بين الخوف والرجاء

المونسنيور بيوس قاش

روما، الجمعة 21 يناير 2011 (Zenit.org)

قصة الله معنا قصة طويلة… إنها قصة حب… حب يعطي ويبذل ولا شيء  آخر… سار قديماً مع محبّيه، وواصل المسيرة بابنه في الجديد حتى وصوله إلى كل واحد منا … إليكَ… إليَّ… وكأنه في رحلة مستديمة مع الإنسان ومن أجله، لأنه يحبه… إنه يريد الخير لنا، ولكننا نفضّل الشر أحياناً… يخطط لخلاصنـا، ولكننا لا ندخل بوابة هذا الخلاص… يعدّ لنا مشروعاً من أجل الحياة، ولكننا نرفض أن نساهم في هذا المشروع، ويصل بنا الأمر أحياناً إلى تركه، فيصل به الأمر إلى أن يقاصصنا كونه يحبنا، لكنه لا يقطع معنا جسور العلاقات والحوارات… يسعى ويسعى وراء الخاطئ حتى النهاية حيث يتنازل الله ليأتي به، بالضبط كما حصل لآدم في جنّة عدن، وليونان في نينوى، ولزكريا في الهيكل، وكلٌّ على طريقته هرب من وجه الله واختبأ، ولكن الله لم يتراجع أبداً عن مشروعه… إنه يحب، وحبّه طويل الأناة كونه حبَّ خلاص وليس حبَّ تزييفٍ ونفاق.

          إنْ كان الله يحبنا هكذا، فَلِمَ الخوف!. لنقرأ ما يقوله الإنجيليون: لا تخف يا زكريا (لو 13:1)، لا تخافي يا مريم (لو 30:1)، لا تخف يا يوسف (متى 20:1)، لا تخافوا يا رعاة (لو 10:2)، ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان (متى 26:8)، لا تخافوا أنا هو (لو 38:24)، لا تخافوا أنا غلبتُ العالم (يو33:16)، لا تخافوا أنتم أفضل من عصافير كثيرة (متى 30:10)، لا تخافوا أنا معكم حتى انقضاء العالم (متى 20:28)… إنه يخاف علينا أكثر من خوفنا على أنفسنا، ومع ذلك سنبقى نخاف، بل نحن خائفون. فالخوف يقلقنا في مضاجعنا، يوسوس في عقولنا، يعكّر صفوَ حياتنا، ويُمرّر طعم أكلنا، ويملّح مذاق مياهنا… الخوف في كل مكان وفي كل زمان… الخوف، الخوف، ولا شيء غير الخوف.

          مَن منّا لا يخاف من مرضٍ معدٍ… مَن منا لا يخاف حسد الآخرين وغيرتهم وخيانتهم… مَن منا لا يخاف على المستقبل… مَن منا لا يخاف على مصيره… مَن منا لا يخاف على مستقبل أبنائه… إنه مستقبل ضائع، وكونه كذلك فهو مخيف… نكبر في الخوف، نسير في الخوف، ننام خائفين، نصحو خائفين، والخوف يكبر فينا فتموت أمانينا… خوف من الظروف السياسية… خوفٌ من سلطة الغير علينا… وأصبحنا نخاف حتى من جدران منازلنا مدّعين أن لها آذاناً استخباراتية… خوفٌ من رفاق مسيرتنا كونهم يفتشون عن مصالحهم… نتاجر بالخوف ولا نربح شيئاً إلا مزيداً من الخوف… انقلب كل شيء، تغيّرت القيم وتغيّر مفهومنا لها بسبب هاجس الخوف الذي أصبح زادَنا اليومي، ولم نعد نصلّي "أعطنا خبزنا كفاف يومنا"، بل أصبحت ترتيلتنا غير مسموعة كوننا نخاف نُسْمِعْ صوتَنا ونُنشدْ لحناً، ومن خوفنا غيّرنا حتى كلامَنا، وألّفنا شعراً خائفين من قافيته، بل من صدره وعجزه، وأصبحت صلاتنا: قِنا يا رب خوفَ أنفسِنا طوال نهارِنا، بل حتى في ليلنا، كوننا لم نجد مكاناً بعدُ لله"، بل أصبح الخوف إلهَنا وهو يسيّرنا كيفما يشاء، بل أصبحنا نخاف الله نفسَه هو الذي أحبّنا وحمّلنا مسؤولية الحب لأجل الحياة.

