البابا يوحنا بولس الثاني… عملاق أَذهل العالم

جريدة النهار اللبنانية- هالة حمصي – لبنان

 

كثير مما فعله او قاله لم يكن مألوفا، او حتى متوقعا. اقل ما يقال في البابا يوحنا بولس الثاني انه كان مذهلا، فريدا بين الرجال، باغت العالم بمواقفه، بأحلامه، بجرأته في الذهاب الى حيث لم يذهب احد من اسلافه قبلاً. الاحد 1 ايار المقبل، يتجدد مجده بالاحتفال في الفاتيكان بانضمامه الى مصاف الطوباويين.

 

من الاسابيع الاولى لجلوسه في كرسي بطرس، فرض هذا البابا "الرياضي" عزماً بابوياً من خلال حركة وصفت بأنها "قوية". انتخاب هذا "السلافي" الآتي من ارض تهيمن عليها الشيوعية آنذاك، ترك وقعه في بولونيا، البلد الام، ودول الفلك السوفياتي. وعندما اطلق كلماته الاولى في ساحة القديس بطرس: "لا تخافوا! افتحوا ابواب المسيح واسعاً"، فُهِمَت انها دعوة الى الخروج من الخوف والنضال لحقوق الانسان. كانت كلمات السر التي فتحت امامه قلوب الشعوب… لاستقباله.

 

من المكسيك (ك2 1979) بدأ زياراته الراعوية الماراتونية. زيارته لها حملت "همّ الدفاع عن العدالة الاجتماعية"، وحققت اول انتصار: أكثر من مليون اصطفوا 8 كيلومترات من المطار لاستقباله. والمشهد نفسه تكرر بعد اشهر في بولونيا (حزيران 1979) التي حجّ ناسها اليه، فذكّرهم "بأنه لا يمكن فصل المسيح عن العمل الانساني… انتم الحراس". وفي كل رحلاته، خرج اليه ملايين.

 

كان ابعد من ان يكون مسالماً ساذجاً. أعلن التزامه الورع بالحرية وحقوق الانسان، الزعماء السوفيات كشفوا عن أنيابهم. وفي تلك المواجهة غير المباشرة، تلقى رصاصتين في 13 ايار 1981، على يد علي اقجا، خلال القائه التحية على الحجاج في ساحة القديس بطرس. من يقف وراء اقجا؟ موسكو أو غيرها؟ سيبقى ذلك لغزاً في غياب اي اثبات. لكنه نجا وتابع مهمته، عازياً الفضل الى العذراء مريم ليشهد بعد اعوام انهيار الشيوعية، وسيأتي اليه الرئيس ميخائيل غورباتشوف (1989) بعد اقل من شهر على سقوط جدار برلين…

 

اياً تكن الصفات التي اقترنت بشخصه، فان التاريخ الذي كتبه بنفسه يشهد له بأنه كان البابا الذي اقدم على ما لم يقدم عليه أسلافه. دعا ممثلي الديانات الـ12 الكبيرة في العالم للاجتماع في اسيزي (1986) في اليوم العالمي للصلاة من اجل السلام. وكرر اللقاء في الازمات: حرب البلقان (1993)، وبعد أشهر قليلة من اعتداءات 11 ايلول 2001. السلام كان هاجسه، فسعى بنهم الى بناء جسور الحوار مع الجميع. الموقف من الحرب، كل حرب، كان حاسماً. "المشكلات لا تحل بالسلاح"، كتب الى الرئيسين الاميركي جورج بوش والعراقي صدام حسين، بعد ساعات من اندلاع حرب الخليج (1991).

