هواجس المسيحيّين بعد الربيع العربي

أهميّة المبادرة:

 

بدايةً، إنَّ مبادرة دعوة ممثِّلي الكنائس الشرقيّة من كلِّ المذاهب إلى ندوة بعنوان: المسيحيّون الشرق… إلى أين؟ هي ذات أهميّة بالغة. إذ أنَّ بعضنا من المشاركين هنا، ومنذ الستينيَّات من القرن الماضي، شارك واستمع وقرأ ما دار في مبادرات كثيرة، دعت إلى تمتين العلاقات بين المواطنين من كلِّ الأطياف من جهة، وإبراز دور الحضور المسيحي، وشهادة الكنيسة في عالمنا من جهةٍ أخرى، وقد جرت على كلِّ المستويات العالميّة، والإقليميّة، والمحليّة. فدوائر الفاتيكان مثلاً، كانت لها مبادرات، وهكذا أيضاً مجلس الكنائس العالمي في جنيف – سويسرا، ومجلس كنائس الشرق الأوسط في بيروت – لبنان، والمجالس المحليّة للكنائس في كلِّ المنطقة. وأذكر هنا بين اللقاءات ما جرى من تعاون ما بين المعهد الملكي للدراسات الدينيّة، وجهات أخرى مثل: منظمّة الأديان من أجل السَّلام، والبطريركيّة الأرثوذكسيّة المسكونيّة.

 

ولكن هذه المبادرة بالذَّات، وبرعاية كريمة من سموِّ الأمير الحسن بن طلال فهي في نظري جزء هام من المتابعة لما سجَّله في كتابه القيّم: المسيحيون في الوطن العربي.

 

لقد ترك الكتاب صدى كبيراً ليس فقط عند مَن قرأه مِن العرب المسيحيِّين، أو عند القرَّاء العرب المسلمين، بل لدى كلّ من قرأ الكتاب باللغات الأجنبيّة، وذلك بسبب محتوياته القيّمة، والنفيسة، والحافلة بالمعلومات التاريخيّة، واللاهوتيّة والمسكونيّة، والحواريّة، خاصّةً لأنّ المؤلّف هو باحثٌ من الطراز الأوّل، ومفكِّرٌ كبيرٌ، معروف في كلِّ الأوساط الفكريّة والثقافيّة في العالمين الشرقي والغربي إنَّه صوت عربي مسلم، جديد من حيث المبدأ، بالمقاربة مع ما ورد في أدب الحوار بين الأديان في القرون الماضية، وهو مَن يُمثِّل، خاصّةً في الرؤيا بعيدة المدى لما يحدث في هذه المنطقة بشكلٍ عام، وفي البلاد العربيّة بشكلٍ خاص، والأهم من هذا وذاك هو صدقه في الكلام، لهذا عندما يقول كلمته بفهم، ووعي، وجرأة منقطعة النظير، في لقاءات على مستويات مختلفة، يترك أثراً بالغاً في نفوس السّامعين.

 

استشراف المستقبل:

 

نحن المسيحيّين في هذا الشرق بحاجة ماسة إلى أصوات مسلمة من وزن كبير، تبعث الأمل والرجاء في إمكانيَّة استمرار تحقيق العيش معاً، لهذا فإنَّ دعوة ممثِّلي الكنائس المسيحيّة الشرقيّة إلى هذه الندوة اليوم، نراها استشرافاً لما قد يحدث في مستقبل هذه المنطقة، خاصّةً بعد ما عُرف بـ الربيع العربي، نرجو أن تكون رياح التغيير في صالح الإنسان والوطن.

 

قبل قليل كنَّا، نحن ممثّلي هذه الكنائس الشرقيّة، وعلى مدى ساعتين، في اجتماع مغلق، تحدَّثنا فيه عن هواجسنا، ورؤانا، بناءً على مساهماتنا المتنوِّعة وعلى ضوء ما يجري في هذه المنطقة. وأيضاً توقفنا عند أهمِّ التغييرات التي وقعت وتقع هنا وهناك في الشرق العربي، وتساءلنا إلى أين نسير؟ فوجدنا أنَّنا أمام موقفين هامين.

 

الأوَّل: وهنا تكلّمنا بصفتنا مواطنين لا حواجز بيننا وبين إخوتنا في المواطنة، من الأديان والمذاهب والاثنيّات والثقافات الأخرى، وذلك لأنَّ جذورنا تمتدُّ في عمق الأرض في الوطن، ولنا حقوق كما علينا واجبات.

 

والثاني: أدركنا معنى أن نكون مسيحيِّين أصيلين نعيش في الوطن الذي نحن منه وهو لنا، وقد عرفناه منذ قرون طويلة، ولا نحسب أنفسنا إلاَّ في حالة مساواة مع كلّ المواطنين غير المسيحيِّين.

 

هاجسان:

 

لا شكَّ إنَّكم جميعاً تتفهَّمون بأنَّ هاجس الهجرة عند المسيحيِّين هو من الأهم بين الهواجس التي دارت في نقاشاتنا، فنحن نرى أنَّ هذا الهاجس ليس فقط هاجس العرب المسيحيِّين في هذه المنطقة، بل هو هاجس العرب المسلمين المعتدلين والمؤمنين بالتعدديّة، وقبول الآخر، أولئك الذين يعرفون أنَّه عندما يخسر الوطن هذا المكوِّن المسيحي – وهو من أساس مكوِّناته، ستكون خسارة كبيرة لكلِّ الوطن بأطيافه وشرائحه. ولكن إلى جانب هاجس الهجرة رأينا أنَّ الإسلام المتشدِّد أيضاً هو هاجس بالنسبة إلينا، وفي بعض الأحيان، أصوات بعض المتطرفيِّن فيه، تُقلقنا، بل تُخيف المسيحيِّين كلّهم وفي كلِّ مكان.

