خطاب البابا في لقاء الأديان في أسيزي 2011

 

أسيزي، الخميس 3 نوفمبر 2011 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي النص الكامل لخطاب البابا بندكتس السادس عشر خلال لقاء الأديان للتفكير والحوار والصلاة من أجل العدالة والسلام في العالم، في الذكرى الخامسة والعشرين للقاء الأول الذي دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1986. كان عنوان اللقاء لهذا العام "حجاج الحقيقة، حجاج السلام".

* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

حضرات رؤساء وممثلي الكنائس والجماعات الكنيسة والأديان في العالم،

أيها الأصدقاء الأعزاء،

لقد مر 25 عامًا منذ أن دعا الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني للمرة الأولى ممثلي أديان العالم إلى أسيزي لصلاة من أجل السلام. ماذا حدث منذ ذلك الحين؟ أين هي قضية السلام اليوم؟ حينها، كان التهديد الكبير للسلام في العالم ينبع من انقسام الكوكب إلى قسمين متضاربين في ما بينهما. العلامة البادية لهذا الانقسام كان جدار برلين، الذي، من خلال مروره في وسط المدينة، كان يرسم الحدود بين عالمين. في عام 1989، بعد ثلاث سنين من أسيزي، سقط الجدار – دون سفك دماء. وفجأة، لم يعد من معنى للصواريخ التي كانت معدة وراء الجدار. فقدت قدرتها على الترهيب. إرادة الشعب أن يتحرروا كانت أقوى من صواريخ العنف. مسألة الأسباب التي حملت إلى هذا السقوط هي معقدة ولا تجد جوابًا في تعابير بسيطة. ولكن إلى جانب العوامل الاقتصادية والسياسية، فالدافع الحقيقي لهذا الحدث كان ذا طابع روحي: فوراء السلطان المادي لم يكن هناك أية قناعات روحية. إرادة الحرية كانت في نهاية المطاف أقوى من الخوف أمام العنف الذي لم يعد يملك أي ستار روحي. نحن مليئين بالعرفان نحو انتصار الحرية هذا، الذي كان فوق كل شيء انتصارًا للسلام. ويجب أن نضيف أن في هذا الإطار لم نكن فقط في صدد حرية الإيمان، ولكن بالرغم من أنها لم تكن الدافع الأول، فقد كانت من بين الدوافع. لهذا يمكننا أن نصل بين كل ذلك وبين الصلاة من أجل السلام.

ولكن ماذا حدث في ما بعد؟ للأسف لا يمكننا أن نقول أن الوضع بعد ذلك تميز بالحرية والسلام. فحتى ولو أننا لسنا في صدد تهديد حرب كبيرة، إلا أن العالم، وللأسف، هو مليء بالخصام. ولا يتوقف الأمر على أن هنا وهناك حروب – فالعنف هو حاضر بحد ذاته دومًا، وهو يميز واقع العالم. الحرية هي خير عظيم. ولكن عالم الحرية قد بدا بشكل عام دون توجه، ويعتبر الكثيرون الحرية كحرية ارتكاب العنف. ويأخذ الخصام وجوهًا جديدة ومرعبة، ولذا يجب على الجهاد من أجل السلام أن يحث بشكل جديد جميعنا.

فلنحاول أن نتعرف عن كثب على وجوه العنف والخصام الجديدة. في الخطوط العريضة – بنظري – يمكننا أن نمير بين نوعين جديدين من أشكال العنف التي تظهر في التفاصيل في تنوعات كثيرة. فوق كل شيء هناك الإرهاب، الذي، بدل الحرب الكبيرة، يشكل هجمات محددة جدًا تهدف إلى ضرب نقاط هامة بالنسبة للعدو بشكل مدمر، لا يهتم البتة بحياة الأبرياء الذين يُقتلون ويُجرحون بإجرام. أمام عيون المسؤولين، إن القضية الكبرى الهادفة إلى أذية العدو تبرر كل أنواع الإجرام. يتم تهميش كل القوانين الدولية التي كان معترفًا بها والتي كانت قد سُنّت كرادع للعنف. نعرف أن الإرهاب هو غالبًا مدفوع من أسباب دينية وأن طابع الاعتداءات الديني يفيد لتبرير العنف الذي لا يعرف شفقة، والذي يعتقد أنه يستطيع أن يهمش قواعد القانون لأجل "الخير" المرتجى. الدين هنا ليس بخدمة السلام، بل هو تبرير للعنف.

