البحر والغمام والغيم الأسود

   بقلم نيران إسكندر

 في سفر الرؤيا، وحين تُذكر نهاية العالم، يتم جفاف البحر ولا يعود له وجود، لا يعود لمسبِّبات الشر مِن وجود لأن جميعها قد أُرسلت إلى البحر مع قطيع الخنازير التي لبستها (متى 8: 28-32) ومِن ثُمّ زال البحر (رؤيا 21: 1). لم يعد للخطيئة/الموت وجود. ومُنذ البدء وحتى ذلك اليوم، وضع الخالق في البحر سمكًا مٌبتدأً بالسمكة الكبيرة، الحيتان (تكوين 1: 21) رمزًا لمَن أرسلهم مِن أنبياء العهد القديم فالمسيح ورسله إلى السمك الصغار رمزًا للإنسان المؤمن لتكون ذا نفع وليتحول الشر المصنوع بيد الشرير (عدو الله) إلى خيرٍ يعم على الجميع. ولعل الشرير نسي قدرة الله (أيوب 38: 8-11) وكان أعمى فلم يرى الغمام/اللباس الذي أحاطه به الله، الغمام الذي ركبه الله وظهر لشعبه وكان لهم السبيل لهدايتهم والخروج بهم مِن الصحراء التي تاهوا بها إلى الأرض الموعودة؛ قمّط الله مياه البحر المالحة الهائجة بنار روحه القدّوس التي لا تنطفئ والتي أيضًا صاحبت شعب الله في مسيرتهم. ولتحكيم الأمر على الشرير بالتمام عصّبه/قمّطه فوق لباسه لكي يُحدد/يُجمّد حركته بغيم أسود يسكب المطر الغزير: "محبة الله: المُخلّص المصلوب"، هو غيم من غيم ولكنه تألم وبهذه الآلام التي أخذها على عاتقه أزال كل الظلمة والخوف من قلوب الذين آمنوا به [السواد رمزًا للحزن والألم كما هو رمزًا للظلمة والخوف والعمى]. بهذه الحكمة التي كانت بفكر الله منذ الأزل (الأمثال 8: 22-31)، وبهذه الحكمة التي لا يغلبها الشر (الحكمة 7: 30) كان الله مُمسكًا بيده على الإنسان [كالحزام الذي يلتصق بحقْويِ الإنسان، هكذا ألصق الله به جميع أبنائه (إرميا 13: 11)]، ولم يفهم الشرير (لأنه لا يعرف فِكر الله) لماذا لم يسمح له الله بأن يمدّ يده على أتقياءه (أيوب 1: 12).  روحيًا، حاصرَتْ الغمام البحر وأوقفتْ هيجانه [كما "جعل الله الرمل حدًّا للبحر، حاجزًا أبديًّا لا يتعدّاه فأمواجه تلتطم ولا طاقة لها، تهدرُ ولا تتعداه" (إرميا 5: 22)]، وبدلاً من أن يَحرق البحر أشجار الأرض بملوحة ماءه، أنزل الغمام مطرًا وثلجًا: ماءً عذبًا [كلمة الله المتجسّدة بالرب يسوع وبالقربانة المُقدّسة] وسكب الروح ليروي الأشجار لتنمو وتُثمر (أشعيا 44: 3-4) فتُصبح ملحًا من نوعٍ آخر (مرقس 9: 49-50، متى 5: 13)، ملحًا مُحيي، لتُحافظ على جمال الأرض ولتُعطيها سمادًا للأشجار الأخرى، تُعطيها محبة الله التي سكبها الروح بداخلها (رومة 5: 5). لا وجود للموت مع الحياة، فقماط البحر كان أيضًا كفنًا له.

