عن ابونا – محمد السمّاك
أي دور للمسلمين العرب بعد مؤتمر السينودس حول مسيحيي الشرق؟
لقد حدّد مسيحيو الشرق موقفهم. وحددوا دورهم المستقبلي. أعربوا عن الألم. ووضعوا تصوراً لمعالجة مواضع الألم بالتعاون مع مسلمي الشرق. ومن هنا كان السؤال الى مسلمي الشرق.
أولاً، باعتبارهم ومسيحيي الشرق يشكلون أمة واحدة وباعتبار انهم صنعوا معاً دولهم الوطنية المتعددة.
ثانياً، باعتبار أن مصيرهم واحد وان مستقبلهم واحد أيضاً.
ثالثاً، باعتبار أن معاناتهم واحدة سواء من جراء اتساع دائرة التطرف والغلو، أو من جراء انحسار مساحة الديمقراطية وتآكل الحريات العامة.
رابعاً، باعتبار أن الهجرة المسيحية التي تعكس في حجمها الإستنزافي حجم معاناة مسيحيي الشرق لا تؤدي فقط الى خسارة المجتمعات العربية قوى فكرية وعلمية وثقافية واقتصادية واجتماعية فقط، ولكنها تؤدي الى ما هو أهم وأخطر وأسوأ من ذلك. تؤدي الى أمرين: تعريض نسيج المجتمعات العربية الى التمزق من الداخل. ذلك أن المزيد من الهجرة المسيحية يعني المزيد من التطرف. والمزيد من التطرف يعني القليل من الحرية.
أما الأمر الثاني فهو أن هذه الهجرة توجه رسائل عملية الى المجتمعات العالمية بأن المسلمين لا يتعايشون مع المسيحيين وان هذا اللاتعايش في الشرق يعني لا تعايش في الغرب أيضاً، علماً بأن ثلث المسلمين في العالم البالغ عددهم 1،5 ملياراً، يعيشون في دول وفي مجتمعات غير اسلامية.
خامساً، باعتبار أن مواجهة العدو الإسرائيلي واحدة، سواء من خلال البعد الوطني أو من خلال البعد الديني. وقد كرس السينودس البعديْن معاً. فليس صحيحاً ان المسلمين وحدهم يحتكرون مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وللقدس. ان تاريخ المقاومة الفلسطينية يؤكد عدم صحة هذا الادعاء الواهم. كذلك فان تاريخ المقاومات الوطنية في لبنان وسوريا والأردن ومصر يزخر بالشهداء المقاومين من المسيحيين.
هنا لا بد من العودة قليلاً الى الوراء.
فعندما أعلنت بريطانيا في ابريل 1947 قرارها بإنهاء انتدابها على فلسطين وبإحالة القضية الفلسطينية الى الأمم المتحدة، وجد الفاتيكان نفسه في ضوء هذا القرار وجهاً لوجه امام واحد من ثلاثة احتمالات: اما ان تتحول فلسطين الى دولة يهودية، واما ان تقسم بين اليهود والعرب، واما ان تبقى دولة واحدة بأكثرية عربية.
الاحتمال الأول كان مرفوضاً فاتيكانياً من حيث الشكل والأساس، كما جاء في رسالة وزير خارجية الفاتيكان الى الادارة الأميركية. اما الاحتمال الثاني (اي التقسيم) فقد رفضه الفاتيكان بشدة ايضاً على لسان رئيس الأساقفة في نيويورك سبلمان وذلك على أساس"ان ارض فلسطين كلها هي أرض مقدسة بالنسبة الى المسيحية". واما الاحتمال الثالث، أي عروبة فلسطين، فقد دافعت عنه بقوة وبحرارة في الفاتيكان الكنائس الكاثوليكية العربية، كما دافعت عنه الكنائس الشرقية المختلفة. ونظراً لاهتمام الكرسي الرسولي بمستقبل المسيحية العربية وحرصه على حضورها وعلى مصالحها، واستناداً الى الإيمان المسيحي في الأساس، فقد تجاوب مع هذا الموقف. كان الفاتيكان يدرك ان اعلان هذا الموقف رسمياً أي التمسك بعروبة فلسطين-يضعه في حالة صدام مباشر مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي اللذين كانا يتنافسان على من يكون الأول في الاعتراف بإسرائيل. كما ان الفاتيكان كان يدرك ان منظمة الامم المتحدة لم تعد قادرة على اسقاط او تعطيل التوافق الأميركي السوفياتي على قيام إسرائيل. ومع ذلك تبنى الفاتيكان موقف كنائس الشرق والتزم به.