إن انتقاد الدين، انطلاقًا من عصر التنوير، قد شدد دومًا على أن الدين هو سبب العنف، وبهذا الشكل أسهم في تعزيز العداوة نحو الأديان. أن تكون الأديان أمرًا يحث على العنف، لهو أمر يجب أن يقلقنا بالعمق كأشخاص متدينين. بشكل معادٍ، ولكن بشكل أكثر وحشية، نرى الأديان كسبب للعنف حتى عندما يتم استعمال العنف من قبل محاميي دين ضد الآخرين. إن ممثلي الأديان الذين التقوا في عام 1986 في أسيزي أرادوا أن يقولوا – ونحن نردده بقوة وبقناعة راسخة: ليست هذه طبيعة الدين الحقيقية. بل هي تشويه يسهم في تدمير الدين. ولكن يتم الاعتراض على هذا الأمر: ولكن أنى لكم أن تعرفوا ما هي طبيعة الدين الحقة؟ لعل قناعتكم هذه تنبع من واقع أن قوة الدين قد خفتت؟ كما ويعترض البعض الآخر: ولكن هل هناك حقًا طبيعة مشتركة للأديان، والتي يتم التعبير عنها في كل الأديان ولذا هي تنطبق على جميعها؟ هذه التساؤلات لا بد أن نعالجها إذا ما أردنا أن نواجه بشكل واقعي وقابل للتصديق اللجوء إلى العنف لأسباب دينية. ينبع من هنا دور الحوار بين الأديان – كواجب يجب تجديد التشديد عليه في هذا اللقاء. كمسيحي، أود أن أقول في هذا الشأن: نعم، في التاريخ، باسم الإيمان المسيحي أيضًا تم اللجوء إلى العنف. نعترف بذلك بخجل كبير. ولكن من الواضح أن هذا الاستعمال للعنف كان استخدامًا سيئًا للإيمان المسيحي، وهو لا يتطابق إطلاقًا مع طبيعته الحقيقية. فالإله الذي نؤمن به نحن المسيحيون هو خالق وأب جميع البشر، انطلاقًا منه إن كل البشر هو إخوة وأخوات ويشكلون عائلة واحدة. صليب المسيح بالنسبة لنا هو علامة الله، الذي، بدل العنف، يضل التألم لأجل الآخر والمحبة مع الآخر. اسمه هو "إله الحب والسلام" (2 كور 13، 11). من واجب جميع الذين يحملون مسؤولية في الإيمان المسيحي أن يطهروا باستمرار الدين المسيحي انطلاقًا من محوره الباطني، لكيما – بالرغم من ضعف الإنسان – يكون وسيلة سلام الله في العالم.

إذا كان هناك نوع من العنف الذي يتم تبريره اليوم دينيًا، فيتم وضع الدين أمام التساؤل حول طبيعته ويُفرض علينا جميعًا فعل تطهير، هناك أيضًا نوع آخر من العنف المتنوع الذي ينبع من أسباب معاكسة: إنه نتيجة لغياب الله، لإنكاره ولفقدان الإنسانية التي تسير على قدم وساق مع ذلك. إن أعداء الدين – كما سبق وقلنا – يرون في الدين المصدر الأولي للعنف في تاريخ البشرية ويطالبون بالتالي بزوال الدين. ولكن رفض الله إنما ولد قساوة وعنفًا بلا مقياس، وقد باتت هذه ممكنة لأن الإنسان لم يعد يعترف بأي شرع وبأي قاضٍ أعلى من ذاته، وأخذ ذاته كقاعدة وحيدة. إن رعب السجون النازية يبين لنا بوضوح نتائج غياب الله.

