عظة البابا بندكتس السادس عشر بمناسبة عيد كرسي القديس بطرس

التبادل بين الإيمان والمحبة

 

 

روما، الاثنين 20 فبراير 2012 (ZENIT.org).

أشار البابا بندكتس السادس عشر إلى الحركة التي منحها برنيني لمنحوتنه كرسي القديس بطرس في كاتدرائية الفاتيكان واصفاً إياها بالـ"مزدوجة" إذ تجمع بين حركتين "تصاعدية وتنازلية" تمثّلان "التبادل بين الإيمان والمحبة". وقد شكّل هذا التصوير دعامة بنى عليها البابا عظته بمناسبة العيد الليتورجي لكرسي القديس بطرس التي احتُفل به مسبقاً في 19 فبراير بدلاً من 22 فبراير.  
ترأّس البابا بندكتس الذبيحة الإلهية في كاتدرائية القديس بطرس يوم الأحد الماضي محاطاً بمجمع الكرادلة وبالكرادلة الجُدد الـ 22 وبالمؤمنين القادمين كلّ من بلاده، ومنهم 50 كاثوليكياً أتوا خصيصاً من الهند للإحاطة بالكاردينال الجديد من ولاية كيرالا جورج ألينشيري. ولم تكفِ طائرة واحدة لنقل الوفد القادم من براغ ليكونوا إلى جانب الكاردينال دومينيك دوكا، مما اضطرّهم إلى التوزع على طائرتين أخريين وباصات يقودها كل من الإيمان والمحبة.
ننشر في ما يلي عظة البابا بندكتس السادس عشر.
* * *
حضرات السادة الكرادلة،
إخوتي الموقرين الأساقفة والكهنة،
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
نجتمع اليوم في كرسي القديس بطرس المهيب حول مذبح الرب مع الكرادلة الجدد الذين جمعتهم يوم أمس في مجمع الكرادلة. إني أوّجه لهم أولاً تحية الصادقة شاكراً الكاردينال فيرناندو فيلوني على الكلمات اللطيفة التي وجّهها إليّ باسم الجميع. وأتوّجه بالتحية أيضاً إلى الكرادلة الآخرين وإلى جميع الأساقفة الحاضرين، كما أحيي السلطات، وكلّ من السيدات والسادة السفراء، والكهنة والرهبان وجميع المؤمنين الذين قدموا من أنحاء العالم كافة للاحتفال بهذا المناسبة السارة، والتي تحمل طابعاً مميِزاً ألا وهو العالمية.
في القراءة الثانية التي سمعناها منذ لحظات، يحثّ بطرس الرسول "قدماء" الكنيسة على أن يكونوا رعاة غيورين ومبادرين إلى خدمة خراف المسيح (راجع 1 بط 5، 1 -2).
وهذه الكلمات موجهة إليكم أنت أولاً، إخوتي الكهنة الأعزاء والموقرين؛ أنتم الذين نلتم حظوة عند شعب الرب عن أعمالكم السخية والحكيمة في خدمة الرسالة الرعوية في الأسقفيات المهمة، وفي إدارة الأبرشيات البابوية، أو في خدمة الكنيسة في مجالي الدراسة والتعليم. إنّ المنصب الجديد الذي أوكِل إليكم هو تقدير لأمانتكم وإخلاصكم لعملكم الفاعل في كرم الرب، كما أنّه تكريم للمجتمعات والبلدان التي تنتمون إليها والتي تشكّلون فيها خير ممثّلين للكنيسة. وهذا المنصب يوكِل إليكم مسؤوليات كنسية جديدة وأكثر أهمية، ويتطلّب منكم مزيداً من الجهوزية والاستعداد لخدمة المسيح والمجتمع المسيحي كلّه. وهذه الجهوزية لخدمة الإنجيل ترتكز على صخرة الإيمان. إنّنا في الواقع ندرك أنّ الله أمين لمواعيده، وإنّنا ننظر برجاء أن تتحقّق كلمات بطرس الرسول حين قال: "وعندما يظهر رئيس الرعاة، تنالون إكليل المجد الذي لا يفنى" (1 بط 5، 4).
إنّ نص إنجيل اليوم يُظهر بطرس الذي يعبّر بوحي إلهي عن إيمانه الصلب بيسوع المسيح، ابن الله والمسيح المنتظر. وفي ردّ على هذا التعبير الشفاف عن الإيمان، والذي عبّر عنه القديس بطرس باسم الرسل الآخرين، يُظهر له المسيح الرسالة التي يوكلها إليه، أي أن يكون بطرس "الصخرة" والأساس المرئي الذي يبني عليه البنيان الروحي للكنيسة (راجع مت 16، 16-19). إنّ تسمية "بطرس الصخرة" لا ترجع إلى طابع الإنسان، بل يجب فهمها انطلاقاً من جانب وسرّ أكثر عمقاً: إنّ سمعان بطرس ومن خلال المهمة التي أوكلها إليه المسيح سيصبح ما ليس عليه "بالحم والدم". وقد أظهر الشارحة خواكيم جيريمياس أنّنا نقرأ خلف كلمات المسيح لغة رمزية لـ "الصخرة المقدسة". وفي هذا الإطار، يمكننا الاستعانة بالنص العبراني الذي يؤكّد فيه: "يقول الرب "كيف يمكنني أن أخلق العالم بظهور أولئك الذين لا إله لهم والذي يثورون عليّ؟ ولكن حين رأى الله أنّ على ابراهيم أن يولد، قال: "انظر، ها قد وجدت صخرة عليها أبني وأؤسس العالم". من هنا سمّى ابراهيم بالصخرة". يشير أشعيا النبي إلى ذلك حين يدعوا الشعب قائلاً: "تلفتوا إلى الصخر الذي منه نُحتّم… انظروا إلى ابراهيم أبيكم" (أش 51، 1-2)
