الصوم هو زمن التقرّب من الله

تعليم البابا بندكتس السادس عشر في المقابلة العامة بتاريخ 22 فبراير 2012

 

 

الفاتيكان، الخميس 23 فبراير 2012 (ZENIT.org).

ننشر في ما يلي التعليم الذي تلاه قداسة البابا بندكتس السادس عشر في قاعة بولس السادس في الفاتيكان، نهار الأربعاء 22 فبراير 2012.
* * *

أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،

أودّ أن أتطرّق يإيجاز في تعليم اليوم إلى زمن الصوم الكبير الذي يبدأ بليتورجيا أربعاء الرماد. إنّها رحلة 40 يوماً توصلنا إلى ثلاثية الفصح المتمثلة بآلام الرب وموته وقيامته؛ جوهر سرّ خلاصنا.
في القرون الأولى من حياة الكنيسة، بدأ أولئك الذين سمعوا بشارة المسيح واستقبلوها رحلتهم تدريجياً على طريق الإيمان والارتداد للحصول على سر المعمودية. كان لقاءً تدريجياً مع الله الحي، وتأسيساً للإيمان الذي نما يوماص بعد يوم بفضل تبدّل داخلي لدى الموعوظين أي الذين رغبوا بأن يصبحوا مسيحيين ويتحدون بالمسيحيين وبالكنيسة. بعدها وُجّهت الدعوة إلى التائبين والمؤمنين الذي دُعوا  إلى عيش التجدد الروحي ليماثِلوا وجودهم مع حضور المسيح. وتشير مشاركة الجماعة  بأسره في مراحل الصوم المختلفة إلى بُعد بالغ الأهمية في الروحانية المسيحية: الفداء، ليس للبعض، بل للجميع، والذي أصبح ممكناً بموت المسيح وقيامته. وبالتالي، فإن الذين سلكوا درب الإيمان مثل الموعوظين المهيّئين للمعمودية، والذين ابتعدوا عن طريق الرب وعن الإيمان ثمّ رغبوا بالمصالحة، والذين كانوا يعيشون إيمانهم بملء الشراكة والاتحاد بالكنيسة، هؤلاء جميعهم كانوا يدركون أنّ الزمن الذي يسبق الفصح هو زمن التوبة أي التغيير الداخلي والندامة؛ زمن يحدّد حياتنا البشرية وتاريخنا من خلال عملية الارتداد والعودة لملاقاة الرب عند انقضاء الأزمنة.
وقد أصبحت هذه العبارة محددة ليتورجياً بحيث باتت الكنيسة تطلق على هذا الزمن الذي ندخله اليوم تسمية "الصوم الأربعيني" أي "صوم الأربعين يوماً"، والذي في إشارة واضحة إلى الكتاب المقدس يُدخلنا في إطار روحي محدّد. في الواقع، إنّ رقم الأربعين هو العدد الرمزي الذي يمثّل من خلاله العهدان القديم والجديد أبرز التجارب الإيمانية التي عاشها شعب الله. إنّه يرمز إلى وقت الانتظار والتطهير والعودة إلى الرب، وإدراكنا بأنّ الله أمين لوعوده. تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الرقم لا يمثل وقتاً زمنياً دقيقاً يضبطه مجموع عدد الأيام، بل إنّه بشير إلى المثابرة الصبورة والتجربة الطويلة؛ إنّه زمن يكفي لمعاينة أعمال الله، زمن بجب أن نقرر فيه تحمّل مسؤولياتنا من دون تأجيلها: إنّه زمن القرارات الناضجة.
العدد 40 يظهر أولاً في قصة نوح. فبسبب الفيضان، يمضي هذا الرجل البار أربعين يوماً وأربعين ليلة في السفينة، مع جميع أفراد عائلته وجميع الحيوانات التي أمره الرب باصطحابها معه. وهو ينتظر أربعين يوماً آخر قبل أن يطاأ اليابسة التي نجت من الفيضان. (تك 7، 4-12؛ 8، 6). ثمّ كانت المرحلة التالية: بقي موسى على جبل سيناء بحضور الرب أربعين يوماً وأربعين ليلة لاستقبال الشريعة. وخلال هذا الوقت، صام (خر 24، 18). وكان أربعين عدد السنوات التي سافر فيها العبرانيون من مصر إلى أرض الميعاد، وهو وقت لازم لاختبار أمانة الله.
قال موسى في سفر التثنية، مع نهاية سنوات الهجرة الأربعين: "واذكر كل الطريق التي سيرك فيها الرب إلهك في البرية هذه السنين الأربعين، ليذللك ويمتحنك فيعرف ما في قلبك هل تحفظ وصاياه أم لا… ثوبك لم يبل عليك، ورجلك لم تتورم في هذه السنين الأربعين". (تث 8، 2-4). وسنوات السلم التي نعم بها بنو إسرائيل في عهد القضاة كانت أربعين (قض 3، 11-30). ولكن بعد هذه الحقبة، بدأ زمن نسيان عطايا الله والعودة إلى الخطيئة. كذلك لزم النبي إيليا أربعين يوماً للوصول إلى حوريب، الجبل الذي عليه التقى بالله (1 مل 19، 8).
أربعون هو عدد الأيام التي كفّر فيها أهل نينوى عن ذنوبهم لنيل المغفرة من الله (تك 3، 4). وهو عدد سنوات حكم شاول (أع 13، 21) وداوود (1 صم 5، 4- 5) وسليمان (1 مل 11، 41)، أوّل ثلاثة ملوك لإسرائيل.
والمزامير بدورها تعكس المعنى الإنجيلي للرقم 40، كما في المزمور 95 الذي سمعنا مقطعاً منه: "اليوم إذا سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في مريبة وكما في يوم مسة في البرية حيث آباؤكم امتحنوني واختبروني وكانوا يرون أعمالي أربعين سنة. سئمت ذلك الجيل وقلت: هم شعب ضلت قلوبهم" ( مز 95، 7- 10).
وفي العهد الجديد، وقبل أن يباشر يسوع حياته العامة، ابتعد إلى البرية لأربعين يوماً من دون طعام ولا شراب (مت 4، 2)، وقد تغذى من كلمة اله التي يستخدمها سلاحاً لقهر الشرير. تُذكّر التجارب التي مرّ بها يسوع بتجارب العبرانيين في الصحراء، ولكنّ هؤلاء لم يستطيعوا التغلب عليها. أربعون هو عدد الأيام التي علّم يسوع في خلالها خاصّته، قبل أن يصعد إلى السماء ويرسل الروح القدس ( أع 1، 3).
وهذا التكرار للرقم 40 يمكّننا من تحديد السياق لروحي الذي لا يزال آنياً وسارياً، والذي تقوم الكنيسة ومن خلال زمن الصوم الأربعيني بالتحديد، بضمان استمرارية قيمته وتحديث فاعليته بالنسبة إلينا. وتهدف ليتورجيا الصوم المسيحية إلى تعزيز مسار التجديد الروحي على ضوء هذا الاختبار الإنجيلي، كما تهدف إلى تعليمنا أنّ نتماهى بالمسيح الذي، حين أمضى أربعين يوماً في البرية، علّمنا كيف نتغلّب على التجربة متسلحين بكلمة الله.
وتمثّل السنوات الأربعون التي عبر في خلالها شعب إسرائيل الصحراء سلوكيات ومواقف متناقضة. فمن جهة، تمثّل قصة الحب الأول مع الله، بين الله وشعبه، حين كان يخاطب قلبه، مرشداً إياه باستمرار في الطريق التي يجب أن يسلكها.
وإن جاز التعبير، كان الله قد جعل مسكنه بين شعب إسرائيل، سائراً أمامه على شكل غمامة أو عمود من نار، مؤمّناً له طعامه اليومي بإهطال المنّ من السماء وتدفّق الماء من الصخر. لذا، يمكننا قراءة السنوات التي أمضاها شعب إسرائيل في الصحراء وكأنها زمن اختيار خاص قام به الله، واتحاد الشعب بالله، أي زمن الحب الأول.
من جهة أخرى، يشير الكتاب المقدس  إلى صورة أخرى لعبور بني إسرائيل الصحراء: زمن التجارب الشديدة والمخاطر المتزايدة، حين تكلّم شعب إسرائيل على الله وأراد العودة إلى الوثنية من خلال بناء الأصنام، وذلك بعد شعر بالحاجة إلى عبادة إله أكثر قرباً وقابلية للّمس. إنّه وقت التمرّد ضد الله العظيم وغير المرئي.
والمُلفت أنّنا نشهد هذه الازدواجية أيضاً، أي زمن القرب الاستثنائي من الله، وزمن الحب الأول، وزمن التجربة؛ تجربة العودة إلى الوثنية، في حياة المسيح على الأرض، ولكن من دون أي مساومة مع الخطيئة.
وبعد معمودية التوبة في الأردن، يأخذ يسوع على نفسه مصير خادم الله الذي ينكر ذاته ليعيش من أجل الآخرين، والذي يقيم بين الخطأة ليحمل خطايا العالم. ذهب إلى الصحراء حيث أمضى أربعين يوماً في اتحاد عميق مع الآب، مكرراً قصة شعب إسرائيل، ضمن إيقاعَي الأربعين يوماً والأربعين ليلة اللذين تحدّثت عنهما. إنّها دينامية ثابتة في حياة يسوع على الأرض، يسوع الذي كان دائماً يبحث عن أوقات عزلة ليصلي إلى أبيه، ويبقى في شراكة دائمة معه، في عزلة حميمة معه، وشراكة استثنائية معه، قبل أن يعود لاحقاً ليعيش بين بني البشر.
ولكن في خلال أزمنة "الصحراء" واللقاء الفريد بالآب، كان يسوع دائماً عرضة للخطر ولتجارب وإغراءات الشرير الذي عرض عليه حياة مسيحية أخرى، بعيداً عن مشروع الله، لأنّها تمرّ عبر السلطة والنجاح والسيطرة، وليس عبر بذل الذات الكلي على الصليب. وإليكم البديل: "حياة مسيحية تقوم على السلطة والنجاح في مقابل حياة مسيحية قوامها الحب وبذل الذات".
وتصف هذه الازدواجية حالة الكنيسة التي تمشي  في "صحراء" العالم والتاريخ. وإنّنا كمؤمنين نجد في هذه "الصحراء" فرصة الاختبار العميق لله الذي يقوّي روحنا ويثبّت إيماننا ويغذّي رجاءنا ويحيي المحبة فينا. إنّه اختبار يُشركنا في انتصار المسيح على الخطيئة وعلى الموت من خلال تضحية حبّه بالموت على خشبة الصليب.
ولكنّ الصحراء تعكس أيضاً الجانب السلبي من واقعنا الحالي: القحولة والفقر في كلمات الحياة والقيم، واللتان تحتبسان الإنسان في أفق الوجود الدنيوي الذي يفتقر لأي مرجع للسمو. كما أنّها تشكل جواً يُعتم السماء فوقنا ويلبّدها بغيوم الأنانية وعدم التفهّم والكذب. ولكنيمكن لزمن الصحراء هذا أن يتحول، حتّى في كنيسة اليوم، إلى زمن نعمة لأنّنا نملك ملء الثقة بأنّ من خلال الصلاة المثابِرة، يمكن لله أن يُدفق علينا ماء الحياة التي تروينا وتمدّنا بالقوة.
إخوتي واخواتي الأعزاء،
يمكننا خلال الأيام الأربعين هذه التي تقودنا إلى فصح القيامة أن نستمدّ شجاعة متجددة لنقبل بصبر وإيمان الصعوبات كافة، والمحن والتجارب، وائقين من أنّ الرب قادر أن يُبزغ من الظلمات فجراً جديداً. وإذا كنا أمناء ليسوع بالسير على خطاه على درب الصليب، سوف نستعيد عالم الرب المشرق، عالم النور والحق والفرح: ذاك سيكون فجراً جديداً خلقه الله نفسه.
أتمنّى لكم جميعاً رحلة صوم موفّقة!

* * *
نقلته من الفرنسية إلى العربية كريستل روحانا – وكالة زينيت العالمية
جميع الحقوق محفوظة لدار النشر الفاتيكانية