عظة البابا بمناسبة عشية الفصح المسيح

الفاتيكان، الأحد 24 أبريل (Zenit.org).

ننشر في ما يلي عظة قداسة البابا بندكتس السادس عشر عشية عيد الفصح المجيد في بازيليك القديس بطرس في الفاتيكان، والتي عمد خلالها ستة موعوظين من دول مختلفة.

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

يتميز الاحتفال الليتورجي في عشية الفصح بعلامتين كبيرتين. هناك أولاً النار الذي يضحي نورًا. نور شمعة الفصح، الذي يضحي خلال التزياح في الكنيسة المعتمة موجةَ نور، ويخبرنا عن المسيح الذي هو نجمة الصبح الذي لا يعرف الغروب – والقائم من الموت الذي غلب بنوره الظلام. العلامة الثانية هي علامة المياه. المياه التي تذكرنا من ناحية بماء البحر الأحمر، بالغرق والموت، بسر الصليب. ولكنها تظهر أيضًا كماء نبع، كمنهل يهب الحياة بعد الجفاف. تضحي بهذا الشكل صورة لسر المعمودية، الذي يجعلنا شركاء في موت وقيامة يسوع المسيح.

ولكن ليتورجية عشية الفصح، لا تتضمن فقط عناصر الخلق العظيمة مثل الخلق، النور والماء. فما يميز هذه العشية هو أيضًا ما يقودنا نحو لقاء هام مع كلمة الله في الكتاب المقدس. قبل الإصلاح الليتورجي كانت هناك 12 قراءة من العهد القديم وقراءتان من العهد الجديد. قراءاتا العهد الجديد بقيتا. أما عدد قراءات العهد القديم فتم تقليصها إلى سبع، ولكن يمكن أيضًا في بعض الأحوال تخفيضها إلى ثلاث قراءات. تريد الكنيسة أن تقودنا من خلال نظرة شاملة على دروب تاريخ الخلاص، من الخلق مرورًا باختيار وتحرير اسرائيل وصولاً إلى الشهادات النبوية، التي من خلالها يسير كل هذا التاريخ بشكل أوضح نحو يسوع المسيح.

في التقليد الليتورجي كانت هذه القراءات تسمى جميعها "نبوءات". حتى عندما كانت مباشرة إعلان مسبق لأحداث مستقبلة، هي ذات طابع نبوي، لأنها تبين لنا الركيزة الحميمية للتاريخ وتوجهه العميق. هي تبين لنا كيف أن الخليقة والتاريخ يضحيان شفافان أمام الأمر الجوهري. تأخذ بيدنا وتقودنا نحو المسيح وتبين لنا النور الحق. إن المسيرة على درب الكتاب المقدس تبدأ، في العشية الفصحية، من خلال خبر الخلق. بهذا تريد الليتورجية أن تقول لنا أن خبر الخلق هو بحد ذاته نبوءة. ليس مجرد معلومات حول الأحداث الخارجية المتعلقة بتطور الكون والإنسان. آباء الكنيسة كانوا يعون ذلك الأمر جيدًا. لم يفهموا هذا السرد كخبر متعلق بمبدأ الأمور، بل هو إشارة إلى ما هو جوهري، إلى المبدأ الحقيقي، إلى غاية كياننا. يمكننا هنا أن نتساءل: هل هو حقًا ذو أهمية أن نتحدث عن الخلق في عشية الفصح؟ ألا يمكننا أن نبدأ بالأحداث التي من خلالها يدعو الله الإنسان، ويؤسس شعبًا ويخلق تاريخًا مع البشر على الأرض؟ يجب على الجواب أن يكون: كلا. تجاهل الخلق يعني إساءة فهم تاريخ الله مع البشر، الإنقاص منها، عدم رؤية المعنى الحقيقي لعظمتها. إشعاع التاريخ الذي أسسه الله يصل إلى الجذور، إلى الخلق. واعتراف إيماننا يبدأ بهذه الكلمات: "أؤمن بإله واحد، آب ضابط الكل، خالق السماء والأرض". إذا تجاهلنا هذا البند الأول من قانون الإيمان، يضحي تاريخ الخلاص ضيقًا جدًا وصغيرًا جدًا. الكنيسة ليست مجرد مؤسسة تعنى بالحاجات الدينية للبشر، والتي تنحصر أهدافها في هذا الأمر. لا، الكنيسة تحمل الإنسان إلى اللقاء بالله وبالتالي إلى مبدأ كل الأشياء. ولهذا الله ينظر إلينا كخالق، ونحن لنا مسؤولية هامة نحو الخليقة. مسؤوليتنا تمتد نحو الخليقة لأنها تأتي من الخالق. وفقط لأن الله خلق كل الأشياء، فهو يستطيع أن يهبنا الحياة وأن يقود حياتنا. حياة الإيمان في الكنيسة لا تشمل فقط أبعاد الحواس والمشاعر والمسؤوليات الأخلاقية. بل هي تشمل الإنسان بكليته، من أصوله ووصولاً لأبديته. فقط لأن الخليقة تتعلق بالله، يمكننا أن نثق به بالعمق. وفقط لأنه خالق، يستطيع أن يهبنا الحياة الأبدية. الفرح لأجل الخليقة، العرفان من أجلها والمسؤوليه نحوها هي أمور تتماشى سوية.

الرسالة الجوهرية في خبر الخليقة يفسح لنا أن ندركه بشكل أكثر دقة. لخص القديس يوحنا، في الكلمات الأولى من إنجيله، خبر الخلق بجملة واحدة: "في البدء كان الكلمة". بالواقع، تتردد في خبر الخلق الذي أصغينا إليه سابقًا هذه العبارة بشكل مستمر: "وقال الله…". العالم هو ثمرة الكلمة، اللوغوس، كما يقول لنا يوحنا بتعبير جوهري في اللغة اليونانية. "لوغوس" يعني "عقل"، "معنى"، "كلمة". وهو ليس فقط عقل، بل عقل خلاق ويهب نفسه. هو عقل ومعنى وخالق معنى. يقول لنا خبر الخلق أن العالم هو ثمرة العقل الخلاق. وبهذا يقول لنا أن أصل كل الأشياء لم يكن أمرًا غير عقلاني، غير حر، بل في أصل كل الأمور كان هناك العقل الخلاق، الحب والحرية.

نجدنا هنا أمام الخيار النهائي الذي هو موضوع الجدال بين الإيمان والشك: هل اللاعقلانية، انعدام الحرية، والصدفة هي أصل كل الأمور، أم أن مبدأ الكائن هو العقل، الحرية، الحب؟ هذا هو السؤال النهائي. كمؤمنين نحن نجيب بخبر الخلق وبكلمات القديس يوحنا: في البدء هناك العقل. في البدء هناك الحرية. ولهذا هو أمر صالح أن نكون أشخاصًا بشريين. لم يكن صدفة في الكون المستمر في الاتساع أن في رقعة صغيرة من تكون بالصدفة جنس كائن حي، يستطيع أن يفكر أو أن يجد في الخليقة معنى وأن يرى منطقًا فيها. لو كان الإنسان مجرد ثمرة للتطور في زاوية على هامش الكون، لكانت حياته خالية من المعنى أو حتى كتنغص في الطبيعة. كلا وثم كلا: العقل هو البدء، العقل الخلاق، الإلهي. وبما أنه عقل، خلق الحرية أيضًا؛ وبما أنه يمكن إساءة استخدام الحرية، فهناك أيضًا ما هو معادٍ للخلق. ولهذا يمتد إلى حد ما خط غليظ وداكن في إطار الكون و من خلال طبيعة الإنسان. ولكن بالرغم من هذا التناقض، الخليقة تبقى واقعًا صالحًا، الخليقة تبقى صالحة، لأن في الأصل هناك العقل الصالح، حب الله الخالق. لهذا يمكن للعالم أن ينال الخلاص. ولهذا يمكننا ويجب علينا أن نكون من طرف العقل، الحرية والحب – من طرف الله الذي يحبنا لدرجة أنه تألم لأجلنا، لكي ينبثق من موته حياة جديدة، نهائية ومعافاة.

إن خبر الخلق في العهد القديم، الذي أصغينا إليه، يبين لنا نظام الخليقة. ولكنه يبين لنا أيضًا خطوة تالية. فهو ينظم الخلق في إطار أسبوع يسير نحو السبت، ويجد فيه اكتماله. بالنسبة لإسرائيل، السبت هو اليوم الذي كان ممكنًا الاشتراك في راحة الله، الذي فيه الإنسان والحيوان، السيد والعبد، الكبير والصغير يجدون بعضهم جميعًا في حرية الله. وهكذا السبت هو تعبير عن عهد الله والإنسان والخليقة. بهذا الشكل، الشركة بين الله والإنسان لا تظهر كأمرٍ مضاف، أقيم في وقت لاحق في عالم تم تكميل خلقه. العهد، الشركة بين الله والإنسان، هي أمور أقيمت في صلب الخليقة. نعم، العهد هو السبب الباطن والأعمق للخليقة والخليقة هي الركيزة الخارجية للعهد. لقد خلق الله العالم، لكي يكون فيه مكان يستطيع الله أن يعطي حبه وأن يعود إليه جواب الحب من الخليقة.

أمام الله، قلب الإنسان الذي يجيب عليه هو أكبر وأهم من كل الكون المادي الذي يسمح لنا أن ندرك عظمة الله. في الفصح ومن خبرة المسيحيين الفصحية يجب أن نقوم الآن بخطوة تالية. السبت هو اليوم السابع من الأسبوع. بعد ستة أيام، يشارك فيها الإنسان بشكل ما بعمل خلق الله، السبت هو يوم الراحة. ولكن في الكنيسة الناشئة جرى أمر لا سابق له: بدل السبت، اليوم السابع، يدخل اليوم الأول. كيوم الاجتماع الليتورجي، هو أيضًا يوم اللقاء بالله من خلال المسيح، الذي لاقى في اليوم الأول، الأحد، خاصته كقائم من الموت، بعد أن وجدوا القبر فارغًا. لقد تم قلب تركيبة الأسبوع. فهي لا تسير الآن نحو اليوم السابع، للاشتراك فيه في راحة الله. هذا اللقاء يحدث دومًا من جديد في الاحتفال الافخارستي، الذي يدخل فيه الرب من جديد في وسط خاصته ويهب ذاته لهم، ويسمح لهم أن يلمسوه ويجلس معهم على المائدة. هذا التحول هو واقع فائق ومميز، إذا ما اعتبرنا أن يوم السبت، اليوم السابع كيوم اللقاء مع الله، هو مجذر بشكل عميق في العهد القديم. وإذا ما ذكرنا كيف أن المسير نحو يوم الراحة هو متجذر أيضًا في منطق الطبيعة، تضحي دراماتيكية هذا التحول بادية أكثر. وهذه العملية الثورية، التي تحققت فور بدء الكنيسة، يمكن شرحها فقط من خلال الأمر المذهل الذي تم في ذلك اليوم. اليوم الأول من الأسبوع هو اليوم الثالث بعد موت يسوع. كان اليوم الذي ظهر فيه لتلاميذه كقائم من الموت. هذا اللقاء، بالواقع، كان فيه أمر مدهش. لقد تحول العالم. المائت قد قام وهو يعيش حياة لا يهددها الموت. لقد افتتح نوعًا جديدًا من الحياة، وبعدًا جديدًا من الخليقة. اليوم الأول، بحسب سرد سفر التكوين، هو اليوم الذي يبدأ فيه الخلق. وهو الآن يضحي بشكل جديد يوم الخلق، الذي أضحى يوم الخليقة الجديدة. نحن نحتفل باليوم الأول. وبهذا نحتفل بالله، الخالق، وبخليقته. نعم، أؤمن بالله، خالق السماوات والأرض. ونحتفل بالله الذي صار بشرًا، الذي تألم ومات ودفن وقام. نحتفل بالنصر النهائي للخالق ولخليقته. نحتفل بهذا اليوم كبدء، وفي الوقت عينه، كغاية حياتنا. نحتفل به لأن العقل الآن يسود بفضل القائم من الموت ويغلب اللاعقلانية، الحقيقة تغلب الرياء، الحب هو أقوى من الموت. نحتفل باليوم الأول، لأننا نعرف أن الخط الداكن الذي يفصل في الخليقة لا يبقى إلى الأبد. نحتفل به لأننا نعرف أن ما قيل في ختام سفر التكوين هو صالح ككلمة نهائية: "رأى الله ما فعله، وإذا به جيد جيدًا" (تك 1، 31). آمين.

* * *

نقله إلى العربية روبير شعيب