 

نحن نرى أنَّ واجباً كبيراً يقع على العرب المسلمين المعتدلين، والمؤمنين بالانفتاح، وهو أن يُدركوا معاني مسؤوليّة العيش مع المسيحيِّين من جهة، ويعملوا على تغيير الصُّورة الموجودة عند بعض الأصوليِّين والمتطرِّفين، خاصّةً في الإعلامين الغربي والعربي من جهةٍ أخرى. إنَّنا مع أن تكون هنالك مبادئ ثابتة وراسخة وواضحة، أكثر من الاحترام المتبادل بين المسيحيِّين والمسلمين.

 

المرجعيّات الإسلامية:

 

نحن نقدِّر ونجلّ كثيراً المرجعيّات الإسلاميّة في الوطن العربي الكبير، بخاصّةً تلك التي تنادي بالعيش معاً، والحوار مع الآخر، وقبوله، ونطالب أن تنادي هذه المرجعيّات بصوتٍ عالٍ واحد، وتوجه رسالة إلى داخل الوطن وخارجه، بأنَّ المسلمين يقفون إلى جانب المسيحيِّين، ويقلقون لهواجسهم المشروعة، ربَّما يتعلَّمون من هذه الندوة كيف يكون هذا الصوت مدوِّياً وواضحاً في مواقف كثيرة موجودة في بلداننا.

 

لهذا يتَّجه فكرنا إلى الدساتير الموجودة اليوم في منطقتنا، والتي لا تعبِّر عن شعورنا، ولا عن أحاسيسنا، أقل ما يُقال عن هذه الدساتير أنَّها لا تتحدَّث عنّا كـ مكوِّن إساس في الوطن، ولا تتناول حقوقنا كافة، ولا تُشير إلى واجباتنا.

 

قلنا ونكرِّر القول: بأنَّ هذا الحضور المسيحي في الشرق لا يجب أن يكون حضوراً بيولوجيّاً، نحن لا نفكر أن نكون فقط حاضرين بيولوجيّاً، نحن نفكر أنّ المسيحيِّين أمام معركة حقوق، وهذه الحقوق يجب أن تعطى لهم، لأنَّهم مكوِّن أساس من مكوِّنات الأقطار التي يعيشون فيها. فنرجو أن يكون هذا الصوت صارخاً واضحاً في كلّ الفضاءات، ويُعلِن بأنَّ المواطنين المسيحيِّين في الشرق كلِّه، يريدون أن يكونوا متساوين مع كلِّ المواطنين في الحقوق كما في الواجبات.

 

لجنة المتابعة:

 

عندنا رؤية تجاه ما يحدث في هذه المنطقة، ونأمل أن نخرج بعد هذه الندوة بـ: لجنة متابعة، وتكون هذه اللجنة بمثابة مؤسسة إسلاميِّة – مسيحيِّة، تستطيع أن تتابع نتائج وتوصيات هذه الندوة، ونعتقد أنَّ ما جرى قبل هذه الندوة كان شيئاً من الماضي، أمّا اليوم فنحن أمام تغيرات كبيرة بعد هذا الذي يُعرف بـ الربيع العربي، فهذه لجنة المتابعة، الإسلاميِّة المسيحيِّة، سيكون لها برنامج مبني على رؤيا جديدة تجاه ما يحدث في المنطقة، وتستطيع أن تقدِّم آليَّة عمليَّة تنفِّذ ما نريد أن نحقِّقه.

 

الإعلام وثقافة المواطنة:

 

هذا فريق العمل نريده أن يعمل على جبهات مختلفة أهمُّها: جبهة الإعلام، وكلّنا يدرك أهميَّة الإعلام بكلِّ وسائله، ودوره في العطاء غير المشروط للوطن، نحلم أن يكون هذا الإعلام إلى جانب الحق أي إلى جانب المواطنين.

 

كما أنّنا نتوخَّى أن نعمِّق ثقافة المواطنة في هذه المنطقة، لأنَّه عندما لا تكون ثقافة المواطنة متساوية في رؤية الجميع، عندئذٍ سنرى أن هنالك غبناً يلاحق المسيحيِّين، مثلاً يُطلق عليهم هنا وهناك مصطلح: الأقليَّات، هذا المصطلح الذي ننبذه ونرفضه بكلِّ معانيه، نحن مكوّن أساس من مكوِّنات هذا الوطن، ولسنا بصدد الكم، بل الحديث يدور حول الحقوق والواجبات، فنأمل أن يشطب هذا المصطلح الذي يخدش آذاننا، وأن نعيش مع مصطلحات فيها كلّ معاني الإيجابيِّة المطلوبة لترسيخ مفهوم ثقافة المواطنة. وهكذا سيشعر المسيحيُّون فعلاً بارتياحٍ كبير وهم يعيشون جنباً إلى جنب مع إخوانهم المسلمين.