الربيع العربي والقلق المسيحي

 

بقلم: حبيب محمد هادي الصدر

سفير جمهورية العراق لدى الفاتيكان

   الأربعاء 21 سبتمبر 2011 (ZENIT.org)

تصاعدت مؤخرا نبرة الإنتقادات الغاضبة الموجهة الى المواقف العربية المسيحية تجاه الإنتفاضات الجارية في المنطقة العربية فمنها إعتبرت هذه المواقف كمن يصدر حكما على جنين وهو في طور التخلق، فيما ذهب آخرون الى إعتبار أن القيامة النهضوية للمسيحية العربية ستتحقق فيما سيأتي وليس فيما إنقضى بلحاظ أن المسيح لم يكن يوما للطاغين نصيرا، وأن الحوار المسيحي الاسلامي الحقيقي والمثمر سيولد مع الثورة أو في أعقابها وكل ما جرى قبلها مجرد هرطقة ودعاية جوفاء ومضيعة للوقت. ولم يخف هؤلاء المنتقدون حيرتهم ودهشتهم من إتساع الفجوة بين المواقف المشرفة للمسيحيين العرب أبان الانتفاضات العربية مطلع القرن الماضي ضد سياسات التتريك العثمانية وحيال الممارسات الغاشمة للاستعمارين الفرنسي والبريطاني وفي مواجهة المخططات والاجراءات الصهيونية المتعسفة في الاراضي العربية المحتلة وبين ما آلت اليه تلك المواقف اليوم التي أقل ما ينعتونها بــ (المخيبة وغير المبررة).

    والحق … أننا كي نحلل ــ بعمق ــ هذه المواقف المتباينة من منظور واقعي محايد علينا أن ندرك حقيقة مهمة هي أن المكونات المسيحية العربية أصبحت اليوم تشكل (أقليات) ضمن مجتمعاتها. رغم ثقل أدوارها عبر الحقب التاريخية المتعاقبة وبديهي أن حسابات (الكثرة) تختلف كلية عن حسابات (القلة). فالأخيرة تتحسب لأية تقلبات أو هزّات سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية بطريقة متوجسة متأنية ذاك لأن أية إندفاعات عاطفية متسرعة غير منضبطة وغير مستلهمة لمعطيات الظروف المحلية والدولية ستكون لها نتائج وخيمة على وجود هذه المكونات وقد ترتهن مصيرها الى مجهول مريع.  ثم … أن الوثبات العربية الاولى قد حظيت (بإجماع عربي كامل) إرتقى الى مستوى الثوابت القومية وهو ما لم يتحقق على الارض نظيرا له في الوقت الراهن.  فمثلا تعاني المجتمعات المنتفضة السورية أو اليمنية أو البحرينية من إنقسامات جدية في إسلوب التعاطي مع حركة التغيير ووسائل المطالبة بالاصلاحات الديمقراطية المطلوبة. حيث نجد فريقا يغلب الحلول السلمية ويزدري بالتدخلات الأجنبية فيما نجد أخرين قد إنساقوا وراء المواجهة الدموية والعنف الاحتجاجي المسلّح وعوّلوا على العامل الخارجي في إسقاط النظام الحاكم فضلا عن المواقف المتنافرة للدول دائمة العضوية في مجلس الأمن من هذه الأزمة ناهيكم عن الاسرة الدولية. فكل طرف يتصرف طبقا لمصالحه وإستراتيجيته وقراءاته لحاضر المنطقة ومستقبلها. وطبيعي أن هذا الأنقسام أدعى الى التريث وعدم الانجرار من قبل المسيحيين العرب تفاديا لاحتماليات الوقوع في خطأ التقدير.

