الصليب

 

"من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني."

 يسوع المسيح (متى 16: 24)

 

    الإنسان المسيحي يعلم بأن الصليب الذي يجب عليه أن يحمله ويتبع الرب يسوع هو ليس مصاغة من معدن أو حجر نفيس يُلبس أو تمثال يوضع في البيت كجزءٍ من الأثاث ليدُلَّ للآخرين على أنه مسيحي وليعلم الله بأنه مسيحي. ولو تساءلنا ما هو الصليب الذي يحتاج أن نزهد بأنفسنا أولاً لكي نحمله ونتبع ربنا يسوع، فسنجد أننا جميعًا كمسيحيين لدينا صليبًا موحّد ويمكننا الرمز له بـ"صليب الروح"، كما أن لكلٍ منا صليبٌ آخر كلاً حسب حياته ويمكننا الرمز له بـ"صليب الجسد". ويمكننا القول:

بقلم نيران إسكندر

 

·        إن صليب الروح/النفس محفورٌ في قلوبنا ألا وهو تعاليم ووصايا ربنا يسوع المسيح؛ أي وعد الله لنا بالحياة الأبدية مع مجده من خلال إتمام مشيئته وطاعته محبةً به ورغبةً لإرضائه أيا كانت هذه المشيئة لكل فردٍ منا؛ ويتضح هذا الحب في أعمال الرحمة للآخرين. ومهما كانت هذه المشيئة لنا كمسيحيين، كوننا كهنة أو أباء أو أمهات أو زعماء … ، فالمطلوب منا أن نكون أطفالاً يُسِرُّون قلب الآب طائعين لكلمته ومُتَّكلين عليه وواثقين به وشاكرين، وناقلين إيماننا بكل صدقٍ وإخلاص.

·        أما صليب الجسد فهو أي شيء ينبغي أن نتحمّله من الألم سواء بسبب علّة بالبدن أو على السبيل العاطفي، وكذلك علينا أن نتقبّله إذ لم يكن بالإمكان شفاءه.

      بالنسبة لتلاميذ المسيح الحقيقيين، فإن صليب الروح سيُحوِّل تدريجيًا قلوبهم إلى قلوبٍ وديعة ومتواضعة تمامًا مثل قلب يسوع المسيح الذي يُساعد دائماً في تخفيف ثِقَل صليب الجسد. ولذلك يمكننا أن نسمع الرب يسوع المسيح يقول لكل المرضى في الروح و/أو الجسد الآن كما قال سابقًا: "تعالوا إليَّ جميعًا أيُّها المُرهقون المُثقلون، وأنا أُريحكم. إحملوا نيري وتتلمذوا لي فإني وديع متواضعُ القلب، تجدوا الراحة لنفوسكم، لأن نيري لطيفٌ وحملي خفيف."(متى 11: 28-30). إن جزءًا من تعاليم الرب يسوع المسيح لنا هو عن رحمة الله لأنفسنا عن طريق ذبيحته الإلهية "القربانة المقدسة" والتي أعطانا إيَاها أثناء العشاء الأخير، مما يجعل العبء على أرواحنا خفيفًا لعلمنا بأن ذنوبنا قد غُفِرت من خلال "الحمل". كذلك، إن طاعة كلمة الله بكل صدقٍ وأمانة تحتاج إلى قلب وديع ومتواضع مقدمًا الشكر لله على جميع النعم وبكلِّ الأوقات ومُعترفًا له بكلِّ إحساناته، لا يشكو في وقت الضيق بل يقول "لتكن مشيئتك يا الله"، ويعرف كيف يغفر لمن أخطأ إليه ويقول "إغفر لهم يا أبتي لأنهم لا يعلمون ما يفعلون" لأنه عالمٌ بأن ليس هناك أحد معصوم عن الخطأ سوى الله، وإن هو غفر لغيره غفر الله له ذنوبه بدم المسيح حين يأتي إليه بكل تواضع معترفًا بخطأه ونادمًا عليه. هذا النوع من القلوب سيعطي راحة وطمأنينة وسلام لنفس صاحبها إذ تصبح تعاليم الله نيرٌ لطيفٌ وحملٌ خفيف فتنتصر على أعدائها (الخطيئة والشيطان) وتنال الحياة الأبدية (متى 11: 29-30، يوحنا 11: 25-26، 16: 33).

     كمسيحيين، يعمل جسدنا لغاية خلاص روحنا وذلك بالسيطرة على الرغبات التي تؤدي إلى الخطيئة (سفر التكوين 4: 7، أعمال 24: 15-16، أفسس 4، 5، 6)، وروحنا تعمل لتقديس أجسادنا من خلال الروح القدس والقربانة المقدّسة وكلمة الله؛ مثل هذا العمل أشبه باللغز: من الذي أتى أولاً الدجاجة أم البيضة؟ ولكوننا "أتباع يسوع المسيح"، إننا نعرف أن الدجاجة خُلِقت أولاً وبداخلها البيضة لتثمر وتُكثر من هذا الجنس، بنفس الطريقة نؤمن أن "نسمة الحياة" سُكِبت فينا أولاً حتى يتسنى لنا العمل والإثمار روحيًا. كلما إجتهدنا بالأعمال الجسدية لتطبيع الجسد بما يُرضي الله (رومة 6: 12-14)، كلما أصبح حمل الصليب أقل عبأً على أرواحنا، وإزدادت محبة كلمة الله في قلوبنا. ومن جهة أخرى، كلما إزداد عطش الروح لكلمة الله وعملت جاهدةً لإرضاء الخالق [أي نفتح قلوبنا إلى الله ونطلب منه أن يأتي]، فإن الروح القدس سوف يشعل في قلوبنا نار المحبة لله ويملأه تمامًا من هذا الحب فتلتصق الروح بصليبها، وهذا سيجعل صليب الجسد أمرًا هيّنًا.

     حين نبتعد عن معرفة الله من خلال كلمته وعن ممارسة الصلاة والصوم حسبما يُريد الله، فإن صليبنا الذي نحمله يكون منشطرًا. وحين نُخطىء، يزداد إنشطار الصليب الذي نحمله على أكتافنا ويُصبح حمله أصعب، ولكن بمحبة الله ومعرفة الكلمة والتوبة وإيماننا بقيامة السيد يسوع المسيح من الأموات وبالتالي قيامتنا من بين الأموات، يُعيد إلتآم الصليب لنحمله ونتبع المسيح إلى حيث مضى: إلى حضن الآب.

 

لنُصلّ:

     ربي وإلهي، إن كل قطعة من خشبة الصليب تُمثّل أحد أتباعك الّذين أحببتهم ومُتَّ من أجلِهم، فلذلك حملته بين ذراعيك وعلى منكبيك كما يحمل الأب إبنه الصغير؛ حملته لتظهر دفء محبة الآب السماوي لهم وتُسمِعهم قوله لهم: "يا ولدي، إني اليوم ولدْتُك". حملته وصُلبت عليه، فإلتصقت به لتقول لهم بأنك لن تتخلى عنهم أبدًا؛ وفتحت ذراعيك واقفًا أمامه مُدافعًا عنهم بجسدك الممزق ومُقدّسهم بدمك الكريم. وكما حملتهم، أردتهم أن يحمل كلٌ منهم صليبه [تعاليمك السماوية]: "محبة الله ومحبة الآخرين" بكل صبر وجَلَد، ويلتصقوا به بكل قواهم؛ هذا الصليب الذي يُظهر مجد الله للآخرين. وإن أحسوا بثقل الصليب وهوى من أيديهم وأخطأوا فسيجدون صاحب الحقل الّذي سيأتي ليحمل عنهم ومن ثم يُعيد إليهم الصليب ويُزيد في قلوبهم الإيمان والرجاء والمحبة. وكما أنكرك بطرس الرسول ثلاث مرات وبعد ذلك ندم وتاب وثبت بإيمانه وثبّت الآخرين، فكذلك تكون معنا يا صاحب الحقل لتُعيد إلينا إيماننا وتُثبّتنا؛ يا أيها الراعي الصالح الّذي بحث عن خِرافه الضائعة فوجدها وجذبها معه إلى الفردوس.

    ربي وإلهي، أسألُك أن تطبع في قلبي عواطف حيّة من الإيمان والرجاء والمحبة، وندامة صادقة على خطاياي وعزمًا راسخًا أن أُقلع عنها فأحيا معك إلى الدهر. آمين