          لقد دُمّر كل شيء… لقد نُهِبَت أموالُنا… لقد أُحتُلّ بلدُنا… فهل من عراقٍ باقٍ؟… الناس من الخوف يهاجرون ويُهجَّرون… بخوفنا على أنفسنا نخوّف أولادنا ونحطّم مستقبلهم، كوننا من خوفنا ندعوهم إلى اليأس، إلى القنوط، إلى عدم الثقة حتى بالإله المحبّ، فنخاف حتى آياته السماوية، فتفسدُ لذةُ العيش وتهبط معنوياتُ الثقة وهيبتها، ومن خوفنا نصوّر أزماتِ أيامِنا، ونقلبُ صفحاتِ تاريخِ أجدادِنا، ونكتب للبشرية السائرة في درب الحياة أن الزمنَ لم يعرف غير الخوفِ الذي ورثناه، واليوم نحياه، وغداً نلقاه… إنه خوف يمرّ فجراً ويصبح صباحاً، ويُمسي مساءً، وكأن الله ليس خالقَ النورِ والظلام، السماءِ والأرض، الإنسانِ والتاريخ، وفي ذلك نصفه بالساكت على الخوف الذي يصيبنا ولا يتحمل مسؤولية حمايتنا، فكيف يريدنا أن نكون أبناءَ كنيسته التي أهمَلَتْنا بدورها _ كما نقولها _ من خوفنا لأنه هو أهملنا!!!.

          كلامنا هذا ما هو إلا كلام إنسان وليس إله… كلام أشخاص نكرات وليس كلام أحبّاء أعزاء… إنه كلام أولئك الذين لا رجاء لهم بل فقدوا الرجاء كونهم كانوا قد بذروا بذارَ الرجاء على طرقاتِ السير، فكان لطيرِ السماء دورُ الغلبة، وأصبحنا نحن _ لسطحية إيماننا _ ننشد نموَّ البذار، فلا بذار كون الخوف أضاعَ كل شيء، حتى أنفسَنا، نخاف أن نقول هي لنا.

          ماذا لو زارنا أحد الحاملين لأسماءِ العروش العالية؟، ماذا لو زارنا قويٌّ من أقوياء الزمن وغنيٌّ من أغنياء العالم، وهمسوا في آذاننا "لا تخافوا ستجلسون على كراسي الحكم. لا تخافوا سنوزع لكم أرزاقاً وأموالاً. لا تخافوا سنكون معكم وسنرافقكم ونخرجكم من بين الجدران الفاصلة، وسنهدم سياجات الكونكريت والحديد ونجعلكم تجتازون بسلام نقاط السؤال والتفتيش"؟، ألا نطمئنّ إلى ذلك!، ألا نقول ما أجمل الحياة في حضرة الأستاذ!، وكما يقول المصريون "حضرة البيه"، ألا تكبر معنوياتُنا وترتفع أصواتنا عاليةً منشدةً ومغنيةً وهاتفةً!… ولكن أسألكم يا قرّاء مقالي هذا: ألا تعلمون جيداً أن حاملَ اسم العرش والجالسَ عليه وصاحبَ الأموال وآخرين، أليسوا هم أيضاً عرضةً للتقلّب والتغييرر؟، أليسوا هم سريعو العطب بسبب المرض والجوع والزلازل والفيضانات و… و…؟. إنهم ، هم أيضاً يخافون من الزمن، من صحتهم، على كراسيهم وأموالهم… ولكن إذا نظرنا إلى الماضي القريب، بل حتى البعيد، ألا نرى أن الإيمان الذي في داخلنا جعلنا نجتاز أزماتٍ وضيقاتٍ وعبرناها بكل ثقة لأن يدَ الله كانت معنا، وذلك ما لم نعرفه إلا بعد عبورنا تلك الأزمة، ولم تكن إلا أطروحة لنعيد علاقاتنا مع الله المحب، فنحيا الحب، وإذا ما عشناه لن نخاف لأن خوفَنا سيكون رجاؤنا.

          فلماذا نخاف؟… لماذا نرحل؟… لماذا نهاجر؟… لماذا نخيف الآخرين بسبب خوفنا؟… أليس هذا قطع الرجاء؟… وأليس قطع الرجاء خطيئة جسيمة ، كونها ضد الروح القدس .

