الإنسانُ لا «يستخدمُ» اللغة فحسب، بل «يسكنُ» فيها أيضًا"
حاضرة الفاتيكان، الخميس 03 مارس 2011 (Zenit.org)
ننشرُ فيما يلي حديث البابا بندكتس السادس عشر لدى استقباله هذا الاثنين المشاركين في اجتماع المجلس الحبري لوسائل الاتصالات الاجتماعية الذي انعقد في روما من الاثنين ولغاية الخميس 3 مارس حول موضوع "اللغة ووسائل الاتصالات".
* * *
أيّها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إنني سعيدٌ لاستقبالكم بمناسبة اجتماع المجلس. أحيي رئيس المجلس، المونسنيور كلاوديو ماريا تشيلي، الذي أشكرهُ أيضًا على كلماته اللطيفة. كما أحيي الأمناء والمسؤولين والمستشارين والموظفين كافّة.
في الرسالة بمناسبة اليوم العالمي لوسائل الاتصالات الاجتماعية لهذا العام، دعيتُ للتأمّل في كيف أن التقنيات الجديدة لا تغيّرُ فقط طريقة الاتصال، ولكنها تسهمُ أيضًا في تغيّرٍ ثقافي واسع؛ إذ تطوّرُ طريقةً جديدة للتعلّم والتفكير مصحوبة بفرصٍ لا سابق لها من توطيد العلاقات وبناء الجماعة. أريدُ أن أركّز الآن على حقيقة أن الفكر والعلاقة يأتيان دومًا عن طريق اللغة، والتي تُفهَم طبيعيًا بمعناها الأوسع وليس الشفهي فحسب؛ فاللغة ليست مجرّد تبادلٍ آني للمفاهيم، بل المحيط الحيّ والنابض الذي تولدُ فيه أفكارُ واهتماماتُ ومشاريعُ البشر بالمعرفة، وتُصاغ بالأفعال والرموز والكلمات. فالإنسانُ إذًا لا «يستخدمُ» اللغة فحسب، بل «يسكنُ» فيها أيضًا. وبصورةٍ خاصّة اليوم، فإنّ ما عرّفه المجمعُ الفاتيكاني الثاني بـ"الاكتشافات التقنية العجيبة" (من بين الاكتشافات العجيبة، 1)، بدأ يغيّرُ المحيطَ الثقافي، وهذا يتطلبُ اهتمامًا خاصًّا باللغات التي تنمو من خلالها هذه الاكتشافات. فالتقنياتُ الحديثة "لها القدرة ليس على صياغة التفكير فحسب، بل محتوياته أيضًا" .
إنّ اللغات الجديدة التي تنمو في وسائل الاتصال الرقمية تنمّي، من بين أمورٍ أخرى، قدرةً أكثرَ غريزية وعاطفية منها تحليلية، وتوجّه الإنسانَ نحو تنظيمٍ منطقي مختلف للفكر والعلاقة مع الواقع، وغالبًا ما تفضّل الصورة والروابط التشعبيّة. ويبدو أنّ التمييز التقليدي بين اللغة المكتوبة والشفوية بدأ يتلاشى لصالح الاتصال بالكتابة الذي أخذَ صيغة وسرعة ذلك الشفهي. فديناميكيات "الشبكات الاجتماعية" تتطلبُ أيضًا من الشخص الاشتراك فيما يوصله؛ فعندما يتبادل الأشخاصُ المعلومات، فإنّهم يتقاسمون في الوقت ذاته أنفسهم ونظرتهم عن العالم ليصبحوا "شهودًا" لذلك الذي يعطي معنى لوجودهم. وتقعُ تحتَ أنظار الجميع أيضًا المخاطر التي تنطوي عليها: فقدان الحياة الداخلية، السطحية في عيش العلاقات، الهرب إلى العاطفة، سيادة الرأي الأكثر اقناعًا على الرغبة في الحقيقة، وبالعموم فهي نتيجة عدم القدرة على عيش ملء وأصالة معنى الابتكارات. هكذا نفهم لماذا أصبحَ التأمّل في لغات التقنيات الحديثة أمرًا ملحًّا، ويشكّلُ الوحيُ الإلهي نقطة انطلاقنا، إذ يشهدُ لنا كيف أوصلَ اللهُ عجائبه بلغةِ وخبرة البشر الواقعية، "بحسب ثقافة كلّ عصر" (فرح ورجاء، 58)، حتّى إظهار نفسه الكامل في الابن المتجسد. إنّ الإيمانَ يخترقُ ويُغني ويرفع ويُحيي الثقافة دومًا، والثقافة بدورها تصبحُ رابطًا للإيمان وتعطيه اللغة ليعبّر من خلالها عن نفسه. من الضروري إذًا أن نكون مصغين بانتباه إلى لغات البشر في عصرنا، لنكون منتبهين على عمل الله في العالم.
