رسالة البابا لليوم العالمي العشرين للمريض: قم فامضِ، إيمانك خلّصك

 

نقلها إلى العربية الأب الدكتور لويس حزبون

13 فبراير 2012

أيها الإخوة والأخوات،

 

بمناسبة اليوم العالمي للمريض، الذي نحتفل به في 11 شباط 2012، في ذكرى ظهورات مريم العذراء سيدة لورد، أود أن أجدد قُربي الروحي لجميع المرضى الذين هم في أماكن الرعاية أو في أسرهم، معربا لكل واحد منهم عن تعاطف الكنيسة جمعاء ومحبتها لهم. يعبر المسيحي في تقبله حياة كل إنسان، خاصة حياة الضعفاء والمرضى عن شهادته للإنجيل، على غرار المسيح الذي تعاطف مع معاناة الانسان المادية والروحية كي يشفيها.

 

1. هذا العام، والذي يصادف التحضير لليوم العالمي للمريض الذي سيتمّ الاحتفال به في ألمانيا في 11 شباط عام 2013 المتمحّور على شخصية السامري (لوقا 10:29-37)، أود التشديد على "أسرار الشفاء"، اي سر التوبة والمصالحة وسر مسحة المرضى اللذين يجدان ذروتهما في سر القربان المقدس.

 

ان لقاء يسوع مع عشرة من البرص كما رواه انجيل القديس لوقا (17: 11- 19)،  وعلى وجه الخصوص الكلمات الموجهة لواحد منهم، "قم فامضِ، إيمانك خلّصك" (الآية 19)، تساعدنا على إدراك أهمية الإيمان لأولئك الذين يقتربون من الرب وهم يعانون من الالم والمرض. يمكنهم في لقائهم معه تعالى ان يختبروا حقا بانه من يؤمن به لن يكون وحيدا! الله لا يتخلى عنا في آلامنا ومعاناتنا، بل هو قريب منا، يساعدنا على تحملها، ويريد شفاءنا في أعماق قلوبنا (راجع مرقس 2: 1-12).

 

ان إيمان الأبرص المنعزل الذي رأى نفسه انه برئ، امتلأ بالدهشة والفرح، وخلافا للآخرين، ذهب على الفور الى يسوع ليُعرب عن امتنانه. يمكننا هذا الابرص من إدراك أن نيل الشفاء هو علامة على شيء اثمن من الشفاء الجسدي؛ هو علامة على الخلاص الذي يعطينا الله اياه من خلال المسيح، ولسان ذلك كلمات يسوع: "إيمانك خلّصك". من المؤكد أن الله لن يتخلى عن الانسان الذي يصلي للرب وهو يعاني من الالم والمرض، وأن محبة الكنيسة، التي هي امتداد الزمني لعمل الرب لن تفشل. ان الشفاء الجسدي الذي هو ليس الا تعبير خارجي لخلاص النفس يكشف اهتمام الرجل الابرص بالرب. يُعرب كل سر من اسرار الكنيسة عن  قرب الله منا الذي، "يلمسنا  من خلال الأشياء المادية … ويجعلها أدوات للقاء بيننا وبينه "(عظة قداس الميرون، 1 نيسان 2010). وعليه بالأسرار "ان الوحدة  بين الخلق والفداء تصبح واضحة. فالأسرار هي تعبير عن ظواهر إيماننا التي تتفاعل مع كيان الانسان، جسدا وروحاً" (عظة قداس الميرون، 21 نيسان 2011).

 

وتتمثل المهمة الرئيسة للكنيسة اعلان ملكوت الله، "ولكن هذا الإعلان  يجب أن يكون جزء من عملية الشفاء: "جبر مُنكَسِري القُلوب" (اشعيا 61: 1)، وفقا لهذه المهمة التي عهد بها السيد المسيح لتلاميذه (لوقا 9: 1-2؛ متى 10: 1 و5-14؛ مرقس 6: 7-13). ان الشفاء الجسدي والتجديد الروحي يساعد على ادراك على نحو أفضل "اسرار الشفاء".

 

2. كان سر التوبة في كثير من الأحيان جلَّ اهتمام رعاة الكنيسة، لما له من أهمية كبيرة في مسيرة الحياة المسيحية، إذ "ان مفعول سر التوبة يعيدنا الى نعمة الله ويضمنا إليه في علاقة صداقة حميمة" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1468). أما الكنيسة  في إعلانها لرسالة يسوع عن الغفران والمصالحة، لم تتوقّف لدعوة البشرية جمعاء للتمسك بالإنجيل والايمان به. فاصبح لسان حالها كلمات بولس الرسول: "نَحنُ سُفَراءُ في سَبيلِ المسيح وكأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِأَلسِنَتِنا. فنَسأَلُكُم بِاسمِ المسيح أَن تَدَعوا اللّهَ يُصالِحُكُم "(2 كور 5:20). وقد اعلن يسوع خلال حياته على الارض رحمة الآب وجسّدها في البشر. انه لم يأت ليدين بل ليغفر ويخلص ويبعث الامل  في الم المعاناة وظلمة الخطيئة، ويهب الحياة الأبدية؛ وهكذا في سر التوبة، "دواء الاعتراف"، لا يولد اختبار الخطيئة اليأس ولكن يواجه الانسان فيه الحب الذي يغفر ويغيّر (راجع يوحنا بولس الثاني، في مرحلة ما بعد السينودس الإرشاد الرسولي المصالحة، 31).

 

ان الله "الواسِعَ الرَّحمَة" (أفسس2:4)، مِثل الآب في "مَثل الابن الضال" (راجع لوقا 15: 11-32)، لا يغلق قلبه إلى أي احد من أبنائه، ولكن ينتظرهم، ويبحث عنهم في عزلتهم وانقسامهم بسبب رفضهم الشركة به، ويدعوهم ليجتمعوا حول مائدته في فرحة عيد الغفران والمصالحة. ومن ثمة يتحول زمن المعاناة التي يمكن أن يجر الانسان إلى الإحباط واليأس الى زمن نعمة بعودة الانسان إلى الذات، والى التفكير من جديد في الحياة -مثل الابن الضال- فيعترف بأخطائه وإخفاقاته، وعطشه  لمعانقة ابيه، والعودة الى بيته. انه  الآب الذي في حبه كبير، يسهر علينا وينتظرنا دائما وفي كل مكان ليقدم لكل من ابنائه فرح العودة  وهبة المصالحة.

 

3. يظهر من قراءة الانجيل بوضوح أن يسوع اهتمّ دائما بعناية المرضى. فهو لم يرسل تلاميذه ليعتنوا بجراحهم فحسب (راجع متى 10: 8 ؛ لوقا 9: 2 ؛ 10:9) انما أيضا اسس سرا  خاصا: سر مسحة المرضى. وتؤكد رسالة القديس يعقوب على وجود هذا السر في الجماعة المسيحية الأولى (راجع 5: 14-15). فكانت الكنيسة عن طريق مسحة المريض ومرافقته بصلاة الكهنة تشجعه على تحمل الامه وتمجيد الله مما يخفف من آلام الكنيسة ويعمل على خلاص النفوس. وفي الواقع الكنيسة تحضّ المرضى ان يوحّدوا انفسهم روحيا مع آلام المسيح وموته؛ وذلك للمساهمة في خير شعب الله.

 

يقودنا هذا السر إلى التأمل بأحداث المسيح على جبل الزيتون، حيث يسوع وجد نفسه يواجه بشكل كبير المسار الذي وضعه ابيه السماوي له؛ وهو طريق الالام كأسمى فعل محبة، فوافق يسوع عليه. كان يسوع في تلك الساعة من المحنة وسيطاً "فحمل في نفسه، وأخذ على عاتقه معاناة وآلام العالم، وقام بتحويلها إلى صرخة لله، وحملها امام مرأى الله الى زمن الخلاص" (القراءة الإلهية، لقاء مع كهنة أبرشية روما، 18 فبراير 2010).

 

غير ان "بستان الزيتون هو أيضا المكان الذي صعد منه يسوع الى الاب، وبالتالي فهو مكان الفداء… وسر جبل الزيتون المزدوج يستمر دائما "في العمل" في الكنيسة من خلال زيت المرضى… كعلامة رحمة الله التي تلمسنا" (عظة قداس الميرون، 1 نيسان 2010). تُقدم الكنيسة لنا عن طريق مسحة المرضى مادة الزيت الاسرارية، وإذا جاز التعبير، "دواء الله … الذي يضمن لنا الآن رحمته، ويقدم لنا قوة وعزاء، ولكن في الوقت نفسه يشير عبر المرض الى القيامة، اي الشفاء النهائي (راجع رسالة يعقوب 5:14).


يستحق هذا سر المزيد من الدراسة سواء على الصعيد  اللاهوتي او على الصعيد الرعوي: من خلال تقدير سليم لمحتوى الصلوات الطقسية الخاصة لحالات الإنسان المرضية، وليس الاقتصار بممارسة هذه السر للمريض عند ساعة موته فقط (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1514). لا ينبغي أن تكون مسحة المرضى اقل الاسرار ممارسة انما ينبغي الاهتمام والعناية الرعوية للمرضى؛ اذ هي علامة حنان الله تجاه أولئك الذين يعانون من جهة؛ ومن جهة أخرى تجلب فوائد روحية للكهنة والمؤمنين ايضا اعتبارا بان ما نصنعه لواحد من هؤلاء المرضى، نصنعه ليسوع  نفسه (راجع متى 25: 40).

 

 4. اما بخصوص "أسرار الشفاء" فيؤكد القديس اوغسطينوس: "ان الله يشفي كل امراضكم؛ لذلك لا تخافوا، كل امراضكم ستشفى… يكفي ان تتيحوا لله المجال للعناية بكم ولا ترفضوا مد يديه اليكم  "(شرح مزمور 102، 5؛ PL  36 ، 1319- 1320). هذه هي أدوات ثمينة من لدن نعمة الله تساعد المريض ليعيش في تلك الفترة  أكثر من اي وقت مضى سر موت المسيح وقيامته.

 

إلى جانب سريّ مسحة المرضى والاعتراف، أود أيضا أن اؤكد على أهمية سر القربان المقدس. فالكنيسة عموما والرعية خاصة عليها ان تبذل كل ما في وسعها لضمان إمكانية مناولة مستمرة لأولئك الناس الذين لأسباب صحية أو كبر السن، لا يستطيعون الذهاب إلى الكنيسة. يتمكن هؤلاء الاخوة والاخوات بهذه الطريقة من تعزيز علاقتهم مع السيد المسيح، المصلوب والقائم، فيشاركون من خلال حياتهم المقدّمة لحب المسيح في رسالة الكنيسة الخلاصية.

 

من وجهة النظر هذه، من المهم أن الكهنة الذين يعملون في المستشفيات وفي دور رعاية المسنين وفي منازل المرضى، يشعرون أنهم حقا "خدام المرضى"، فيكونوا علامة واداة رحمة المسيح الذي يجب أن تصل إلى كل شخص يعاني من المرض وآلام  "(رسالة في اليوم العالمي الثامن عشر للمريض، 22 نوفمبر 2009).

 

وعندما يعيش المريض سر المسيح الفصحي من خلال الشركة الروحية مع المسيح، يأخذ القربان المقدس معنى خاص في حياته وخاصة في ساعة موته. في تلك المرحلة من الحياة، كلمات الرب لها صدى قوي: "مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يو 6: 54). القربان المقدس، وخصوصا كزاد اخير هو -وفقا لتعليم القديس اغناطيوس الانطاكي- "دواء الخلود، وترياق للموت" (الرسالة إلى أهل أفسس، 20:  5 PG ، 661)؛ وسر العبور من الموت الى الحياة، ومن هذا العالم إلى الآب السماوي الذي ينتظر الجميع في اورشليم السماوية.


5. أن موضوع هذه الرسالة في اليوم العالمي العشرين للمريض،
"قم فامضِ، إيمانك خلّصك"، مع تطلعات إلى سنة الايمان المقبلة التي ستبدأ يوم 11 تشرين أول عام 2012، فرصة ملائمة وقيّمة لإعادة اكتشاف قوة وجمال الإيمان، ولفحص مضمونه،  والشهادة له في الحياة اليومية (راجع رسالة رسولية Porta Fidei، 11 تشرين اول 2011).

 

وأود أن أشجع المرضى والمتألمين ان يجدوا مرساة آمنة في الإيمان، وان يتغذوا بالاستماع الى كلمة الله، من خلال الصلاة الشخصية والأسرار المقدسة. كما أدعو الكهنة ليكونوا دائما على الاستعداد في خدمة اسرار الشفاء للمرضى. وينبغي أن يكونوا فرحين ويعيروا انتباههم إلى اضعف الضعفاء والبسطاء والخطأة، ويُعربون عن رحمة الله اللامتناهية بكلمات أمل مطمئنة ذلك اقتداءً بالراعي الصالح وكمرشدين للرعية الموكلة إليهم (راجع القديس أوغسطينوس، رسالة 95، 1: PL 33 ،351-352).


أجدد شكري وشكر الكنيسة إلى جميع أولئك الذين يعملون في مجال الصحة، وإلى الأسر الذين يرون في أقاربهم وجه الرب يسوع المتألم، لأنه، في خبراتهم المهنية وصمتهم، وغالبا دون ذكر اسم المسيح، يُعبّرون عنه بطريقة ملموسة (راجع عظة قداس الميرون، 21 نيسان 2011).

 

"نرفعُ أنظارنا وصلاتنا إلى مريم العذراء أمّ الرحمةِ والصحّة للمرضى لترافقَ عاطفتها كلّ مريض كما رافقت ابنها على الصليب ولتسانده وتزده إيمانًا وأملًا فيُشفى من آلام جسده وروحه". وأود أخيرا أن أؤكد لكم جميعا صلاتي، وامنحكم بركة رسولية خاصة.