عظة الصوم الثالثة للأب رانييرو كانتالاميسا

فليكنْ عملُ الخير دون رياء

الفاتيكان، الاثنين 11 أبريل 2011. (Zenit.org)  

ننشر في ما يلي العظة الثالثة لزمن الصوم التي ألقاها واعظ الدار الحبرية الأب رانييرو كانتالاميسا الكبوشي يوم الجمعة في الفاتيكان.  

1.       أحببْ قريبك كما تحبّ نفسك

هناك أمرٌ مُلاحظ: يكوّنُ نهرُ الأردن في مجراه بحرَين: بحر الجليل والبحر الميت. بينما يمتازُ بحرُ الجليل بالحياة وتُعتبرُ مياهُهُ من أكثر المياه الحاملة للسمك على الأرض، البحرُ الميت بعكسه تمامًا "ميت"، فلا يوجدُ فيه ولا من حواليه أيُّ أثرٍ من الحياة غير الملوحة فقط. مع ذلك فكليهما ينبعان من مياه الأردن ذاتها. تفسيرُ هذه الظاهرة، على الأقلّ في جزءٍ منها، هو التالي: بحرُ الجليل يستقبلُ مياه الأردن ولكنّه لا يحتفظُ بها لنفسه بل يسيرُ بها بحيث يسقي جميع وديان الأردن.

أمّا البحرُ الميّت فيستقبلُ المياه ويحتفظُ بها لنفسه، فلا تخرجُ منه قطرة مياه. إنّه رمز؛ فلكي نقتبلَ محبّةَ الله، لابدّ لنا من تمريرها للإخوة، لا بل كلّما أعطينا أكثر كلّما اقتبلنا أكثر. وحول هذا النقطة بالضبط نريدُ التأمّلَ اليوم.

بعد أن تأمّلنا في التأمّلين السابقين في حبّ الله كهبة، جاء الوقتُ للتأمّل في واجب الحبّ، وبصورةٍ خاصّة في واجب محبّة القريب. تظهرُ العلاقةُ بين المحبّتين بوضوحٍ في كلمة الله: "إِذا كانَ اللهُ قد أَحبَّنا هذا الحبّ فعلَينا نَحنُ أَن يُحِبَّ بَعضُنا بَعضًا" (1 يوحنا 4، 11).

"أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ"، كانت تقولُ الوصيةُ القديمة في شريعة موسى (أحبار 19، 18)، ويسوعُ نفسُهُ ينقلها كما هي (لوقا 10، 27). كيف إذًا يُطلقُ عليها يسوعُ "وصيتَهُ" والوصية "الجديدة"؟ الإجابة أنّ معَ يسوع تغيّرَ معنى المحبوب والمحبّ وسبب محبة القريب. تغيّر خاصّةً معنى المحبوب، أي مَن هو القريب الذي علينا أن نحبّه؛ فليس هو من بعد ابنَ البلد، أو كأقصى حدّ الضيف الذي يسكنُ مع الشعب، بل كلّ إنسان وحتّى الغريب (السامري) لا بل حتّى العدوّ أيضًا. صحيح أن الجزء الثاني من الآية "أحببْ قريبَكَ وابغضْ عدوّك" لا يوجدُ في العهد القديم، إلاّ انّها تُلخّصُ توجّهه العام الذي تعّبرُ عنه شريعةُ المقابلة بالمثل "عينٌ بعين، وسنٌ بسن" (أحبار 20، 24)، وتظهرُ بوضوحٍ أكبر فيما إذا وُضِعَتْ بالمقارنة مع كلمات يسوع:

"أَمّا أنا فأقولُ لكم: أَحِبُّوا أعداءَكم وصَلّوا من أجلِ مُضطهديكُم، لتصيروا بني أبيكُمُ الذي في السَّموات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمسَه على الأشرارِ والأخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار. فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟ وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟ فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متى 5، 44-47).