          إن كانت الكنيسة أمّنا تعلّمنا أن الله أحبّنا ويحبّنا وسيبقى يحبّنا، ألم ينادينا بأسمائنا!، ألم ينادي مريم باسمها "لا تخافي، فقد نلتِ حظوة عند الله" (لو 30:1)!، ألم ينادي زكريا باسمه "لا تخف، فإن صلاتكَ قد سُمِعَت" (لو 13:1)… إنه يريدنا لرسالة من أجله، وينتدبنا كي نكون صوت صارخ في برية الرجاء، كما ينتدبنا كي نكون شهوداً لحقيقة الحياة وشهداء لمسيرة الزمن، وفي ذلك كله نشهد للرجاء الذي لا يخيب (رو 5:5). فبقدر ما تكون ثقتنا بمحبة الله، هكذا يكون رجاؤنا في أن الله معنا وهو حامينا، فهو الذي سبق وقال لنا:"لا تخافوا…". المشكلة ليست في الله، إنها فينا. فإذا كانت ثقتنا بالله وبكلامه فلن نخاف، لأن إيماننا بهذه الثقة يُنتج رجاءً محيياً، وهو الطوبى التي قالتها أليصابات لمريم:"طوبى لكِ لأنكِ آمنتِ بما قيل لكِ من قبل الرب" (لو 45:1).

وهل من ضمانة أكبر من أن يكون المسيح معنا حتى انتهاء العالم؟، وهل نثق نحن بأنه معنا اليوم كما كان مع الرسل في الزورق لمّا هبّت العاصفة وهم في عرض البحر؟، لم يعودوا يرون يومها إلا البحر الهائج والخطر المحدق بهم، ولم يعودوا يرون المسيح… في هذه الظروف القاسية، ألا نتصرف وكأننا لسنا أصحاب رسالة، وكأن المسيح لم يَعِدنا بشيء؟… إنه أرادنا لأرضنا ورسالة لها… أرادنا رسلاً فيها وعلامة خلاص… وهذا وعده لنا أنه وَعَدَنا أنه خلاصُنا وحامينا، فلا مجال للخوف فينا، بل الرجاء يملك في قلوبنا كونه رجاء الحب وجواباً لسؤال الله المحب ، والحقيقة ستُعلن لاحقا رغم العذاب الذي يحتمله البرئ فالاشرار لا يسكتون إلا عندما نمتلئ رجاءاً ونتحد بالله صلاةً ، ومهما كان الشر قوياً يكون رجاء المؤمن صمتاً وانتظاراً لما سيحل ( لو21: 26) ، وما أكثر الأشرار صوراً مقبولة في مسكونة الزمن  ، لكنهم ذئاب خاطفة بلباس –حملان ( لو10:3) وإكنوا بشراً ، يجولون هنا وهناك وكأنهم قديسون . الويل للمرائين المنافقين إنهم رجسة خراب … (متى 24:15) إنهم مسحاء كذابون .. ( متى 24:24).فلا نخاف ولا نيأس، بل نملأ قلوبنا شجاعةً وإيماناً… لنحمل رجاء القيامة كوننا أبناء القائم من بين الأموات… يسوع المسيح … فلا خوف بعدُ علينا… إن الله يحبّنا ويحمينا، ولا أجمل من هذا الحب.

فالويل لنا إن كان لنا في هذه الحياة فقط رجاءٌ في المسيح ( 1كو 19:15)، فإننا أشقى جميع الناس (1كو20:15)… نعم، رجاؤنا لحياة السماء ليس إلا! ، والحقيقة لا تكون إلا بالمسيح كما إن الخوف لا يزول إلا بالرجاء … كما زال الخوف من قلب زكريا فأنشد " ننجو من ايدي اعدائنا ،  غير خائفين طوال ايام حياتنـــا " ( لو75:1) ، من هنا أقول إنّ ضحايا سيدة النجاة هم علامة رجاء ولا يُمكن ان يكونوا علامات خوف ؟ فالمسيحية رسالة رجاء لا حدود لها .

يامريم .. يا نجمة الرجاء .. إجعلينا أن نرفع أنظارنا دوماً إلى حيث إبنكِ ، يسوع المسيح ، فقد دنا خلاصنا (متى 33:24) .