لا أريد أن أتوقف هنا على الإلحاد الذي تفرضه الدول؛ بل أود أن أتحدث عن "انحطاط الإنسان"، الذي ينتج عنه بشكل صامت، وبالتالي أكثر خطورة، تحول في المناخ الروحي. إن عبادة المال، التملك والسلطة، تظهر وكأنها دين-معادٍ، لا يوجد فيه اعتبار للإنسان، ولكن فقط المصلحة الشخصية. إن رغبة السعادة تنحط، على سبيل المثال، فتضحي توقًا غير إنساني لا حد له يظهر في سيطرة المخدرات بأشكالها المختلفة. هناك العظام، الذين يرعون مصالحهم من خلالها، وهناك الكثيرون الذين يقعون في إغوائها ويدمرون أجسادهم ونفوسهم. يضحي العنف واقعًا اعتياديًا ويهدد بتدمير الشباب في بعض أنحاء العالم. لأن العنف يضحي أمرًا اعتياديًا، ويُدمّر السلام، وفي فقدان السلام هذا يدمر الإنسان نفسه.

إن غياب الله يؤدي إلى انحطاط الإنسان والأنسية. ولكن أين الله؟ هل نعرفه وهل نستطيع أن نبينه من جديد إلى البشرية لبناء سلام حق؟ فلنلخص قليلاً أفكارنا حتى الآن. لقد قلت أن هناك مفهوم واستعمال للدين تضحي من خلاله مصدر عنف، بينما توجه الإنسان نحو الله، إذا ما تم عيشه بشكل مستقيم، هو بالواقع قوة سلام. في هذا الإطار، أشرت إلى ضرورة الحوار، وتحدثت عن تطهير الدين المعاش، الذي هو أمر ضروري دائمًا. من ناحية أخرى، صرحت بأن إنكار الله يؤدي إلى فساد الإنسان، يحرمه من المقاييس ويقوده إلى العنف.

إلى جانب واقعي الدين ومعاداة الدين، يوجد في عالم تتفشى فيه اللاأدرية، توجه أساسي آخر: هناك أشخاص لم يحظوا بهبة الإيمان، ومع ذلك يبحثون عن الحقيقة، يبحثون عن الله. أشخاص من هذا النوع، لا يقولون ببساطة: "إن الله غير موجود". بل هم يتألمون لغيابه، ويبحثون عن الحقيقة والخير، إنهم في مسيرة داخلية نحوه،. إنهم "حجاج الحقيقة، حجاج السلام". يطرحون أسئلة من ناحية ومن أخرى. فينزعون من الملحدين العدائيين ضماناتهم الباطلة، التي يزعمون من خلالها أن يعرفوا بأن الله غير موجود، ويدعونهم، بدل أن يكونوا مجادلين، إلى أن يكونوا أشخاصًا يبحثون، لا يفقدون الرجاء بأن الحقيقة موجودة وأنه يمكننا ويجب علينا أن نعيش لأجلها. ولكن تأثيرهم يصل أيضًا إلى المنتمين إلى الأديان، لكي لا يعتبروا الله كملكية خاصة فيظنون أنه يحق لهم أن يستعملوا العنف ضد الآخرين. هؤلاء الأشخاص يبحثون عن الحقيقة، يبحثون عن الله الحق، الذي، بسبب الأسلوب الذي غالبًا ما تعاش فيه الأديان، تبقى صورته مرارًا كثيرة مستورة. إن عدم تمكنهم من إيجاد الله يتسبب به أيضًا المؤمنون مع صورتهم المحدودة وحتى المشوهة عن الله. وهكذا فإن صراعهم الداخلي وبحثهم هو نداء لنا نحن المؤمنين، إلى جميع المؤمنين، لتطهير إيماننا، لكيما يضحي الله – الإله الحق – ملموسًا. لهذا دعوت بشكل خاص ممثلين عن هذا القسم الثالث من الأشخاص إلى لقائنا في أسيزي، الذي لا يجمع فقط ممثلين من المؤسسات الدينية. فنحن نلتقي هنا لكي نكون في مسيرة نحو الحقيقة، وللالتزام الثابت من أجل كرامة الإنسان وللالتزام سوية أيضًا بقضية السلام ضد كل أنواع العنف الذي يدمر الحقوق. ختامًا أود أن أؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية لن تتخلى عن صراعها ضد العنف، عن التزامها لأجل السلام في العالم. فنحن يُحركنا توق مشترك وهو أن نكون "حجاج الحقيقة، حجاج السلام". أشكركم.

* * *

نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب – وكالة زينيت العالمية

حقوق النشر محفوظة لدار النشر الفاتيكانية