وبفضل إيمانه، يُعتبر ابراهيم أبو المؤمنين الصخرة التي تدعم الخلق. أما سمعان الذي كان أوّل من اعترف أنّ يسوع هو المسيح المنتظر، فقد كان الشاهد الأوّل على القيامة، وقد أصبح اليوم، بفضل إيمانه المتجدد، الصخرة التي تقف في وجه قوى الشر المدمرة.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إنّ في فصل الإنجيل الذي سمعناه اليوم تفسير آخر وأكثر بلاغة، وذلك ضمن عنصر فنّي شهير يزيّن هذه الكاتدرائية الفاتيكانية: إنّه مذبح الكرسي. فحين نعبر جناح الكنيسة المهيب عبر الجناح المصالب، نصل إلى صدر الكنيسة الذي نجد أمامه عرشاً ضخماً من البرونز يرتفع في الهواء ويقوم على أربعة تماثيل لآباء الكنيستين الشرقية والغربية. وفوق العرش نجد في النافذة البيضاوية منحوتةً تمثّل عظمة الروح القدس محاطاً بجوق من الملائكة المعلّقين في الهواء. فما الذي تعبّر عنه هذه المجموعة من المنحوتات التي يعبّر عنها برنيني بعبقرية؟ إنّها في الواقع تمثّل رؤية لجوهر الكنيسة وفي داخلها السلطة البطرسية.
وتنفتح نافذة صدر الكنيسة نحو الخارج، نحو الخليقة كلّها، بينما تُمثل صورة حمامة الروح القدس الله مصدر كلّ نور. ولكن ثمّة جانب آخر يجب تسليط الضوء عليه، ألا وهو الكنيسة بحدّ ذاتها، النافذة والمكان الذي يقترب فيه الرب منّا ويلتقي فيه بعالمنا. فالكنيسة ليست موجودة من أجل ذاتها، كما أنّها ليست نقطة وصول، بل إنّها تودي إلى أبعد من مكان وجودها بكثير. إنّها تودي نحو الأعلى، نحو العلا. وتحقّق الكنيسة ذاتها من خلال إظهارها للـ "آخر" بشفافية، ذلك "الآخر" الذي منه تنبثق وإليه تودي. الكنيسة هي المكان الذي "يصل" فيه الله إلينا، والمكان الذي منه "ننطلق" نحو الله. فواجب الكنيسة أن تنفتح إلى أبعد من حدودها هذا العالم الذي يميل نحو الانغلاق على ذاته، وتزوّده بالنور الآتي من العلا، النور الذي من دونه يصبح هذا العالم غير قابل للسكن.  
ويتضمن كرسي البرونز الكبير مقعداً من الخشب يعود إلى القرن التاسع، والتي تمّ اعتباره على مدى عصور طويلة الكرسي الذي جلس عليه بطرس الرسول، وقد تمّ وضعه على هذا المذبح الأثري بالتحديد نظراً إلى أهميته الرمزية الكبيرة. فهذا الكرسي يعبّر عن الحضور الدائم للرسول في السلطة الرسولية التي أُعطيت إلى خلفائه. ويمكن القول إن كرسي القديس بطرس هو عرش الحقيقة التي تستمد جذورها من التفويض الذي قام به المسيح بعيد الاعتراف في قيصرية فيليبي. ويذكرنا الكرسي الرسولي بالكلمات التي وجهها الرب إلى بطرس في العشاء السري: "ولكنّي تضرعت لأجلك لكي لا يخيب إيمانك. وأنت بعد أن تُستردّ، ثبّت إخوتك" (لو 22، 32).
ويحيي الكرسي الرسولي أيضاً ذكرى أخرى: التعبير الشعير للقديس إغناطيوس الأنطاكي الذي يسمي في رسالته إلى الرومانيين كنيسة روما بـ "الساهرة على المحبة" (ص. 5، 801). في الواقع، يرتبط السهر على الإيمان ارتباطاً وثيقاً بالسهر على المحبة. فالإيمان من دون محبة لن يكون على الإطلاق إيماناً مسيحياً أصيلاً. ولكنّ صدى كلمات القديس إغناطيوس لا يزال يحمل بعداً ملموساً أكثر بكثير: إنّ كلمة "محبة" كانت تُستخدم أيضاً في الكنيسة الأولى للكلام عن الإفخارستيا. فالإفخارستيا هي "سرّ محبة المسيح" (Sacramentum caritatis Christi) الذي