تغيّر أيضًا في حبّ القريب المحبُّ، أي معنى كلمة قريب. فهو ليس الآخر، بل أنا؛ ليس ذلك القريب مني، بل الذي يقترب. في مَثَل السامري الصالح، يبيّنُ يسوع عدم الحاجة لانتظار، بصورةٍ سلبية، أن يظهرَ القريبُ في طريقي من خلال علامةٍ خارقة أو صفّارات انذار. القريبُ هو أنت، أي ذلك الذي تستطيع أن تكونه. القريبُ لا يوجدُ منذ البدء، بل تمتلكه عندما تصبحُ فقط قريبًا لأحد.

تغيّر خاصةً نموذجُ ومقياسُ حبّ القريب. حتّى وقت يسوع، كان النموذج هو أحببْ الآخرين "كما تحبُّ نفسَكَ". قيلَ إن الله لم يستطع أن يضمنَ محبّة القريب ولم يكن ليحصلَ على الهدف ذاته حتّى لو قال: "أحبب قريبك كما تحبّ إلهك!"، لأنّ في محبّة الله – أي حول ماهية حبّ الله – يمكنُ للإنسان أن يخدع، أمّا حول حبّ ذاته، فلا. فالإنسان يعلمُ جيدًا وفي كلّ الظروف ماذا يعني حبّ الذات، فهو مرآة موضوعة أمامه دومًا ولا مفرّ منها.

ومع هذا يوجدُ مفرّ، ولذلك يستبدلُ يسوع هذا النموذج بآخر "وصِيَّتي هي:أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً كما أَحبَبتُكم" (يوحنا 15، 12). إذ يُمكنُ للإنسان أن يحبّ ذاته بطريقةٍ خاطئة، عندما يرغبُ في الشرّ وليس في الخير، في الرذائل وليس في الفضائل. إنسانٌ كهذا، عندما يحبُّ الآخرين كحبّهِ لذاته ويريدُ لهم ما يتمّناه لنفسه، فمَا أفقرَ ذلك الذي أحبّه عندها! بينما نعلمُ نحنُ أين يقودُنا حبّ يسوع: إلى الحقيقة والخير، إلى الآب. من يتبعُهُ "لا يمشي في الظلام". لقد أحبّنا معطيًا لنا حياته عندما كنّا خطأة، أي أعداء (روما 5، 6).

نفهمُ بذلك ماذا يعني الانجيلي يوحنا في تأكيده الذي يظهرُ متناقضًا بوضوح: "أَيُّها الأَحِبَّاء لَيسَ بِوَصِيَّةٍ جَديدَةٍ أَكتُبُ إِلَيكم بل بِوَصِيَّةٍ قَديمة هي عِندكم مُنذُ البَدْء. وهذهِ الوَصِيَّةُ القَديمة هي الكَلِمَةُ الَّتي سَمِعتُموها. على أَنَّها أَيضًا وصِيَّةٌ جَديدة أَكتُبُ بِها إِلَيكم" (1 يوحنا 2، 7-8). وصيةُ محبّة القريب "قديمة" في الرسالة، ولكنها "جديدة" أيضًا بجديد الانجيل ذاته. يشرحُ البابا في إحدى فصول كتابه الجديد حول يسوع، إنها جديدة لأنّها ليست من بعد مجرّد "شريعة" بل قبل كلّ شيء "نعمة" تُبنى على الشِركة مع المسيح، وتعطي نعمة الروح. فمع يسوع يعبرُ الإنسان من شريعة العقاب، التي تنحصر على شخصين: "ذلك الذين يفعلُهُ الآخرُ لك، افعله له"، إلى شريعة الانتقال أي بين ثلاثة أشخاص: "ذلك الذي فعلَهُ اللهُ لك، افعلْهُ انت للآخر"، أو الانطلاق بالعكس: "ذلك الذي ستفعله مع الآخر، هو ما سيفعله اللهُ معك". وهنا تأتي كلماتُ يسوع والرُسل التي تعيدُ المفهومَ ذاته: "كما غفر لكم الله، أغفروا أنتم أيضًا أحدكم للآخر"، "إذا لم تغفروا من كلّ قلوبكم لأعدائكم، فلن يغفر لكم الآب". وتأتي هنا الحجّة: "ولكنه لا يحبّني ويهينني…". هذا يخصُّهُ هو، لا يخصّك أنت. عليك أن تهتمّ فقط بذلك الذي عليك فعلهُ للآخر وبكيفية السلوك أمام ما يفعله الآخرُ لك. تبقى الإجابة معلّقة على السؤال الأساسي: لماذا هذا يعطي الله هذا التميّز الفريد لحبّ القريب؟! ألمْ يكن منطقيًا أن ننتظرَ من الله القول: "كما أحببتكم، هكذا أحبوني!" بدلاً من "كما أحببتكم، هكذا أحبّوا بعضكم بعضًا"؟ هنا يكمنُ الفرق بين حبّ الايروس Eros الصافي، وحبّ الايروس والاغابي Agape سويةً. الحبّ الايروس الصافي الشهواني يقعُ في دائرةٍ مغلقة: "أحببني، أحببني ألفريد بقدر ما أحبّك" كما تغنّي فيوليتا في "ترافيتا دي فيردي": أنا أحبّك، فأحببني أنتَ. أمّا الحبّ الاغابي فهو في دائرةٍ مفتوحة؛ يأتي من الله ويعودُ إليه لكنّه يمرُّ من خلال القريب. ويسوع بدأ هذا النوع من الحبّ بذاته: "كما أحبَّني الآبُ، هكذا أحبَبتكم" (يوحنا 15، 9). أعطت القديسة كاترينا السينائية تفسيرًا أكثر بساطة وإقناعًا لهذا السبب. إذ وضعت على لسان الله هذه الكلمات:

"اطلبُ منكم أن تحبّوني بذات المحبة التي أحببتكم بها. لا تستطيعون فعل هذا لي، لأنني أحبّكم دون أن أطلب أن اكون محبوبًا. كلّ الحبّ الذي لديكم تجاهي هو حب تعيشونه كدَيْن وليس نعمة، بينما أنا أحبّكم بحبّ النعمة وليس كدَيْن. فأنتم لا تستطيعون أن تحبّوني بالحبّ الذي أطلبُهُ منكم، ولذلك وضعتُكم إلى جانب قريبكم، لكي تعملوا له ما لا تقدرون أن تفعلوه لي، أي لتحبّوه دون اعتبار الاستحقاق ودون انتظار أيّة منفعة. وأنا اقبلُ ما تفعلوه لأجلي من خلال ما تفعلونه له".

2.       أحبّوا بعضكم بعضًا بقلبٍ صادق

بعد هذه التأمّلات العامّة حول وصية محبّة القريب، جاء الوقت للتحدّث عن نوعيّة هذا الحبّ. هناك مبدئيًا نوعيتان: أن يكون حبًّا صادقًا وعمليًا، وأن يكونَ حبًّا من القلب. هذه المرّة سنتوقفُ عند النوعية الأولى واضعين أنفسنا تحت قيادة مُنشد المحبّة الكبير بولس.

الجزء الثاني من الرسالة إلى أهل روما يتكوّنُ من مجموعةٍ من التوصيات حول الحبّ المتبادل داخل الجماعة المسيحية: "ولْتَكُنِ المَحبَّةُ بِلا رِياء (…) لِيَوَدًّ بَعضُكم بَعضًا بمَحَبَّةٍ أَخَوِيَّة. تَنافَسوا في إِكرامِ بَعضِكُم لِبَعض" (روما 12، 9). "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة" (روما 13، 8).

للحصول على نفسٍ توحّد في داخلها جميعَ هذه التوصيات، تكمنُ الفكرةُ في العمق، أو بالأحرى "شعورُ" المحبة لدى بولس، في كلمات البداية: "فلتكن المحبة بلا رياء". ليست واحدة من بين إرشاداتٍ كثيرة، بل الأصل الذي منه تنبثق جميع الأخريات، لأنّها تحوي سرّ المحبّة. سنحاولُ بمساعدة الروح القدس أن نكتشفَ هذا السرّ.

المصطلحُ الأصلي الذي استخدمه بولس، والذي تُرجمَ إلى "دون رياء"، هو anhypòkritos، أي دون نفاق. إنه في الواقع مصطلح قليل الاستخدام في العهد الجديد، ويُستخدم حصريًا لتعريف الحبّ المسيحي. فتعبيرُ "الحبّ الصادق" (anhypòkritos) يعود مرةً أخرى في 2 كورنثوس 6، 6 وفي 1 بطرس 1، 22. هذا النصّ الأخير يعطي تأكيدًا لمعنى المصطلح ويشرحه بإسهاب؛ فيقولُ إنّ الحبّ النزيه يتضمنُ المحبّة "بقلبٍ صادق". فالقديسُ بولس، بهذه الجملة البسيطة "فلتكن المحبّة بلا رياء!"، يحملُ الحديث إلى أصل المحبّة ذاته، أي إلى القلب. وهذا ما يتطلب من الحبّ أن يكون حقيقيًا وليس متظاهرًا. مثل الخمر، فلكي يكونَ "نزيهًا"، عليه أن يكون من عصير الزبيب، وهكذا الحبّ إذ عليه أن يكون من القلب. وفي هذا أيضًا كان الرسولُ بولس صدىً أمينًا لفكر يسوع الذي أشارَ عدّة مرات وبقوّة إلى القلب كـ"مكانٍ" يُقرر فيه قيمة ما يفعلُهُ الإنسان، أي ما هو نقي وغير نقي في حياته (متى 15، 9).

يمكنننا التكلم هنا عن حدسٍ بولسي فيما يخصّ المحبة، فهو يكتشفُ خلفَ الكون المنظور والخارجي للمحبّة وخلف الأعمال والأقوال، كونًا آخر داخلي، بمقارنته مع الأول يصبحُ مثل النفس للجسد. نجدُ هذا الحدس في نصٍ كبيرٍ آخر حول المحبّة، في 1 كورنثوس 13. إذا لاحظنا جيدًا، فإنّ ما يقوله بولس هنا، يشيرُ بالكامل إلى تلك المحبة الداخلية وإلى مشاعر المحبّة: المحبّة صبورة، رؤوفة، لا تحسد، لا تغضب، تسترُ على كلّ شيء وتصدّقُ كلّ شيء وترجو كلّ شيء … لا تهتمُ بذاتها في عمل الخير بل تقومُ بكلّ شيء لخير الآخر.

ويوضّح الرسول نفسه الفرق بين دائرتي الحبّ، قائلاً إن أكبرَ عملٍ للمحبّة الخارجية – توزيع جميع الممتلكات على الفقراء – لا يفيدُ شيئًا دون المحبة الداخلية (راجع 1 كور 13، 3)، إذ سيكونُ عكس المحبّة "النزيهة". المحبّة المنافقة هي تلك التي تصنعُ الخير دون أن تحبّ، وتُظهر في خارجها ما لا يتوافقُ مع القلب. في هذه الحالة، ستكوّنُ لها مظهرًا خارجيًا يقدرُ أن يخفي الأنانية، البحث عن المصلحة الذاتية، استغلال الأخ، وحتّى تأنيب الضمير. فمن الخطأ مقارنة محبّة القلب بمحبّة الأعمال، أو التمسّك بالمحبة الداخلية فقط لتبرير نقص محبّة الأعمال. وأخيرًا، دون المحبّة "لا ينفعُ شيءٌ" حتّى إعطاء كلّ شيءٍ للفقراء، هذا لا يعني أن هذا لا ينفعُ شيئًا، بل يعني أنه لا ينفعني أنا، بل يمكنُ أن ينفع الفقير الذي يقتبله. لا يعني إذًا تقليل أهمية أعمال المحبّة (هذا ما سنراه كما قلتُ في المرة القادمة)، بل يضمن لها أساسًا واثقًا ضدّ الأنانية وحيلها. يريدُ مار بولس أن يكون جميعُ المسيحيين "متأصّلين في المحبّة" (أفسس 3، 17)، أي أن يكون الحبّ أصلُ وأساس كلّ شيء.

الحبّ بصدق يعني محبّة هذا العمق، حيث لا يمكنُ لكَ أن تكذب، لأنك وحيد أمام ذاتك، أمام مرآة ضميرك فقط، وتحت نظر الله. يكتبُ أغسطينوس" أحببْ الأخ، ذلك الذي أمام الله الذي وحده يرى ويطمأن قلبه في العمق إن كنتَ تسلك حقًا في محبّة الأخ، والعين التي تخترق القلب، حيث الإنسان لا يمكنُ له الوصول، فيؤدي له الشهادة". ولذلك كان حبّ بولس صادقًا لليهود، إذا استطاع القول: "الحقَّ أَقولُ في المسيح ولا أَكذِب، وضَميري شاهِدٌ لي في الرُّوحِ القُدُس، إِنَّ في قَلْبي لَغَمًّا شَديدًا وأَلَمًا مُلازِمًا. لقَد وَدِدتُ لو كُنتُ أَنا نَفْسي مَحْرومًا ومُنفَصِلاً عنِ المسيح في سَبيلِ إِخوَتي بَني قَومي بِاللَّحمِ والدَّم" (روما 9، 13).

لكي تكون خالصة، على المحبة المسيحية أن تنبع من الداخل، من القلب. أعمالُ الرحمة من "أحشاء الرحمة" (كول 3، 12). مع ذلك، علينا أن نؤكد فورًا أننا نتكلم هنا عن أمرٍ أكثرَ عمقًا من مجرّد "الدخول إلى العمق"، أي أكثر من مجرّد تحويل الاهتمام من التطبيق الخارجي للمحبّة إلى ذلك الداخلي. فهذه فقط الخطوة الأولى. فالدخولُ إلى العمق يقفُ عند التقديس! يقول مار بطرس: المسيحي هو ذلك الذي يحبّ "من قلبٍ صادق"، ولكن بأيّ قلب؟ "بـ"قلبٍ جديد وروحٍ جديد" اقتبله في المعموذية! عندما يحبّ المسيحي بهذه الطريقة، فإنّ الله هو الذي يحبُّ من خلاله، ويصبحُ هو قناةً لحبّ الله. كما يحدثُ في التعزية التي ليست سوى نموذجًا للحبّ: "فهو الَّذي يُعَزِّينا في جَميعِ شَدائِدِنا لِنَستَطيعَ، بما نَتَلقَّى نَحنُ مِن عَزاءٍ مِنَ الله، أَن نُعَزِّيَ الَّذينَ هُم في أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَت" (2 كور 1، 4). نحنُ نعزّي بالتعزية التي يعزينا بها الله، نحبّ بالحبّ الذي به يحبّنا الله. وليس بحبٍ آخر. هذا يشرحُ الصدى الذي يحدثه أحيانًا عملٌ بسيط جدًا من الحبّ، وحتى الخفي أحيانًا، والرجاء والنور الذي يخلقه من حوله.

3. المحبّة تبني

إنّ الكلام عن المحبّة في الكتابات الرسولية ليس مجرّدًا أو عامًا، فهناك دومًا هدف بناء الجماعة المسيحية. وبكلماتٍ أخرى، أولُ محيطٍ لممارسة المحبة لابدّ أن يكون الكنيسة، وبالتحديد الجماعة، أي الأشخاص الذين تربطهم علاقة يوميّة. هذا ما يجب أن يحدث  في قلب الكنيسة، بين الذين يعملون قريبين من بعضهم وتربطهم علاقة مع الحبر الأعظم.

في فترةٍ من القدم كان العادة أن تُرسمَ، في إشارةٍ لمصطلح المحبّة "أغابي"، ليس فقط مائدةً أخوية التي كان المسيحيون يتقاسمونها، بل الكنيسة جمعاء. فالشهيد أغناطيوس الانطاكي يحيّ كنيسة روما التي "تترأس المحبّة (الأغابي)، أي "الإخوّة المسيحيّة"، لجميع الكنائس. هذه الجملة لا تؤكدُ أولوية كنيسة روما فقط، بل أيضًا طبيعة هذه الأولوية وطريقة ممارستها، أي بالمحبّة.

فالكنيسة بحاجةٍ إلى موجة من المحبّة تلحمُ انقساماتها. في إحدى أحاديثه قال بولس السادس: "الكنيسة بحاجة أن تشعرَ في جميع أعضائها الإنسانية بتأثير رياح الحبّ، ذلك الحبّ الذي يُسمّى المحبّة التي وضعها في قلوبنا الروحُ القدس الممنوح لنا". فقط المحبة تشفي، إنها زيتُ السامري. زيتٌ لأنه أيضًا يطفو فوق كلّ شيء، كما يفعل الزيت تمامًا مقارنةً بالسوائل الأخرى. "والبَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال" (قولسي 3، 14). فوق الإيمان والرجاء أيضًا، فوق التعليم والسلطة، حتّى وإن كان التعليم والسلطة أحيانًا تعبيرًا عن المحبّة. لا توجدُ وحدة دون محبّة، وإذا وُجِدت ستكونُ وحدة ذات قيمة ضئيلة في عيني الله.

هناك جانب مهم يجبُ إصلاحه: الإدانة المتبادلة. كتب بولس لأهل روما: "فَما بالُكَ يا هذا تَدينُ أَخاكَ؟ ومما بالُكَ يا هذا تَزدَري أَخاكَ؟ … فلْيَكُفَّ بَعضُنا عنِ إِدانَةِ بَعْض" (روما 14، 10 و13). وقبله قال يسوع: "لا تَدينوا لِئَلاَّ تُدانوا … لِماذا تَنظُرُ إِلى القَذى الَّذي في عَينِ أَخيك؟ والخَشَبَةُ الَّتي في عَينِكَ أَفَلا تَأبَهُ لها ؟" (متى 7، 1-3). يشبّه يسوعُ خطيئة القريب (الخطيئة المُدانة)، مهما كان نوعها، بقذى مقارنةً بخطيئة ذلك الذي يدين (خطيئة الإدانة) التي يشبّهها بخشبة، فهي خطيرة في عيني الله.

الحديثُ عن الأدانات معقد ولا يمكنُ تركه ناقصًا دون أن يبدو عندها قليل الواقعية. كيف يعيش الإنسان دون أن يدين؟ الإدانة كامنة فينا، حتّى في نظراتنا. لا يمكنُ أن نراقب أو نسمع أو نعيش دون أن نعطي تقييمًا، أي دون إدانة. الأهل، المدير، المعرّف، القاضي، كلّ من له مسؤولية على الآخرين، عليه أن يدين. لا بل أحيانًا، كما هو الحال لدى كثيرين هنا في الكوريا، الإدانة نوع من الخدمة التي يُدعى أحدٌ للقيام بها في المجتمع أو الكنيسة.

في الحقيقة، ليست الإدانة ما يجبُ أن نقلع من قلوبنا، بل سمّ إدانتنا! أي الحقد والحكم. في إنجيل لوقا نقرأ وصيّة يسوع: "لا تدينوا لئلاّ تدانوا" وتتبعها مباشرةً الآية التي تبدو وكأنّها تفسرُ معنى هذه الكلمات "لا تحكموا على أحد فلا يُحكم عليكم" (لوقا 6، 37). الإدانة بحدّ ذاتها فعلٌ محايد، إذ يمكنُ أن تنتهي إمّا في حكمٍ أو في حلّة وتبرير. كلمةُ الله توبّخُ الإدانات السلبية التي مع الخطيئة تحكمُ على الخاطئ أيضًا، وتهدفُ إلى إنزال العقاب أكثر من بناء الأخ.

