فاطمة ناعوت
الثلاثاء، 14 فبراير 2012 – اليوم السابع
«لكن يبقى من عشق الوطن خريطةٌ لا تتغير وتاريخٌ لا يموت، عبر التاريخ يموت المواطنُ من أجل الوطن وليس العكس، وسوف يعبر الوطنُ هذه المحنة لأنه «مصر» التى لا يعرف قيمتها بعض المصريين ومعظم المسؤولين الذين أخفوا أنابيب الغاز وأظهروا قنابل الغاز، وسرقوا من قلوبنا الفرحة ومن أيدينا الثورة، سوف نعبر عندما نرفض سقوط مواطن أو سقوط مؤسسة، وعندما يتوقف التراشق بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية، فعندنا برلمانٌ لم يجئ لصنع المستقبل، بل لتصفية حسابات الماضى مع الفن والشرطة والقضاء، حسابات ليس لنا فيها ناقة أو جمل، وسوف نعبر عندما ينعدل خيال الظل «التليفزيون»، ويختفى الأراجوز «رجل كل العصور» الذى أصبح معارضاً عندما أصبحت المعارضة مجانًا، أو بمكافأة شاملة، وعندما يتوارى الزعماء والمفتون والمحللون ويعود المواطن العادى، سوف نعبر هذه المحنة عندما تصبح مدرجات الجامعة أهم من مدرجات الكرة، ومعامل البحث العلمى أهم من مكاتب البحث الجنائى، وعندما نعرف أن أسوأ ما فى «الأمة» هو «الأميّة»، وإذا عرفنا الله من أجل «الصالحات»، وليس من أجل «الانتخابات»، سوف نعبر هذه المحنة عندما نعرف أن الضابط ليس «قابيل»، والثائر ليس «هابيل»، فلا يلوّح هذا بـ«العصا»، ولا يلوّح ذاك بـ«العصيان»، سوف نعبر هذه المحنة بقطع إجازة «العقل» واستدعاء «الحب».
كانت تلك هى «الروشتة» المُعالِجة التى تركها لنا الكاتب الساخر الكبير «جلال عامر»، قبل أن يغادرنا ويطير إلى حيث يطير الشرفاءُ إلى عالم أكثر جمالا ونقاء وتُقًى وشرفًا من عالمِنا الذى لوثه البشرُ بأمراضهم وأثرتهم وعصبيتهم وعنصريتهم وتهافتهم على المصالح ولو فوق جثث الناس، ومن أسف ألا يدفع فاتورة ما يصنع أولئك النفعيون سوى الشرفاء الذين رفضوا قبح الواقع، فحلموا بواقع أجمل، فسعوا لأجل تحقيق حلمهم، فهالهم عسرُ تحقيقه، فقاتلوا القبحَ انتصارًا للجمال، فخسرت معركتهم؛ لأن للقبح أنيابًا وسيوفًا وسياطًا، فضربهم الحزنُ، ثم الموت، النفسىّ أو الجسدى، وكلا الموتين موتٌ، لماذا؟ لأن رسالتهم نحو الجمال والعدالة والحق بدت مجنونة وشاذة وسط عالم قوامه القبح والظلم والعنصرية والضلال.
ها هو قلمٌ نبيل يُقصف، قتنقُصُ لوحةُ الجمال الشحيحية خيطًا من خيوطها النحيلة، وتزداد رقعةُ القبح الباذخةُ بخيوطها الثقيلة الكثيفة المظلمة، ها هى ورقةٌ خضراءُ غضّةٌ تسقط من شجرة الاستنارة، لتحتلَّ مكانها أوراقٌ شائخةٌ قاتمة، وتعبر غيمةٌ ضبابية تلوّن سماء مصر بمزيد من العتمة فى لحظة ما أحوجنا فيها إلى بصيص نور!
غاب عن سماء مصر مبدعٌ استثنائىٌّ كان يكتب بقلبه ومشاعره وخفّة ظلّه، فيصوغ الكارثة فى عبارة ساخرة تضع الابتسامة فوق شفتيك، وتحقن التأملَ والتبصّر داخل عقلك، الكتابة الساخرة من أصعب الفنون الكتابية إن لم تكن أصعبها، كيف ترسم البسمة وسط دموع تنهمر، وتهمسُ بهدوء مستنير وسط الصراخ الأجوف، وتسرّب الفكرة الصعبة المركّبة عبر دعابة تبدو للبسيط نكتةً، وللعميق العالِم معادلةً رياضية شديدة التعقيد، قبل طيرانه بيوم فى عموده اليومى: «تخاريف»، بجريدة «المصرى اليوم»، كتب جلال عامر يقول: «سبعة آلاف سنة ليس فيها سبعة أيام حرية!» فلنا أن نحزن أن مصر بتاريخها الممتد آلاف السنين لم تستطع أن تمنحنا حرية عرفتها دولٌ «طفلة» عمرها لم يتجاوز بضع مئات من السنين مثل أمريكا الوليدة، يسلِّمنا الزمانُ من حاكم طامع فاشى إلى حاكم طامع فاشى حتى وصلنا إلى هذه اللحظة الدامسة التى نحياها، أمر محزن، لكنه يعود ليبث فينا الأمل فيقول: «أما (انتصار الشباب)، فهو ليس فيلماً لـ(أسمهان)، لكنه حقيقة علمية، فلا أحد يقف أمام الطبيعة ولا عاقل يهتف ضد التكنولوجيا، هو فقط يُؤجل مثل مباريات الكرة ومواعيد حبيبتى وجلسات المحاكمة».
خسرنا وطنيًّا مبدعًا، أحدَ أبطال الحرب وأحد فلاسفة السلام، خسرنا واحدًا من القليل جدًّا الذى لدينا! لنغدو أشدَّ فقرًا وعَوزًا من الأمس، خسرنا مستنيرًا من القِلّة التى تكافح الظلام الكثيف ممن كنا نراهن عليهم وتراهن عليهم مصرُ المأزومة بالمنافقين والشُّطّار والعَيّارين والطامعين فيها دون أن يتعلموا كيف يحبونها.. لكِ الله يا مصرُ، وعلى قلب «جلال عامر» السلام.