 

السلام أراده ايضاً مع الكنائس غير الكاثوليكية، فحاول ان يحقق حلمه بالتقارب وتعزيز المسكونية، رغم التعقيدات. محطات التلاقي كانت عديدة، لكن الاكثر وقعا اعتذاره عن "اخطاء ارتكبت" وهو واقف على "اراض ارثوذكسية" (رومانيا – 1999، اليونان – 2001)، ما عكس اصراراً على فتح صفحة جديدة. كان اول بابا يزور الدول الاسكندينافية، "مملكة" الاصلاح البروتستانتي (1989)، وفي عهده تم توقيع اعلان مشترك كاثوليكي-لوثري في اوغسبورغ للتبرئة (1999)، وكان الاول مع جهة بروتستناتية منذ الاصلاح. وفي مشهد مؤثر، فتح وقائدين، ارثوذكسي وانغليكاني، بابَ بازيليك القديس بولس، ما أراده "علامة عميقة" إلى المسكونية (2000).

 

مع اليهود، "اخوتنا الابكار"، كما سمّاهم، طوى "20 قرناً من النزاع". كان اول بابا يزور اوشفيتز (1979) والكنيس اليهودي في روما (1986). طلب من الله الغفران "على التساهل تجاه ما تعرض له اليهود من اضطهادات ومحرقة" (1991)، وذلك في اعلان تاريخي. وفي عهده اعترف الفاتيكان بدولة اسرائيل (1993). حجّ الى الاراضي المقدسة (2000)، حيث دسّ بين جدران حائط المبكى صلاة توبة عن الجرائم المرتكبة بحق اليهود…

 

والى المسلمين ايضاً مد يده: التقى 80 الف شاب مسلم في الدار البيضاء (1985)، زار العديد من الدول الاسلامية، وكان اول بابا يزور جامعاً: الجامع الاموي في دمشق (2001).

 

طوال عهده، جعل البابا العالم رعيته الكبيرة. فكان في حج متواصل، تارة لدى رعايا قريبة، وتارة لدى اخرى بعيدة. وكل سفر كان "حجاً صادقاً للهيكل الحي لشعب الله"، على قوله. كان الناس يجذبونه. "انا الى جانب الفقراء، المضطهدين، المهمشين…". بهذه النية التي "ارتسمت" على وجهه، سافر. وفي كل محطة، كان موقف، نداء "لوقف العنف والتسلح"، "للتغيير"، "للعودة الى الجذور، الى الوحدة الروحية". وحتى النهاية، لم يوقف حجّه، وكان الاخير في لورد (2004)، هناك وقف مريضاً بين المرضى.

 

المرض كان يتسلل اليه من اعوام. ففي بداية التسعينات، بدأ درب صليبه: خضع لعملية جراحية لازالة ورم في القولون (1992)، تعرض لكسر في الكتف اليمنى اثر وقوعه (1993)، رُكِّبَ له ورك اصطناعي على اثر وقوعه مجدداً (1994)، اجرى عملية الزائدة (1996). وفي هذه المرحلة ايضاً، بدأت تظهر عليه عوارض الباركنسون التي تفاقمت مع الاعوام. ورغم ذلك، اصر على مواصلة رحلته. قال لمقربين: "سيكون لدي كل الابدية لأرتاح".

 

ومن مفارقات الامور انه اثبت قدرة، رغم ازدياد مرضه، على مواصلة كتابة التاريخ بثقة، وبحركات وصفت بأنها "نبوية".  فالصلاة كانت "تمرينه" اليومي الاساسي الذي ما تأخر يوماً عنه، خصوصاً لدى اتخاذ القرارات او عند الكتابة…

 

وفي جو من الصلاة، امضى أيامه الاخيرة. كانت صحته بدأت تتراجع ابتداء من 15 كانون الثاني 2005، قبل ان تتدهور سريعاً. الألم لازمه، لكنه "كان مستسلماً لإرادة الله"، كتب سكرتيره الشخصي ستانيسلاس دزيويز. "في اللحظات الاخيرة، عاد الى ما كان عليه دائماً، رجل صلاة". وكانت كلماته الاخيرة: "دعوني اذهب الى عند الرب".