أمّ وشخصٌ آخر غريب يمكنهما أن يحكما موضوعيًا على العيب الذي يملكه الطفل، ولكن كم هو مختلف حكم الأم عن حكم ذلك الغريب! الأمّ تعاني لذلك العيب، وكأنّه عيبها هي، تشعرُ بأنها مسؤولة في مساعدة الطفل على التحرّر منه ولا تتغافل عنه… ولذلك، إدانتنا للإخوة لابدّ أن تشبه إدانة الأم، لأننا "عضو واحد للآخر" (روما 12، 5). وقوّة الحبّ المسيحي تكمنُ في قدرته على تغيير اتجاه الإدانة أيضًا، ومن فعل عدم الحبّ يصنعُ فعلَ حبّ.

نقطة أخرى مهمّة في المحبّة النزيهة، الاكرام: "تَنافَسوا في إِكرامِ بَعضِكُم لِبَعض" (روما 12، 10). لإكرام الأخ، لابدّ من عدم المبالغة في اكرام الذات، لا بل إن الرسول يقولُ: "لا تَذهَبوا في الاعتِدادِ بِأَنفُسِكم" (روما 12، 3). من يعتدّ بنفسه كثيرًا يشبهُ إنسان يضعُ أمامَ أعينه مصدر نور قوّي فلا يقدرُ بالتالي رؤية شيءٍ آخر، ولا يقدر أن يرى نور الآخرين، صفاتهم وقيمتهم.

"التقليل" هو الفعل الذي علينا أن نفضّله في العلاقات مع الآخرين؛ تقليل ميزاتنا وعيوب الآخرين، وليس تقليل عيوبنا وميزات الآخرين، كما نفعلُ غالبًا! هناك اسطورة لايسوب في هذا الشأن تقول:

"عندما يأتي كلّ واحد إلى هذا الوادي

يحملُ على الأكتاف

زوجًا من الجِراب

داخل ذلك الذي أمامه

كلّ واحدٍ منّا بسرور

يصيدُ عيوب الآخرين

وفي الأخرى يضعُ عيوبه"

علينا ببساطة قلب الأمور، أي أن نضعَ عيوبنا في الجِراب الذي أمامنا، وعيوب الآخرين في ذلك الذي في الخلف. يقول القديسُ يعقوب: "لا يَقولَنَّ بعضُكمُ السُّوءَ على بَعْض" (يعقوب 4، 11). الوشاية غيّرت اسمها وأصبحت ثرثرة، وبدت وكأنها أصبحت بريئة، بينما هي واحدة من أكثر الأمور التي تلوّث العيشَ سويةً. لا يكفي عدم قول السوء على الآخرين، يتطلبُ أيضًا منع الآخرين من أن يفعلوه بحضورنا، ومحاولة إفهامهم بصمت بأننا لسنا موافقين معهم. أيُّ هواءٍ مختلف يُمكنُ أن نستنشقه في محيط عمل أو في جماعة عندما نأخذُ على محمل الجد كلمات القديس يعقوب! في الكثير من الأماكن العامة، نجدُ أحيانًا هذه الكتابة: "ممنوع التدخين هنا"، أو "ممنوع الكفر هنا". ألم يكن من الأفضل أيضًا تبديل الجملة في بعض الحالات بجملة: "ممنوع الثرثرة هنا"!

نختتم تأمّلنا بالإصغاء إلى حثّ القديس بولس لجماعة فيلبي التي أحبّها كثيرًا: "فأَتِمُّوا فَرَحي بِأَن تَكونوا على رأيٍ واحِدٍ ومَحَبَّةٍ واحِدة وقَلْبٍ واحِدٍ وفِكْرٍ واحِد. لا تَفعَلوا شَيئًا بِدافِعِ المُنافَسةِ أَوِ العُجْب، بل على كُلٍّ مِنكم أَن يَتواضَعَ ويَعُدَّ غَيرَه أَفضَلَ مِنه، ولا يَنظُرَنَّ أَحَدٌ إِلى ما لَه، بل إِلى ما لِغَيرِه. فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع" (فيلبي 2، 2-5).