المطران غريغوريوس يوحنا إبراهيم رئيس طائفة السّريان الأرثوذكس بحلب
حلب، الثلاثاء ٥ يونيو ٢٠١٢ (ZENIT.org).
لسنة كاملة خلت، وبمبادرة كريمة من سماحة شيخ الأزهر الأستاذ الدكتور أحمد الطيّب، صدرت وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر، وحال صدورها ونشرها تركت أثراً إيجابيّاً في كلّ الأوساط الدينيّة، والفكريّة، والسياسيّة والثقافيّة. وكانت مصر يومئذٍ تمرّ في نفق طويل، غابت فيها الأقلام الحرّة التي تنادي بمزيد من الحريّات العامّة، والديموقراطيّة، واقتلاع الفساد؛ آفة العصر في الدول العربيّة. ولم يتصوّر أحدٌ أنَّ رياح الرّبيع العربي، وتغييرات الأوضاع السياسيّة في بعض الدول العربيّة ستكون مدخلاً لسقوط نظام، أقل ما قيل فيه أنَّه فاسد! وسيتخطّى المصريّون الحواجز بكلِّ أنواعها، ويعلنون بالصوت الحيّ عن رؤآهم لمستقبل جديد يبشِّر بكلّ ما فيه الخير لهم وللأجيال القادمة، ويختارون خادم الشعب وقائده في انتخابات حرّة تسودها روح الديموقراطيّة التي باتت مفقودة في أدبياتهم لعدّة عقود. وواحدة من ثمرات هذا التغيير الجدِّي، هو مطالبة مؤسّسة الأزهر بالاستقلال، أي عودة هيئة كبار العلماء إلى حريّة القرار في ترشيح واختيار شيخ الأزهر، ليكون محاطاً بكوكبة من العلماء، ونخبة من المستشارين، وهكذا يسترد الأزهر دوره الفكري الأصيل، وأن لا يكون هيئة خاضعة لسياسة ما، تكون عادةً بعيدة عن روح الله وتعاليم الإسلام.
تشكّل المبادرة بحدِّ ذاتها مدخلاً هامّاً للدعوة بجرأة إلى هُوِّية متجدِّدة في الفكر والرؤية. وأن تكون لائحة المشاركين في إعداد الوثيقة ممثَّلة بكلّ الأطياف، والمكوّنات، والتيّارات الدينيّة، والفكريّة، والاجتماعيّة، تشكِّل قفزة نوعيّة، بل أنَّ وجود المسيحي في اللائحة له مدلول خاص.
إنَّ الإعلان عن هُوِّية الأزهر يخفِّف من الهجوم على دوره في مسارات الحياة، فهو يقف على مسافة واحدة من جميع الفرقاء، ولا يخوض العمل السياسي ولا الحزبي، إنّما يحمل على كاهله دوراً وطنيّاً تجذَّر في التاريخ أوّلاً، وحمَّلته إيّاه الأمّة ثانياً. وإذا كانت الوثيقة بمثابة إطار قيمي، فلأنّها تخرج الأمّة من ضيق الاختلاف وخطره، إلى سعة الآفاق الرحبة، والتعاون الجاد.
إذاً ما هي الخطوط العريضة التي تستند عليها وثيقة الأزهر؟
الوحدة في التعدديّة: يؤلَّف المجتمع المصري من مكوِّنات لها انتماءات دينيّة، وفكريّة، متعدِّدة، ولكنّها تؤمن بأنّ الجامع فيها هي الأطر الفكريّة الحاكمة لقواعد المجتمع ونهجه السليم، ويبنى هذا في الأبعاد الفقهيّة والتاريخيّة والحضاريّة والقياديّة في الفكر والعلم والنهضة. وذكر بعض أعلام النهضة مثل شيخ الإسلام الشيخ حسن العطّار، وتلميذه الشيخ رفاعة الطهطاوي، والإمام محمّد عبده هو دليل على أنّ روّاد النهضة في مصر، وقفوا دائماً مع وحدة الأمّة من خلال التعدديّة. وإن كنت أتمنّى أن تأتي لائحة اعلام الإصلاح على ذكر المفكر والعلامة السوري عبد الرحمن الكواكبي (1854- 1902) الذي عاش في مصر فترة من الزمن عندما لم تكن تحت سيطرة السلطان عبد الحميد المباشرة، وقد تتلمذ على يديه كثيرون من المصريّين لأنّه كان في نظرهم واحداً من أشهر علماء عصره علاقة الإسلام بالدولة: إنّ الإسلام الوَسَطي لا يستأثر لنفسه بالإمكانات والطاقات المتوفرة في الدولة. إنّه يدعو إلى ضمان العدالة الاجتماعيّة من جهة، والحفاظ على القيم الروحيّة، والإنسانيّة، والتراث الثقافي من جهةٍ أخرى. ومن هذا المنطلق تحمي المبادئ الإسلاميّة المجتمع من استغلال التيّارات المنحرفة التي ترفع شعارات دينيّة طائفيّة أو إيديولوجيّة، وهذه التيّارات تتنافى مع ثوابت الإسلام والأمّة، بل تحيد عن الاعتدال والوَسَطيّة، وتناقض جوهر الإسلام في الحريّة، والعدالة، والمساواة، وتبعد عن سماحة الأديان السماويّة كلّها. العدالة والمساواة: لا يمكن أن يسود السّلام في المجتمع دون أن تحتلَّ العدالة موقعاً هامّاً فيه، خاصّةً وأنَّ رقي الأمم مبنيٌّ على العدالة التي هي أساس نجاح وتطوّر المجتمع. والمساواة أيضاً هي علامة فارقة في حياة الوطن. فكلّ دستور ديموقراطي يكفل الحقوق الأساسيّة لكلّ المكوِّنات، ويخلق فرصاً للمساواة في الواجبات. وتوضح الوثيقة أمراً هامّاً جدّاً وهو أنّ الإسلام لم يعرف في تاريخه الطويل دولة دينيّة كهنوتيّة تسلطت على النّاس. وهذه إشارة إلى قيم الحقوق المدنيّة العامّة لكلّ المواطنين، بغض النظر عن الانتماءات المتعدِّدة، لتعيش في جوٍّ مفعم من التعدديّة، وتضمن لاتباع الديانات السماويّة غير الإسلام الاحتكام إلى شرائعهم الدينيّة، كما هو الحال في بعض البلدان العربيّة فيما يُعرف بـ الأحوال الشخصيّة.