في هذا السياق، يُعتبرُ ضروريًا عملُ المجلس الحبري لوسائل الاتصالات الاجتماعية في تعميق "الثقافة الرقمية"، حاثًا ومساندًا على التأمّل لإدراكٍ أكبر للتحديات التي تترقبُ الجماعة الكنسية والمدنية. ولا يقتصرُ هذا العمل على نقل الرسالة الإنجيلية بلغة اليوم، بل يتطلبُ أيضًا، كما حدثَ في العصور الأخرى، الشجاعة للتفكير بطريقةٍ أكثر عميقة في العلاقة بين الإيمان وحياة الكنيسة من جهة، وتغيرات الإنسان في عصره من جهةٍ أخرى. إنّه التزامٌ لمساعدة جميع المسؤولين في الكنيسة ليكونوا قادرين على فهم وتفسير وتكلّم "اللغة الجديدة" لوسائل الإعلام في الحقل الرعوي (راجع عهد جديد، 2) في حوارٍ مع العالم المعاصر، طارحين دومًا السؤال على أنفسهم: ما هي التحديات التي يضعها ما يُسمّى "الفكر الرقمي" على الإيمان واللاهوت؟ ما هي التساؤلات والمطاليب؟
إنّ عالم الاتصالات يمسّ العالم الثقافي والاجتماعي والروحي بأكمله للشخص البشري؛ فإذا كان للغات تأثير في طريقة التفكير والعيش، فذلك يتعلق، بطريقةٍ أو بأخرى، بعالم الإيمانِ وفهمه وصيغته أيضًا. فاللاهوت بحسب التعريف التقليدي، هو ذكاء الإيمان، ونعلمُ جيدًا كيف أن الذكاء، كونه معرفة تأمليّة ونقدية، ليس بعيدًا عن التغيرات الثقافية الحالية. كما تضعُ الثقافة الرقمية تحدياتٍ جديدة على قدرتنا في التحدّث بلغةٍ رمزية وسماعها، والتي تتكلمُ عن السموّ. يسوعُ نفسه لدى إعلانه الملكوت، عرفَ كيف يستخدم عناصر ثقافة محيطه: القطيع، الحقول، الوليمة، البذور وهكذا. ونحنُ مدعوون اليوم لنكتشف، حتّى في الثقافة الرقمية، الرموز والاستعارات المهمّة للأشخاص، والتي يمكنُ أن تساعدهم في الكلام عن ملكوت الله للإنسان المعاصر.
ومن الجدير بالاعتبار أيضًا أن وسائل الاتصال في وقت "وسائل الاعلام الحديثة"، تعملُ على خلق رابطٍ قوي وطبيعي بين الإنسان والآلات، من بينها آلات الحاسوب والهواتف الخلوية لذكر أمثلةٍ أكثر شيوعًا. ماذا ستكون نتائج هذه العلاقة الدائمة؟ كان البابا بولس السادس، مشيرًا إلى المشاريع الأولى للتحليل اللغوي للنصّ الكتابي، قد أشارَ إلى مسار التفكير الصحيح عندما كان يتساءل: "ألا يشكّل جهدًا كبيرًا تعميقُ التأمّل في الوظائف الروحية، التي تشكّل مدعاة فخر ورفعة لخدمةٍ ما، في وسائل ميكانيكية تمسّ ما هو قدّوس؟ ألربما الروحُ سجينُ المادّة؟! أوَ ليست المادة، المجبرة والمروضة لاتباع قوانين الروح، من توفّر للروح ذاته تكريمًا ساميًا؟" (حديث إلى مركز اولزياميوم كالاراتي، 19 يونيو 1964). ندرك من هذه الكلمات الرابطُ العميق مع الروح الذي تدعى إليه التكنولوجيا بحكم دعوتها (راجع المحبة في الحقيقة، 69).
إنّهُ نداءٌ للقيم الروحية التي ستشجّع على اتصالٍ أكثر إنسانيةً؛ فبعيدًا عن أيّ تحمّس أو شكوكية، نعلمُ أنه إجابة للدعوة المزروعة في طبيعتنا المخلوقة على صورة الله ومثاله ، إله الجماعة. ولذلك، فإن وسائل الاتصال الكتابية، وفقًا لإرادة الله، مرتبطة دومًا بالحوار والمسؤولية، كما تشهد على سبيل المثال شخصية ابراهيم وموسى ويعقوب والأنبياء، على عكس الاغراء اللغوي في حالة الحيّة، أو عدم قابلية الاتصال أو العنف في حالة قايين. فمشاركةُ المؤمنين يمكنُ أن تسهم في إغناء عالم الإعلام ذاته، إذ تفتحُ أفقًا من المعنى والقيم لا تستطيعُ الثقافة الرقمية لوحدها أن تتلمسها أو أن تمثلها.
وفي الختام، يسرّني أن أذكر، إلى جانب العديد من الشخصيات الإعلامية، الأب ماتيو ريتشي، بطل إعلان الإنجيل في الصين في العصر الحديث، والذي احتفلنا بالمئوية الرابعة على وفاته. في عمله على نشر رسالة المسيح، أخذ بالاعتبار دومًا الشخص والمحيط الثقافي والفلسفي وقيمه ولغته، مستفيدًا من كلّ ما هو إيجابي في تقليده، ومجتهدًا لإحيائه ورفعه بحكمة وحقيقة المسيح.
أيّها الأصدقاء الأعزاء، أشكركم على خدمتكم وأوكلُها لحماية العذراء مريم، وأضمنُ لكم صلاتي مانحًا لكم بركتي الرسولية.