     قمّط الله البحر بحزامٍ من نور كقوس قزح في الغمام لا مجال لما تحته بالتسرب من خلاله؛ قوس قزح العلامة التي أعطاها الله لنوح وعدًا منه بمحبّته وبركته [طوفان المياه لن تُهلك نفسًا حية (تكوين 9: 12-17)]، قوس قزح الذي يتكون من إنكسار النور بقطرات ماء المطر، هو النور المتواجد دائمًا لكنه لا يُرى بالعين المُجرّدة ولكن بالإيمان يُشاهد مُتلألأً بجماله الأخّاذ. أحاط الله العالم القديم بنور بهاءه وضياء قدسه فأزال منه الظلمة. كلام الله مع أيوب له مغزى أخر ليس فقط لتبيان قدرته بل ليقول له كما قال الرب يسوع [نور العالم] لتلاميذه: "قلت لكم هذه الأشياء ليكون لكم بي السلام. تعانون الشدة في العالم ولكن ثقوا إني قد غلبت العالم" (يوحنا 16: 33). وعليه، فـ"الطفل المُقمّط المضّجع في مذود"، العلامة التي أعطاها الملاك للرعاة عن "المُخلّص المسيح الرب"، هو علامة لإحتواء الله ببهائه للطبيعة البشرية التي تغلّب عليها الشرير، وإعطاء ذاته كغذاء للبشرية، فالمسيح هو كلمة الله غذاء الروح [إذ أن المذود عبارة عن مربع/مستطيل بإرتفاع 50 سم من حجر أو خشب يوضع فيه علف الحيوانات] ونور العالم فقوس قزح لبني البشر. قول الرب يسوع للقديس بطرس الرسول: "إرع خرافي" (يوحنا 21: 15) وقوله لرسله: "دعوا الأطفال ولا تمنعوهم أن يأتوا إليَّ" (متى 19: 13-15، مرقس 10: 13-16) وصلاة الملك داوود في مزموره 23 واصفًا الله: "الرب راعيَّ فما من شيء يعوزني في مراعٍ نضيرةٍ يُريحني، مياه الراحة يوردني ويُنعشُ نفسي، وإلى سُبلِ البرِّ يُهديني إكرامًا لإسمِه … الخير والرحمة يُلازماني جميع أيام حيلتي وسُكناي في بيت الربَّ طوال أيامي" تدعونا لنكون رُعاة على صورة الله فنقود الخراف الموكلة إلينا [الأشخاص المُحيطون بنا في بيتنا وعملنا ومُجتمعنا] إلى المذود الذي يحوي غذائهم، إلى مراعٍ خضر ليأكلوا ويشبعوا وينموا: إلى الرب يسوع [الذي قال "أنا خبز الحياة. من يُقبل إليّ فلا يجوع ومَن يؤمن بيّ فلن يعطش أبدًا" (يوحنا 6: 35)، كما قال "أنا الخبزُ الحيُّ الذي نزل من السماء. من يأكل من هذا الخبز يحيَ للأبد. والخبزُ الذي أنا سأُعطيه هو جسدي أبذلُه ليحيا العالم". (يوحنا 6: 51)] حيث الغذاء المتكامل في (1) كلمته وحياته بالكتاب المُقدّس، و (2) جسده الحي بسر القربان المُقدّس الذي قدّمه لرسله ولأتباعه مِن بعدهم عند عشاء الفصح الأخير (لوقا 22: 19-20).

     في سفر الحكمة، وبوحي من الروح القدس، يكتب سليمان ويقول: "ورُبِّيتُ في القمطِ والهموم" (الحكمة 7: 4). وهنا أيضًا يُشير القمط إلى محبة الله ورحمته، والهموم تعني بإهتمامٍ وعناية شديدة مهما كلّف الأمر مِن قِبل الوالدين من مشقة؛ وهذه هي العناية الإلهية [أي محبة الله ورحمته] بكلّ معانيها ووسائلها لتربية من أراد أن يكون من أبناء الله أي مِن الذين يتوكّلون على الله (سفر يشوع إبن سيراخ الإصحاح الثاني).

     القماط يستر عيوب الجسد. وهذا بالضبط ما تفعله المحبة للإنسان الخاطيء، فهي تستر جميع المعاصي (الأمثال 10: 12)، وما فعله جسد المسيح حين حوى عيوبنا/خطايانا بجراحاته. إن "الماء والدم" اللذان خرجا من جسد يسوع المسيح بعد موته على الصليب رمزًا لـ "محبة الله ورحمته" أو "الروح والحياة" أو "المعمودية والإفخارستيا" هما لباسًا وقماطًا للخاطيء الذي آمن به، فمَن آمن به وإن مات فسيحيا (يوحنا 11: 25). والإنسان الذي يعرف الله [أي الذي بقلبه محبة] عليه أيضًا أن يكون قماطًا للآخرين بالمغفرة ونشر المحبة.

لنُصلّ:

سبحانك يا رب فكل ما صنعت يداك كانت به ومن أجله وتُشير عليه (قولسي 1: 16): كلمة الله، المسيح المصلوب، إبن الله، أمير السلام: المحبة. ربي وإلهي، إني واثقٌ بك. آمين.