالم، في سره، في عظمته وعقلانيته، لا يسعنا إلا أن نلاحظ العقلانية الأبدية، ولا يسعنا إلا أن نهتدي بها إلى الله الواحد، خالق السماء والأرض. إن نظرنا بهذا الشكل، سنرى أن من خلق العالم هو الذي ولد في مغارة في بيت لحم، والذي يستمر في السكنى وسطنا في سر الافخارستيا، هو الله الحي نفسه الذي ينادينا ويحبنا، ويرغب في إرشادنا إلى الحياة الأبدية.

هيرودس، الخبراء في الكتب المقدسة، والنجم. لكننا نتابع درب المجوس الذين يصلون إلى أورشليم. يختفي النجم فوق المدينة العظيمة، ويصبح غير مرئي. ما معنى هذا؟ في هذه الحالة أيضاً، يجب أن نفسر العلامة بتعمق. كان من المنطقي لأولئك الرجال أن يبحثوا عن الملك الجديد في القصر الملكي الذي كان يوجد فيه مستشارو البلاط الحكماء. وإنما لكانوا قد رأوا بذهول أن المولود الجديد لم يكن موجوداً في أماكن السلطة والثقافة، على الرغم من أنهم حصلوا في تلك الأماكن على معلومات ثمينة عنه. لقد أدركوا بدلاً من ذلك أن السلطة أحياناً، بما فيها سلطة المعرفة، تشكل عائقاً في درب اللقاء مع ذلك الطفل. لهذا السبب، أرشدهم النجم إلى بيت لحم وهي مدينة صغيرة، أرشدهم بين الفقراء والمتواضعين لإيجاد ملك العالم. إن معايير الله مختلفة عن معايير البشر؛ الله لا يظهر ذاته بقوة هذا العالم، بل بتواضع محبته، تلك المحبة التي تطالب بقبول حريتنا لتبدلنا وتجعلنا قادرين على المجيء إليه هو المحبة. لكن الأمور بالنسبة إلينا ليست متنوعة كما كانت بالنسبة إلى المجوس. لو سئلنا عن رأينا في الطريقة التي كان ينبغي على الله أن يخلص العالم بها، لربما كنا أجبنا أنه كان ينبغي عليه أن يظهر كل قوته ليمنح العالم نظاماً اقتصادياً أكثر عدلاً، نظاماً يحصل فيه كل فرد على مبتغاه. في الواقع أن هذا يعتبر نوعاً من العنف ضد الإنسان لأنه يسلبه العناصر الأساسية التي تميزه. فلا حريته ولا محبته كانتا ستُقحمان. قوة الله تظهر بطريقة مختلفة تماماً: في بيت لحم حيث نجد العجز الظاهري لمحبته. إلى هناك يجب أن نذهب، وهناك نجد مجدداً نجم الله.

هكذا يتضح لنا عنصر أخير مهم في حدث المجوس: لغة الخلق تسمح لنا باتباع جزء مهم من الدرب المؤدية إلى الله، لكنها لا تمنحنا النور الحاسم. في النهاية، كان من المهم للمجوس أن يسمعوا صوت الكتب المقدسة، فهي وحدها التي كانت قادرة على أن تدلهم إلى الطريق. كلمة الله هي النجم الحقيقي الذي، وفي شك المحادثات البشرية، يقدم لنا روعة الحقيقة الإلهية. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، دعونا نسمح لأنفسنا بالاهتداء بالنجم، أي بكلمة الله، دعونا نتبعه في حياتنا، سائرين مع الكنيسة، حيث نصب الكلمة خيمته. ستظل دربنا منورة بنور لا تستطيع أي علامة أخرى أن تعطينا إياه. وسنتمكن نحن أيضاً من التحول إلى نجوم للآخرين، وانعكاس لذلك النور الذي أضاءه المسيح علينا. آمين. 
 

نقلته إلى العربية غرة معيط (Zenit.org)

حقوق الطبع محفوظة لمكتبة النشر الفاتيكانية 2011