يستمرّ المسيح من خلاله بجذبنا إليه، تماماً كما فعل على خشبة الصليب (راجع يو 12، 32). لذا فإنّ "السهر على المحبة" يعني جذب البشر من خلال معانقة سر الإفخارستيا، أي معانقة المسيح، وهو ما يكسر كلّ حاجز، ويمحي كلّ غياب للعلاقة بالمسيح، ويؤسّس للشراكة انطلاقاً من الاختلافات على أنواعها. لذا فإنّ السلطة البطرسية هي في الواقع أوّلية في المحبة بمعناها الإفخارستي، أي السهر على تأمين الشراكة الكونية للكنيسة في المسيح. والإفخارستيا هي الشكل والمقياس الذي من خلاله تتحقّق هذه الشراكة، كما أنّها الضمانة على وفاء الكنيسة لعهدها في الإيمان. والكرسي الكبير المحمول على تماثيل لآباء الكنيسة يمثل معلّمي الكنيسة الشرقية القديسين يوحنا فم الذهب وأثناسيوس، إلى جانب القديسين أمبروسيوس وأغسطينوس عن الكنيسة اللاتينية. هذا الجمع بين الكنيستين يمثّل تقليد الكنيسة الواحدة وغنى الإيمان الحقيقي بها. ويخبرنا هذا العنصر من المذبح أنّ المحبة ترتكز على الإيمان، وأنّها تتزعزع إذا توقف الإنسان عن الاتكال على الله وطاعته. فكل ما في الكنيسة يقوم على الإيمان: الأسرار والليتورجيا والبشارة والمحبة. حتّى القانون والسلطة في الكنيسة يقومان على الإيمان. فالكنيسة لا تضع قوانينها بنفسها، وهي لا تنصاع إلى نظامها الخاص، ولكنّها تستمدّ قانونها ونظامها من كلمة الله التي تصغي إليها بكلّ إيمان وتسعى إلى فهمها وعيشها.
من هنا دور آباء الكنيسة في المجتمع الكنسي الذين يتوجّب عليهم أن يضمنوا الحفاظ على الوفاء للكتاب المقدس. إنّهم يؤمّنون تفسيراً موثوقاً ومتيناً وقادراً على تشكيل وحدة راسخة ومتجانسة مع الكرسي الرسولي. وتقوم الأناجيل المقدسة عبر تفسيرها من قبل السلطة الرسولية وبناء على تفسير الآباء بتنوير طريق الكنيسة عبر الأزمنة، وتمدّها بأساس متين في خضم التبدلات التاريخية.
وبعد النظر في العناصر المختلفة المكوّنة لمذبح الكرسي، لنلقِ عليه نظرة وحدوية. إنّنا نرى كيف تعبُر المذبح حركتان مزدوجتان: الأولى تصاعدية والأخرى تنازلية. تمثّل هاتان الحركتان التبادل القائم بين الإيمان والمحبة. وهنا يُسلّط الضوء بوضوح على الكرسي لأنّ في هذه النقطة بالتحديد نجد ضريح القديس بولس الرسول، وهي تدل في الوقت نفسه على المحبة. في الواقع، يشير الإيمان إلى المحبة. فالإيمان المحب لذاته لن يكون إيماناً حقيقياً. فمن يؤمن بالمسيح يسوع ويدخل في دينامية المحبة التي تستمدّ جذورها من الافخارستيا يكتشف الفرح الحقيقي ويصبح بدوره قادراً على العيش زفقاً لمنطق العطاء. والإيمان الحقيقي تنيره المحبة ويودي إلى المحبة، إلى العلا، تماماً كما يرتفع مذبح الكرسي نحو النافذة المنيرة، نحو مجد الروح القدس مشكلاً نقطة التركيز الأساسية التي يقع عليها نظر الزائر ما إن يخطو عتبة الكاتدرائية الفاتيكانية. وفي هذه النافذة، يترك جمع جوق الملائكة والشعاع الذهبي المنبثق التأثير الأكبر من خلال مفهوم الملء الفائض الذي يعبّر عن غنى الشراكة مع الله. فالله ليس وحدة منعزلة، بل إنّه محبة عظيمة تفيض فرحاً وإشعاعاً ونوراً.
 إخوتي وأخواتي الأعزاء،
لقد أوكِلت لكلّ منا نحن المسيحيين موهبة المحبة هذه: موهبة يجب نشرها من خلال شهادتنا في هذه الحياة. وهو بالتحديد واجبكم أنتم إخوتي الكرادلة الموقّرين: الشهادة على فرح المسيح ومحبته. واليوم، نوكل لأمنا العذراء مريم الحاضرة في المجمع الرسولي المداوم على الصلاة بانتظار الروح القدس (راجع أع 1، 14) خدمتكم الرسولية الجديدة. فلتحمِ أمّ "الكلمة المتجسّدة" بشفاعتها مسيرة الكنيسة وتدعم عمل رعاتها، وتستقبل تحت ذيل حمايتها كلّية الكرادلة كاملة. آمين!

* * *
نقلته من الفرنسية إلى العربية كريستل روحانا – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية