الأمير الحسن بن طلال يكتب: تحديات وآمال بعد رحيل البابا شنودة

 

عمّان – الامير الحسن بن طلال

في هذا الظرف الدقيق من تاريخ الشعب المصري، الذي تمتزج فيه الآمال والطموحات بالمخاوف والشكوك، جاءت وفاة البابا شنودة الثالث لتؤكد على خصوصية الواقع المصري وتميزه عن سائر الاقطار العربية، فمصر تحوي أكبر مجموعة سكانية في العالم العربي، وهي الأعمق تجذراً وتمسكاً بتراثها وتاريخها العريق منذ فجر التاريخ.

 

وسيذكر تاريخ العرب مواقف البابا شنودة تجاه جميع القضايا التي جابهت مصر والأمة العربية، وبالذات ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والقدس الشريف. كان رحمه الله مصرياً عربياً جذوره راسخة في تاريخ مصر، فوقف بصلابة ضد أي تدخل خارجي في شؤون مصر الداخلية، ومحاولات إثارة النعرات الطائفية التي كان يعتبرها خصمه الأعظم.

 

لقد كان رجلاً وفياً لبلده، ومحباً لحضارة مصر الموغلة في القِدَم، أحب اللغة العربية والشعر العربي كما أحب المسيح ومريم البتول ومصر، كل مصر، مسلميها ومسيحييها دون إستثناء.

 

وقد كان قداسته مدركاً أن هناك من يراهن على إفراغ المنطقة من أبنائها المسيحيين ليجعل العالم العربي خالياً من ألوانه، التي تُعدّ منذ قرون طويلة شاهدةً على تعايش المسلمين وقبولهم واحترامهم لكافة أتباع العقائد المختلفة من أبناء أوطانهم، ففوّت بذلك الفرصة على من يروج لصورة قاتمة ومغلوطة للمسلمين كجماعات متعصبة وغير قادرة على التعايش مع غيرها، الأمر الذي تروج له الطروحات الصهيونية، التي تجعل من إسرائيل واحة الديمقراطية والتنوع الوحيدة في المنطقة.

 

المغفور له الخليفة 117 ممن اعتلوا كرسي بابوية القديس مرقص كان «خادماً للرب»، وهو الترجمة العربية لإسمه القبطي شنودة، وإنساناً كلاسيكياً عصامياً جمع بين العلم والحكمة والزهد والتقوى. ماتت أمه تاركةً رعايته لأهل قريته، التي انتقل منها فيما بعد ليقرض الشعر، ويعمل في الصحافة والتعليم، ويخدم ضابطاً في الجيش، ويشارك في القتال دفاعاً عن فلسطين، ثم ليدرس في كلية اللاهوت ويدخل سلك الرهبنة ليتم اختياره فيما بعد بابا للكنيسة القبطية مدة أربعين عاماً.

 

عاش تاريخ مصر والمنطقة، وعُرف بمواقفه المستقلة إزاء القضايا العربية والوطنية ومنها إصراره على ضرورة إنهاء الإحتلال الإسرائيلي، والحفاظ على عروبة القدس ورفضه لتدويلها، وعلى حقوق الشعب الفلسطيني كاملةً.

 

ومن مناقبه إدراكه أن الإرهاب لا دين له من ناحية، وأنه خطر ووبال يعاني منه المسلم مثلما يعاني منه المسيحي. وكانت مسألة هجرة وتهجير مسيحيي الشرق إلى الخارج هاجسا مقلقا له كونها تقضي على التعددية التي هي إحدى سمات الحضارة العربية الإسلامية الرائعة.

 

الكنيسة القبطية التي بنيت على تعاليم القديس مارمرقس في القرن الأول للميلاد، بقيت متمسكةً بالعقيدة المسيحية ما يزيد عن تسعة عشر قرناً، وظهر من بين أبنائها العديد من العظماء أمثال البابا اثناسيوس بابا الإسكندرية والأنبا مكاريوس والأنبا بولا والأنبا موسى الأسود ومارمينا العجائبي وكيرس السادس.

 

وفي مصر كانت أول مدرسة للتعليم المسيحي في العالم، فبعد نشأتها نحو عام 190 م، على يد بانتيوس، أصبحت مدرسة الإسكندرية أهم معهد للتعليم الديني في المسيحية، وخرّجت الكثير من الأساقفة البارِزين أمثال أثيناغورس والقديس كليمنت واوريجانوس وديديموس. ومن مصر ظهر الأنبا أنطونيوس أول راهب مسيحي في العالم، والأنبا باخوميوس الذي أسَّس نظام الشركة والرهبنة.

 

ومما يذكر من إنجازات الكنيسة القبطية ما قامت به من جهد في سبيل التقريب بين جميع الكنائس المسيحية، كالأرثوذكس الشرقيين، والكاثوليك، والمشيخيين، والبروتستانت.

 

وحين تطرّق المغفور له إلى العلاقة التاريخية بين المسلمين والأقباط كان على وعي تام بأبعادها التاريخية، وانعكاس ذلك على واقع حياتهم المشتركة اليوم، فالأقباط هم أسرة مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهم وإخوانهم المسلمون شركاء في أرض مصر منذ القدم.

 

لقد بقي المسيحيون الأقباط يمارسون شعائرهم الدينية وتشريعاتهم الخاصة بين أبناء طائفتهم دون إكراه ولا تمييز، وظلَّت لغتهم القبطية هي اللغة الرسمية للبلاد طيلة الفترة ما بين القرنين الثامن والحادي عشر للميلاد.

 

ولعل أبلغ تعبير عن العدالة التي عامل بها المسلمون الأقباط يتلخص في قصة الخليفة العادل عمر بن الخطاب عندما جاءه الرجل القبطي الذي اشتكى إليه ظلم ابن حاكم مصر عمرو بن العاص، الذي ضربه بالسوط بعد أن سبقه، والذي ما كان من عمر إلاّ أن أعطاه سوطه وجعله يضرب «ابن الأكرمين» أمام المسلمين جميعا في موسم الحج، ثم قال عمر قولته العظيمة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً».

 

إن المسيحيين في مصر، وكذا في فلسطين والأردن والعراق وسوريا، يواجهون إلى جانب إخوانهم المسلمين في هذه الاقطار وغيرها من أقطار العالم الاسلامي تحديات النهضة والتنوير وبناء انموذجهم الحضاري المتميز، الذي سبق أن امتزجت فيه ابداعات العرب جميعاً من مسلمين ومسيحيين وغيرهم من أبناء الامة.

 

إن ما تركه البابا شنودة من إرث ومثل في التسامح والتآخي بين أتباع الشعب الواحد سيظل ماثلا أمام المصريين وهم يتطلعون إلى المرحلة الجديدة بكل ما تتطلبه من بناء وتآخ وتطلع إلى المستقبل.