ولا يُعرف لماذا أَغفلت الوثيقة ذكر المسيحيّة بالاسم بين الديانات السماويّة، خاصّةً وأنّ المكوّن المسيحي هو الثاني عدداً ودوراً ومساهمةً بعد المسلمين.
المواطنة وأخلاقيّات الحوار:كان لا بدّ من صوت صارخ يمثِّل الأزهر المؤسّسة الهامّة في الوطن، ليقول كلمة الحق في أدب الاختلاف، وأخلاقيّات الحوار. فعالمنا اليوم تتنازعه تيارات متطرِّفة، وآراء بعيدة عن واقع التعاليم الدينيّة المعتمدة من قبل المسيحيّين والمسلمين، بل هو منتهى التناقض لهذا الإرث المشترك، لأنّ الحضارة لم تُبْنَ على أكتاف طيف دون الآخر، والكلّ ساهم في بنائها، وصان أركانها، ونشر أسهاماتها، لهذا لا يمكن أن تكون الحضارة حكراً على أحد.
من هنا كانت المواطنة، المحور الأساس في العلاقات بين أبناء الوطن الواحد. ومن أجل صيانة المواطنة كقيمة أساس في المجتمع، أكّدت الوثيقة بالالتزام بمنظومة الحريّات الأساسيّة في الفكر والرأي، مع الاحترام الكامل لحقوق الإنسان والمرأة، كلّ ذلك على مبدأ التعدديّة واحترام الأديان السماويّة. وهذا لا يتم إلاّ بالاحترام التام لآداب الاختلاف: لو شاء ربّكم لجعل النّاس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين (سورة هود11: 117)، ولو شاء ربّك لآمن مَن في الأرض كلّهم جميعاً (سورة يونس 10: 98)، وأخلاقيّات الحوار: لكم دينكم ولي دينِ (سورة الكافرون 119: 6).
وعلى هذا الأساس فالتنوير الفكري والوسطيّة في الإسلام، تنفيان التكفير والتخوين واستغلال الدين، واستخدامه لبعث الفرقة والتنابذ والعداء بين المواطنين.
إلى أين تتَّجه وثيقة الأزهر؟
كلّ وثيقةٍ تصدر عن جهةٍ ما، يكون لها هدفٌ، يتوخَّى من يقف وراءها، أن تترك أثراً في أوساطٍ تتعامل مع مضمون هذه الوثيقة، فالفريق العربي للحوار العربي الإسلامي – المسيحي مثلاً، أصدر وثيقتين الأوّلى بعنوان: الاحترام المتبادل بين أهل الأديان، والثاني بعنوان: الحوار والعيش الواحد.
وكلتا الوثيقتين تؤكِّدان الالتزام بـ: الهُوِّية الوطنيّة، وأنَّ الانتماءات المتعدِّدة بالأديان والمذاهب والعقائد هي الأساس لوحدة المواطنين، والاحترام للخصوصيّات الدينيّة والثقافيّة لكلِّ طيفٍ منهم.
أمّا وقفة حق، التي صدرت عن رؤساء الكنائس في القدس، فكانت صرخة الأمل في الأيّام الصعبة التي عاشتها الأراضي المقدَّسة بمواطنيها من كلّ الأطياف والشرائح، وهي الأخرى أشارت إلى بعض علامات الرجاء خاصّةً عندما وجهت الرسالة للمسلمين بقولها: رسالتنا لكم هي رسالة المحبة، وعيش مشترك، ودعوة للتخلص من التعصب والتطرف وللعالم.
هذه الوثيقة: وقفة حق، قالت: أنّ المسلمين ليسوا هدف قتالٍ أو عنوان إرهابٍ، بل هم هدف سلام وعنوان حوار. ووثيقة الأزهر تتجه إلى نفس المنحى لأنّها تتوخَّى بناء الجسور بين الأشقاء العرب، والمحيط الإسلامي، والدائرة الأفريقيّة، ثمّ كلِّ العالم، ويبقى الهدف الأساس الحماية التّامة، والاحترام الكامل لدور العبادة لأتباع الديانات السماويّة الثلاث، وضمان ممارسة الحرّية لجميع الشعائر الدينيّة دون أية معوِّقات، واحترام جميع مظاهر العبادة بمختلف أشكالها والحرص التّام على صيانة حريّة التعبير، كلّ ذلك في إطار منظومة القيم الحضاريّة الثابتة.
عسى أن يوفِّق الله هيئة الأزهر لتحقيق السّلام والعدالة في المجتمع.