    كما أن من حق مسيحيينا أن يتوجسوا خيفة من أن تتخذ هذه الإحتجاجات برقعا تتلفع به قوى إسلامية متطرفة للوصول الى السلطة كونها الأكثر تنظيما والأقوى قدرة على خلط الاوراق. وهي ذات القوى التي لم تبالِ بإراقة الدم المسيحي وإنتهاك الكنائس. حينئذ لو خيّروا بين القبول بأنظمة تسلطية لكنها علمانية تمنحهم جرعة من الحرية الدينية وبين أنظمة منغلقة تتعامل معهم بخلفيات متعصبة فلا بد والحالة هذه أن يختاروا الضرر الأقل للحيلولة دون الوقوع في براثن الضرر الأكبر.

    وما يزيد من المشكلة تعقيدا ومن المشهد ضبابية هو عدم جهوزية (بديل مقنع) يحل محل الانظمة التي يراد تقويضها. فضلا عن أن الحركات الاحتجاجية لا تملك قيادة موحدة واضحة الرؤى والبرامج والتوجهات. مما يفسح المجال أمام صائدي الفرص لركوب الموجة الاحتجاجية بغية الوثوب الى مآرب مشبوهة. فيما يدفع ذوو الحكمة والبصيرة من المسيحيين العرب الى التأني والتدبر.

     لقد إستشعر المسيحيون العرب خطورة تفاقم الصراعات بين المحتجين والسلطة وما ينجم عنها من قتل للأبرياء وتدمير للممتلكات وتعطيل للمصالح. ووجدوا أن الحلول السلمية وإنتهاج سبل الحوار الرصين الهادىء بين الحاكم والمحكوم وفسح المجال للأنظمة لإعادة ترتيب الأوراق وإحداث الاصلاحات الضرورية هي الطريق الأمثل لقطع دابر المتصيدين الخارجيين في الماء العكر الداخلي. ودفعا للمزيد من التصدعات المأساوية والإصطفافات الطائفية ولتلبية ما يصبو إليه المواطن العربي من تحقيق النموذج الديمقراطي المرتجى والتداول السلمي للسلطة والإحتكام الى صناديق الإقتراع ونيل الحقوق الدستورية وليس عبر منهجية لي الأذرع ولغة الرصاص.

  وهم إذ يغلبون صوت الحكمة في إدارة هذه الأزمة فإنهم ليسوا بأفضل حال من إخوانهم فالجميع هم ضحايا لما أنتجته الأنظمة الدكتاتورية العربية من سياسات التهميش في صناعة القرار وتكميم الأفواه والمواطنة المنقوصة وهي ذات الأسباب التي دفعت بأعداد غفيرة منهم الى الهجرة خارج أوطانهم طلبا للحرية والكرامة. الأمر الذي أدى الى إنكماشهم ديمغرافيا وإنحسار أدوارهم الريادية المعهودة. في منطقة تعد الموطن الأصلي لهم والمهد التاريخي للأديان السماوية،  مما إستدعى الكرسي الرسولي الى التفكير بعقد سينودس مخصص لأساقفة الشرق الاوسط في أكتوبر من العام الماضي للوقوف على هذه المشكلة الخطيرة وإتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف تداعياتها. إيمانا منه بأن غنى هذه المنطقة وأصالتها هو في تعدديتها وتنوعها القومي والديني واللغوي وتعايشها الحميمي التاريخي بين طوائفها المختلفة.

    إن الإخلاق والثقافة المسيحيتان ترتكزان على منظومة قيمية تناهض الظلم  وتتبرم من الفساد وتنفتح على المفاهيم التحررية. ورسالة السيد المسيح (ع) الى الناس هي رفض التسلط ونشر الفضيلة وإعلاء السلام، وإشاعة الخير المشترك، وإعتماد الإسلوب الحواري التسامحي ونبذ كل  أشكال الكراهية والقسرية والعنف.

     لذا يتحم علينا بعد كل ما قدمناه أن نتفهم المواقف المسيحية ونعزيها الى دوافعها المنطقية وأن نفسرها في سياقاتها الصحيحة لا أن نكيل التهم جزافا لشركاء أساسيين لنا في الوطن والهدف والمصير.