لم يقتصر تأثير كنائس الشرق على موقف الفاتيكان وحده. فمن خلال الفاتيكان تأثر بهذا الموقف والتزم به أيضاً عدد من الدول الكاثوليكية. منها اسبانيا والبرتغال وإيرلندا في أوروبا، ومنها العديد من دول أميركا اللاتينية. ولم يعترف الفاتيكان نفسه ولا معظم هذه الدول الكاثوليكية بإسرائيل إلا بعد كمب دافيد وبعد التوقيع على معاهدات السلام بين مصر وإسرائيل، ثم بين الأردن وإسرائيل.
ولكن الآن عندما تجد كنائس الشرق انها بكل من تمثل وما تمثل تتعرض للأذى، بل للاعتداء، وتتعرض مقدساتها للانتهاك وتصبح حياة المؤمنين من أبنائها في خطر على أيدي أخوة لهم في الوطن، ومن دون أن يكونوا طرفاً في صراع على السلطة، أو في تحالف مع أو في حالة استقواء بأي قوة خارجية.. على النحو الذي يتوالى فصولاً في العراق مثلاً.. عندما تواجه كنائس الشرق هذا الواقع الخطير والمؤلم كيف تستطيع أن تواصل أداء الدور التاريخي البنّاء الذي لعبته في السابق؟. ربما يكون هذا التساؤل قد تردد في بعض المداخلات خلال انعقاد السينودس. مع ذلك فان السينودس وبرئاسة البابا بندكتس السادس عشر أعلن انه لا يوجد أي مبرر ديني للإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة. ويتجاوب هذا الإعلان مع نداء "الكايروس كلمة حق" الذي سبق أن أصدرته الكنائس الفلسطينية من القدس والذي دعا كنائس العالم الى عدم توفير أي شرعية لاهوتية للإحتلال الإسرائيلي، والى وجوب التعامل مع هذا الإحتلال على أنه ليس مناقضاً لحقوق الإنسان وللشرعة الدولية ولقرارات الأمم المتحدة فقط، ولكنه مناقض أيضاً للاهوت المسيحي، وهذا ما حدث.
في ضوء هذه الاعتبارات الخمسة نعود الى السؤال الأساس: أي دور الآن لمسلمي الشرق؟
من حيث التوقيت يفترض أن يبادر مسلمو الشرق الى اداء الدور المطلوب منهم ولهم اليوم قبل الغد. فالتأخير يوحي بقلة الإهتمام. وفي ذلك رسالة ضمنية سلبية يجب تجنب الإيحاء بها ولو عن حسن نية. فالإعتداءات على مسيحيي الشرق تتوالى، وهجرتهم تتسارع، والاسلاموفوبيا كرد فعل مسيحي وغربي على هذه الهجرة، تتضخم يوماً بعد يوم.
ثمة ملاحظتان هنا تجدر الاشارة اليهما. الملاحظة الأولى هي أن تأخر المسلمين في الرد الإستنكاري على جريمة 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، أدى الى توفير الفرصة لتعميم تهمة الإرهاب على الإسلام كله، وكان ذلك خطأ ما زلنا ندفع ثمنه غالياً حتى اليوم.
والملاحظة الثانية هي أن سرعة المسيحيين في الرد الإستنكاري على محاولة إحراق القرآن الكريم أدت الى منع ارتكاب الجريمة وتالياً الى إنقاذ العلاقات المسيحية الاسلامية من تداعيات خطيرة كان يمكن ان تتعرض لها. ولذلك فإن التوقيت لا يقل أهمية عن المضمون. وفي ثقافتنا الإسلامية ان خير البرّ عاجله.
أما من حيث الأساس، فقد مدّ الفاتيكان ومعه كل كنائس الشرق، اليد الى مسلمي الشرق للعمل معاً من أجل أهداف اربعة:
1- احترام حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقوق المواطنة.
2- احترام الحريات العامة وفي مقدمتها الحرية الدينية وحرية الضمير.
3- احترام أسس وقواعد العيش الوطني الواحد بما يوفر الأمن والطمأنينة والسلام، ويحقق الاستقرار والإزدهار لشعوب الشرق جميعها.
4- احترام صيغة التنوع الديني والمذهبي والعرقي التي عرف الشرق بها منذ حضاراته الأولى، ومنذ أن تجلّت فيه رسالات السماء الإبراهيمية الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.
ان العمل على تنفيذ هذه البنود يحقق أهدافاً قومية كبرى في مقدمتها محافظة المجتمعات العربية على نسيجها الوطني الواحد والمتنوع، وتصحيح صورة الإسلام في العالم، ديناً يؤمن بالمسيحية رسالة من عند الله، ويؤمن بشراكة المواطنة بين المسلمين والمسحيين وبقدرتهم بل وبرسالتهم على أن يقدموا النموذج الحيّ للوحدة في التنوع ولصيغة العيش معاً بين المختلفين دينياً ومذهبياً باحترام ومحبة.
عن ابونا